يوم 23 حزيران/يونيو 2015، هاجمت مجموعة من الشباب السوريين الدروز سيّارة إسعاف إسرائيليّة تنقل جريحين من مقاتلي جبهة النصرة إلى أحد المستشفيات الإسرائيليّة. أبناء قرى الجولان المحتلّ اعترضوا سيارة الإسعاف واقتحموها، أعدموا الجريحين ثم فرّوا تاركين الجنود الإسرائيليين بخيرٍ وسلامة. قبلها بأيّام قليلة أُحرقت كنيسة "الطابغة" الكائنة على ضفاف بحيرة طبريّا. أُضرمت النار في واحدة من أقدم وأهم كنائس فلسطين على يد مجموعات صهيونيّة. حادثان منفصلان إلا أن بينهما قواسم مشتركة لا يُمكن تجاهل دلالاتها حول علاقة فلسطين الوطيدة والعضويّة بما يحدث في الوطن العربيّ.
في الحالتين، طاف تسييس الطائفة من العمق إلى السطح، بمعنى تركّز كلّ النقاش السياسي في نقاش داخليّ بين أبناء الطائفة الواحدة حول الصحيّ لطائفتهم أولاً، بحيث تكون اعتبارات الانتماءات الوطنيّة والسياسيّة المختلفة مجرّد عوامل خارجيّة مؤثّرة، وليست عموداً فقرياً في الجدل. في الكنيسة، اتفق الجميع على أنّ إحراق "الطابغة" على يدّ الإسرائيليين هو جزء من الجرائم المتسلسلة بحق مسيحيي الشرق في السنوات الأخيرة، لا جزء من الجرائم الحكوميّة والفرديّة المتسلسلة بحقّ كل من هو فلسطيني منذ العام 1948 وحتّى اليوم. أما إعدام جرحى "النُصرة" فأتى من اعتبار أوتوماتيكيّ بأن الحرب التي يخوضها الدروز في سوريا هي حرب كلّ درزيّ أينما كان. وعلى هذا الإدعاء الأخير قد يكون الاعتراض بأنّ "دروز الجولان يناضلون ضدّ جبهة النصرة باعتبارهم يدافعون عن النظام السوريّ أولاً"، بينما الحقيقة أن هذا الهجوم لم يأتِ إلا بعد أن ارتكبت جبهة النُصرة مجزرتها الدموية في قرية درزية من إدلب واندلعت على اثرها موجة احتجاجات عارمة في القرى الدرزيّة داخل إسرائيل، وذلك مع العلم أنّ نقل الجرحى السوريين إلى إسرائيل، ومن بينهم مقاتلو الجيش الحُر أو جبهة النصرة، مستمرّ منذ بدء المعارك. كذلك يجب التذكير بأن عمليّة الإعدام هذه لم تكن ممكنة من دون التنسيق مع جنود من دروز الجليل يخدمون في الجيش الإسرائيلي ويعرفون تحرّكات آليّاته في منطقة الشمال، على شاكلة حالات التنسيق (كُشف منها العشرات) بين قيادات في الجيش الإسرائيلي ومجموعات المستوطنين في الضفة الغربيّة.
تعددت الانتماءات.. والطائفة واحدة!
يعيش في الأراضي المحتلّة عام 1948 أكثر من 120 ألف فلسطيني درزيّ، إلى جانبهم نحو 20 ألف سوريّ درزيّ تحت الاحتلال. الفرق الشاسع ذاته في التعداد، يوازيه فرق شاسع من حيث الولاء السياسيّ. فبين العلاقة الوطيدة للدروز الفلسطينيين بإسرائيل (وهي مركَّبة وشائكة ولها أسبابها الكارثيّة)، وعداء الدروز السوريين لإسرائيل، فجوةٌ هائلة مسكوت عنها.
دروز فلسطين فُرضت عليهم الخدمة العسكريّة في الجيش الإسرائيلي عام 1956، وقد استغلّت إسرائيل العداء الذي استمر لسنوات طويلة قبل النكبة بين المسلمين والدروز في قرى متجاورة في الجليل والكرمل (وهو بحصته الكبرى إجحاف وظلم بحق الدروز)، وعقدت إسرائيل صفقات مع قيادات دينية ذات نفوذ وأرست سلسلة من السياسات التي سلخت الطائفة الدرزيّة عن مجتمعها الطبيعي: منهاج تعليميّ خاص بالدروز، تعامل مع السلطات المحليّة الدرزيّة بشكل خاص، وكذلك إطلاق يد أغلبيّة الدروز في حمل السلاح بشكلٍ مرخّص والتدريب العسكريّ من خلال الجيش الإسرائيلي.. لحماية أنفسهم. ذلك، طبعاً، لم يختصر أي شيء من الممارسات الإسرائيليّة العنصريّة بحقّهم، خاصةً بما يتعلّق بمصادرة الأراضي (أكثر من 83 في المئة من أرضهم صودرت)، وسياسات الإفقار (60 في المئة منهم خارج نطاق قوّة العمل) والتجهيل. بين اليهود، ثم المسلمين والمسيحيين والدروز في فلسطين، تُعد الطائفة الدرزيّة الأضعف من حيث التحصيل العلمي: فقط 44 في المئة حاصلون على شهادة الثانويّة العامّة. وبينما لا يتابع التعليم العالي إلا قلة قليلة من أبناء الطائفة، وتنسدّ آفاق التطوّر الاقتصاديّ، فيُصبح التقدّم في الوظائف العسكريّة عبر الانسجام كلياً في الأجهزة الصهيونيّة هو الإمكانيّة الواردة الوحيدة "لتحقيق الذات".
أما دروز الجولان فكان انتماؤهم الوطنيّ لسوريا حاسماً في كلّ ما يتعلّق بعلاقتهم مع إسرائيل: رفضوا الجنسيّة الإسرائيليّة قطعاً، خاضوا ضدّها في شباط/فبراير 1982 ما عُرف بالإضراب الكبير الذي استمر لخمسة أشهر، وانخرط الجولانيّون، إما عبر النظام السوري أو عبر التشكيلات المحليّة، في المقاومة المسلّحة ضد الاحتلال الإسرائيليّ. اجتماعياً، حافظ دروز الجولان على علاقتهم بدمشق من حيث السماح للشباب بالخروج إلى سوريا للتعليم الأكاديمي. ورغم الانقسام الاجتماعيّ الحاد على أثر المواقف السياسيّة من الثورة السوريّة، التزمت الشرائح الأوسع بتوجّهات القيادة الدينيّة المؤيّدة لنظام الأسد لاعتبارات متعلّقة (أولاً، ثم تأتي التبريرات) بموقف القيادات الدرزيّة في سوريا.
المثير في هذا الشرخ الهائل على مستوى العلاقة مع إسرائيل، أنه سرعان ما يتحوّل إلى مجرّد خلاف في الأدوات من أجل هدفٍ واحد: حماية الطائفة. خلاف يحتدم تارةً ويلتئم تارةً، ويبقى في دائرة واحدة. فمن شباب الجولان من نفّذ جريمة الإعدام بتنسيقٍ مع شبّان دروز خادمين في الجيش الإسرائيليّ، إلى أصوات قيادات دينيّة درزيّة موالية لإسرائيل تناشد دروز الجولان "بعدم جرّنا للحرب"، ومن على المنصّة ذاتها يطالبون إسرائيل بالتدخل "لحماية الدروز"، ثم يقولون إن الشبّان الدروز الذين خدموا في الجيش الإسرائيلي مستعدّون للدخول إلى سوريا للدفاع عن الطائفة المستهدَفة، ويؤكّد نائب عربيّ درزيّ عن حزب "الليكود" الصهيونيّ الحاكم في الكنيست بأن "الطائفة جمعت أكثر من 10 مليون شيكل (2.7 مليون دولار) لشراء الأسلحة والاحتياجات الأخرى". أما في الجولان، فيتهمون إسرائيل بتحالف استراتيجيّ مع جبهة النصرة يروح ضحيّته الأخوة الدروز في سوريا. في هذه الدائرة تعوم الخلافات.
وإن كانت الحالة أقل عنفاً، يبقى مبدأ التعامل مع قضيّة إحراق الكنيسة هو ذاته كما في حالة الإعدام. الخلاف بين المسيحيين المؤيدين لإسرائيل ــ وهم قلّة يقودها مأجورون يدعون لسلخ المسيحيين عن المجتمع العربي باعتبارهم ينتمون للقوميّة الآراميّة! ــ وبين أولئك الذين يحمّلونها مسؤولية الجريمة كان بمعظمه خلاف على من يتحمّل مسؤوليّة حماية الطائفة وأملاكها. تظاهرات حاشدة خرجت تحتج على حرق الكنيسة، تظاهرات لم تطغ عليها إلا الأعلام الصفراء والبيضاء: عاش الفاتيكان!
منطق حرب الأُمراء والدولة الحديثة
حادثة إعدام جرحى النُصرة وما تبعها من نقاشات رفعت إلى السطح في فلسطين وضعاً يعمّ الوطن العربيّ بأسره: غياب جامعٍ وطنيّ (دولة وطنيّة أو حركة تحرر وطني) يُحوّل الطائفة إلى كيان سياسيّ قائم بحدّ ذاته يتساوى مع وجود الدولة. همّ أمن الطائفة يُبدّل هم الأمن القوميّ، الهويّة الدينيّة تُبدّل المواطنة، الشريعة تُبدّل التشريع.. وحين تستخدم المقاطعة الاجتماعيّة أو تجمع الأموال لشراء السلاح علناً، تحوّل الطائفة أدوات عنفها إلى أدوات العنف الشرعيّة حتّى بوجود دولة، بغض النظر إن كانت وطنيّة أم استعماريّة. لا نقاش أبداً بأن الطائفة فوق الدولة، إنما النقاش حول مكْمن مصلحة الطائفة في التعاطي أو عدم التعاطي مع الدولة. وهذه كلّها خصائص حالة نشوء كيانات سياسيّة بديلة عن الدولة الوطنيّة، كيانات سياسيّة طائفيّة ليست بحاجة إلى حدود ولا إقليم لتحكمه حتّى تتصرّف كسيادة ودولة.
ومع هذا، يتمسّك البعض بتفسير الواقع الجديد بالأدوات القديمة. مثالاً على ذلك نقرأ موقف محمّد نفّاع، الأمين العام للحزب الشيوعي داخل الأراضي المحتلّة عام 1948، الذي صرّح لموقع "بُكرا" الإخباريّ في فلسطين أن "العناصر السلطوية في الطائفة الدرزية إما نّها لا تعي ما يدور حولها او انّها غير مستوعبة للمخطط القديم لإقامة دويلة درزية في سوريا، المخطط الذي أفشله في حينه كمال كنج وكمال جنبلاط، وهذا المخطط يحاولون إحياءه من جديد". أكيد أن دوافع نفّاع بعيدة كل البعد عن أي اعتبارات طائفيّة، ولكنّها من جهةٍ أخرى تمثّل توجهاً إشكالياً واسعاً في الحركات الوطنيّة، يعرضه نفّاع بهدوءٍ خلافاً لطريقة الآخرين في عرضه عبر المنابر غير الرسميّة بأعنف الصور الممكنة. ولكنّه توجّه إشكاليّ ساهم إلى حدٍّ كبير على صعيد فكريّ ومعنويّ بالوصول إلى أزمتنا اليوم.
هو توجّه جازم بوجود مخطط غربيّ لتقسيم سوريا إلى دويلات طائفيّة متصارعة. قالوا ذلك منذ اليوم الأوّل للثورة السورية. ثمّ نشروا الخرائط على الإنترنت. لوّنوا الدويلات وفضحوا المخطط في مشاهد تستحضر بقوّة إحدى شخصيّات "فيلم أميركي طويل" المهووسة بكشف المؤامرة كحقيقةٍ سياسيّةٍ مُطلقة ذات وجهٍ واحد. هذا الوجه الواحد للحقيقة السياسيّة، الحقّ المطلق لطرف مقابل مؤامرة كونيّة هو حجر الأساس في حالة سياسيّة ليس التعصّب فيها ظاهرة إنما هو جوهر. فهم يعرفون بكلّ شيء: خبراء بالعسكر وبالجغرافيا، خبراء بالتسلّح والعلاقات الدبلوماسيّة الخليجيّة ودهاة استراتيجيا. السياسة بمضمونها الفحولي الذي يحمل بالضرورة رغبةً بإشهار القسوة والساديّة في الحرب نصرةً لطرفٍ مُطلق الحقّ، كما يليق برجالٍ "يدوسون مشاعرهم" ويقولون بثقة: "نعم، براميل، وكيماوي، نعم!" لكي يواجهوا قطع الرؤوس الدمويّ الذي يمارسه داعش..
حروب الرجال: سياسة دون مجتمع
هؤلاء (وليس المقصود شخص نفّاع أبداً)، يعرفون السياسة بمضامينها العسكريّة، المخابراتيّة والمؤامراتيّة، أو على الأقل يتظاهرون بذلك. يتحدّثون عن سيادة الدولة الحديثة بيد أنهم ما زالوا يقرأون الحاضر بمنطق حرب الأمراء والممالك التي تبقى فيها المجتمعات والناس مجرّد حشرات، أرقام، تُباد تارةً وتُستخدم تارةً لأجل انتصار السيادة. وتحت هذه السطوة الفارغة تنعدم السياسة التي تستقي قصّتها ودلالاتها من المجتمع بتركيبه الديني والطبقي والجندري وغيرها من المركّبات التي تتأسس عليها بُنى القوّة والقمع (تماماً كما تجاهلنا كلياً تركيب الحالة الدرزيّة داخل إسرائيل).. سياسة تضرب بعرض الحائط موقعها في التاريخ لتتجاهل كلياً ما وصلت إليه المجتمعات من أدوات معرفةٍ واتصالٍ حديثة، وما وصل إليه العالم من أعرافٍ كونيّة لم يعد لا من الممكن ولا من الصحيّ تجاهلها. يتركون السياسة المركّبة بماهيّتها، وينظّرون حول السياسة المحبوكة بفعل فاعل. وبينما هم يراقبون تمدد داعش على الخارطة، ويلوّنون خرائطهم بألوان الدويلات ليثبتوا صحّة نظريّاتهم، يتحقق التقسيم الحقيقيّ لدول الطوائف ككيانات سياسيّة. مشروع التقسيم الحقيقيّ مفروش أمامنا، ليس على الخريطة، إنما في المجتمعات التي يرفضون التحديق فيها. الطوائف تعمل وتتضامن يومياً بمنطق الكيان السياسي الواصل، من فلسطين إلى سوريا ومن العراق إلى مصر ومن اليمن إلى لبنان.
إن الاختلاف بين مصطلحَي "الكيان الصهيوني" و "دولة إسرائيل" هو اختلاف اصطلاحي من حيث دلالته على الاعتراف بشرعيّة الوجود، لكنّه لا يحمل بالحقيقة أي اختلافٍ من حيث فعله بالواقع. الكيانات السياسيّة الطائفيّة قائمة، وفي صفاتها عوامل جوهريّة في تعريف الدُول. في العام 2011، هناك من أخفق في فهم اندفاع الثورات العربيّة من قطرٍ عربيّ لآخر، بما في ذلك سوريا، على أنه نموذج بهيّ حقيقيّ للوحدة العربيّة – وحدة شعبيّة وثوريّة مدفوعة من قيم التحرر والكرامة والعدالة، وتعتمد على وعي ضمنيّ للمصير وللتاريخ المشتركين، وهو وعي ينتج وحدةً في تحريك الحاضر. ومن فشل بفهم الوحدة في حينها، يفشل اليوم في أن يميّز تحقق التقسيم الأليم الذي تحوّل إلى حقيقة تامّة، حتّى وإن لم يظهر واضحاً على الخريطة.