تعرقلت الطوباويّة في كل يومٍ تواصلت فيه ثورات الوطن العربيّ. على نتوء العمل السياسي تكسّرت معطيات المطلق. وكانت القضيّة الفلسطينيّة معطى آخر يتدلّى من سموّ الرمزيّة إلى طبوغرافيا العمل: منحدرات إذلال وقمع تحت راية مقاومة إسرائيل، ومرتفعات أظهرت القضيّة الفلسطينية كجزء لا ينفصل عن وجدان الشعوب وتوقها للحريّة. أثّرت فلسطين على تعرّجات الثورات العربيّة وتأثرت منها، وتجادلت مع أسئلة الديمقراطيّة على المستوى الفكريّ. وعلى المستوى المادي، حمل الموقف من فلسطين قيمة استراتيجيّة بميزان التحالفات الإقليميّة واتّجار التكتّلات الدوليّة بالثورات بيعاً وشراءً.
إلى حدٍ بعيد ظهر الوطن العربيّ ككتلةٍ واحدة تحت عاصفة من تحرّك المجتمعات للإخلال بالركود السياسيّ القائم. وقد بدت فلسطين على هذه الخارطة ككتلة أخرى، صغيرة وبعيدة، انفصلت فجأة عن أصلها. في الخطاب العربيّ ابتعدت فلسطين، لم تُنسَ ولم تٌغيّب، لكنها أصبحت ضميراً غائباً يُحال إليه في النقاش، توضع جانباً أو تُنصّب في قمّة الأولويّات.. لكنها لم تظهر كجزء عضويّ في الحفلة الصاخبة التي تعمّ الوطن العربيّ. هل تعكس هذه الصورة حقيقة الوضع؟ هل هناك اختلاف حقيقي بين ما حدث ويحدث في فلسطين مقابل ما حدث ويحدث في الأقطار العربيّة في الفترة ذاتها؟ فلنتفحص تشابك الاجتماعي بالسياسي لرؤية التشابه بين الحالتين، من هذه الزاوية تحديداً.
الدولة بين الوطن والنظام
أصل تخيّل فلسطين على أنها بعيدة عن العمليات الجارية في الوطن العربيّ، يكمن في وجهة نظر تقول باختلاف جذري بين النضال ضد إسرائيل والنضال ضد الأنظمة العربيّة، إذ تَعتبر الأوّل صراعاً وجودياً مع الاستعمار بينما الآخر صراعاً مدنياً ضد أنظمة قمعيّة. الأوّل صراع ضدّ وجود الدولة، والثاني صراع ضد نظام غير متفَقٍ عليه لدولة متفق عليها. هذا التمييز بين الحالتين يستند إلى تحليل يرى إمكانيّة فصل النظام عن الدولة، فيصبح مفهوم الدولة أكثر قرباً إلى مفهوم الوطن، كحافظة للسلم الأهلي والتوازن الاجتماعي بغض النظر عن نظام إدارتها، وهو تحليل جذره في التوق العربيّ للدولة في مرحلة مقاومة الاستعمار الأوروبي للوطن العربي، بغض النظر عن نظامها. من جهةٍ أخرى، هناك رأي آخر يكمن في اعتبار الدولة في بلداننا منتوج نظامها أو حصيلة ممارساته، أي أن الدولة إسم فعلٍ للنظام، بالتالي فهي أقرب إليه لا للوطن، وانهيارهما هو انهيار واحد بينما تبقى الأرض ويبقى الناس مكانهم في وطنهم. بل أنه في فلسطين، فانهيار النظام والدولة شرط لبقاء الناس والأرض.
خطوط التشابه كثيرة بين فلسطين وبين الظروف الاجتماعيّة للشعوب العربيّة عشيّة ثوراتها. في فلسطين، وصل القهر الى ذروته بينما منظومة العمل السياسي التقليديّة المعارضة للاستعمار الصهيوني راكدة ساكنة، وهي مشغولة بذاتها إذ تتعرّض فعلاً للملاحقة، فيتحوّل حفاظها على نفسها إلى هدفٍ بحدّ ذاته، وتضطّر بذلك في أحيانٍ كثيرة إلى خفض سقف عنفها في مواجهة النظام الاستعماري. وتحضر طبقة وسطى غير ضيّقة، والأهم، أن رقعة التواصل المعرفي عبر التوفّر التكنولوجي آخذة بالتوسّع لتتعدّى حدود الطبقة الوسطى، وتتغلّب على العائق الماديّ في الوصول لمصادر المعرفة، فتدفع بشرائح اجتماعيّة دون الوسطى للانخراط بالحراك السياسي الذي يستبدل المنظومة الحزبيّة التقليديّة المعارضة: لا يعاديها ولا ينفيها، لكنّه يعمل بموازاتها، وأحياناً تنضم إليه وينضم إليها، لا يلفظ العاملين فيها، لكنّه لا يقبل الخضوع لشروطها. في فلسطين أيضاً أنتجت الظروف الموضوعيّة، وعلى رأسها اتساع مصادر المعرفة لتتجاوز الحواجز الماديّة، شريحة طلائعيّة جديدة هي شريحة الشباب التي استبدلت عناوين أخرى للشرائح الطلائعيّة كالطلبة الجامعيين مثلاً. وهذا معطى أساسي لا يمكن تجاهله في الوطن العربي.
سلطة اللاسلطويّ وموت البطل الذي لا يموت
في فلسطين أيضاً مات البطل. لا قائد للثورة ولا أب روحيّا. هذه مرحلة ثوريّة مهما اختلفت أدوات تخليدها، فلن يكون "البورتريه" واحداً من هذه الأدوات. ومثلما في الأقطار العربيّة، يتحوّل البطل الأب في معظم الأحيان إلى أداةٍ للثورة المضادّة تُستخدم لتأبيد مرحلة تاريخيّة تصممت فيها البنية السياسيّة القائمة التي تسعى الثورة المضادة لإعادة تثبيتها مقابل ما يُراد وصفه بـ "الفوضى" التي يَدفع بها شباب "لا يعرف ما يريد، لا يحدد مطالبه، ولا يقترح تصوراً أو نظاماً بديلاً، بل يطالب بإسقاط النظام فحسب". وهذا التوصيف الأخير الذي يُطرح من قبل ممثلي البنية القائمة (ليس دائماً، فهو أحياناً يُطرح بطيب نيّة)، يحيلنا إلى تشابه آخر بين النزعة اللاسلطويّة واللامركزيّة للحركات الشبابيّة في فلسطين والوطن العربيّ، نزعة لا يُفصح عنها المناضلون (أو لا يتنبّهون إليها) ومن ثم يتفاجأون بأنهم لا يحرزون سيطرة على السلطة.
جندرياً، تتشابه الحركة الاجتماعيّة - السياسيّة في فلسطين مع الأقطار العربيّة في تغيير على السطح بما يتعلّق بمشاركة المرأة في صناعة الحدث السياسي. التغيير على السطح - في صورة جذّابة لامرأة مسنّة تقذف الحجارة أو طالبة جامعيّة تصفع جندياً، بينما لا زال الرجال هم العصب المركزيّ ليس فقط في المنظومة السياسية التقليديّة بل أيضاً في صناعة السياسة الجديدة، من حركات شبابيّة وتنظيمات لا مركزية. كما لا تزال الخشية قائمة عند الثوريين من نفض الغطاء الذكوريّ عن المجتمع خوفاً من ضرب المد الجماهيري في الأحياء الشعبيّة والقرى، ومهادنةً للحركات الإسلاميّة التي تضرب جذورها في العمق الاجتماعي. وفي فلسطين كما في الوطن العربيّ، تتم محاربة الإسلام السياسي ويلفظه اليسار من المشاركة السياسية، بينما يهادن ذلك اليسار ذاته الاسقاطات الذكوريّة لهذه الحركة السياسيّة على المجتمع، رغم أن العكس هو الأوجب.
الثورة العربيّة الكبرى... والمضادّة
ومن جهة الثورة المضادّة أيضاً، تحمل اللحظة التاريخيّة الحاليّة الكثير من التشابهات الاجتماعيّة - السياسيّة التي تنسجم مع كل ما يحصل في الوطن العربيّ.. حتى وإن كان التعبير عينياً لا يلائم ويطابق الحالة الفلسطينيّة، إلا أن محاولة القوى الرجعيّة تقويض النضال وفرض شروطها وسلطتها وسطوتها على المجتمع، (ضدّ ما يحاول الأخير نسجه من تغيير سياسيّ) تتشابه إلى حدٍ بعيدٍ مع الثورات المضادّة في الوطن العربيّ. والثورة المضادّة قلّما تعرض نفسها مضادةً، فهي غالباً ما تلبس الزيّ نفسه، تتحدث بلغة الثورة، ترفع شعاراتها وتنقضّ عليها في الوقت ذاته.
إن المطروح ها هنا بدايةً حول ارتباط الدولة بالنظام، يحضر في الحالة الفلسطينيّة بقوّة إذ تلبس الثورة المضادّة للثورة الفلسطينيّة على الاستعمارّ، زيّ وقناع "الدولة الفلسطينيّة في حدود 1967". أي أنها تستبدل الثورة لإسقاط النظام العنصري الاستعماري الصهيوني كاملاً بندائها لتحصيل وإدارة وقيام الدولة بشروطٍ لا علاقة لها لا بالحقّ ولا بالعدالة ولا بالأخلاق. سلطة تتعاون وتنسّق مع الاستعمار (النظام الذي تقوم الثورة ضده) وتخدم مصالحه. الثورة المضادّة في فلسطين كما في الوطن العربي تهدف لإعادة انتاج وضع سياسي يحفظ "توازناً" مجحفاً وقمعياً تطعن به الثورة وتخرج عليه. السلطة الوطنية الفلسطينيّة قائمة على حاجة الاستعمار لا على نفيه، على اتفاق مع الاستعمار لا على صراع معه، ترفع شعار الحفاظ على احتماليّات نيل الاستقلال والدولة الفلسطينيّة كبديل للنضال ضد نظام عنصريّ يرى بدولة إسرائيل ونظامها واحداً لا ينفصل، فيتخلص من كلاهما إصلاحاً للغبن التاريخيّ.
تماماً كما تقنّعت كل الثورات المضادّة بالحفاظ على الدولة (كأنه معادل الحفاظ على الوطن)، تحاول دولة أوسلو أن تتسوّل دولة بدلاً من أن تخرج على غبنٍ تاريخيّ حتى تسقطه، وتناطح وتصرع النظام الصهيوني الذي هو مُسمى لصنف من أصناف الأنظمة الفاشيّة، كما هي النازيّة اسم لفاشيّة ما، كما كانت الفاشية الاسبانيّة أو فاشية أميركا اللاتينية...
سلطة أوسلو هي الحركة الموازية للثورة المضادّة في الوطن العربيّ. ومثلما في مصر تعيّش على أمجاد العسكر الماضية، في فلسطين تعيّش على أمجاد فتح الماضية. ومثلما يُستغل تقدير الناس لعبد الناصر من أجل تخليد دولة العسكر، يُستغل تقدير الناس لعرفات لتخليد موقف أوسلو.
ضرورة التشابه
إن توصيف هذه التشابهات لا يأتي فقط من باب مقاربة الحالة الاجتماعيّة في فلسطين. لكنّه ضروريّ لتبيان طبيعة الاعتقاد الشائع بأن نزع فلسطين وإبعادها عن الحالة العامّة العاصفة في الوطن العربيّ صون لها، بينما هو انتصار لمشروع (سيُخفق!) بفصل فلسطين عن محيطها، وتمكين الوجود الصهيوني من خلال خطف الواقع الفلسطيني من مجاله العربيّ الطبيعيّ وخنقه. هل كانت فلسطين بعيدة عما عمّ ويعمّ الوطن العربي؟ بالمسميات فقط، لكن نقاط التشابه كثيرة بالواقع، من حيث الملامح الاجتماعيّة للحركة السياسيّة ووسائل النظام القمعي، حتى وإن كانت الثورة في فلسطين ضد الصهيونيّة تتقلّب تحت رماد، تخبو وتشتعل بوتيرة محكومة بقدرة المجتمع على الصمود.
قبل سنة تقريباً، خرج الشباب الفلسطيني في الداخل ضد مخطط "برافر" لتهجير أهالي النقب. كان العشرات من الشابّات والشبّان يتظاهرون قُبيل مظاهرات "يوم الغضب"، وكان جزء من العاملين في الأحزاب السياسيّة التقليديّة يسخرون من هتافات الشباب التي وصفت "يوم الغضب" بالثورة ودعت الشباب "ثواراً". كانوا يتحدّثون عن ثورةٍ حقيقيّة ساخرين من جيلٍ "لا يفهم بالثورة الحقيقيّة". وهم من المؤكّد يعتبرون بأن ما يحدث في فلسطين لا علاقة له بالثورات، بل أن جزءاً كبيراً لا يعتبر ما حدث في الوطن العربيّ ثورة، وإنما هو جزء من مؤامرة كونيّة. أما شرائح واسعة من الشباب الفلسطيني فتؤمن بأن الثورات العربيّة، حتى وإن تعثّرت أو قُتلت، لا بد أن تنفض الرماد، لو توفر شرط واحد وبقي حياً: سعينا لتحقيق أحلام اليقظة التامّة، الخيال العقلانيّ، ورفض أي فهمٍ للتغيير السياسيّ من دون تغيير في بنية المجتمع. السياسة الرجعيّة هي السياسة الممنوعة عن المجتمع. هي سياسة الدبلوماسيين والخبراء والربح والخسارة، بينما نحن نبحث عن سياسة تنطق بالحق.. بالعدالة.