قد يبدو "السيّاب" صائباً وهو يتحدث عن السكينة التي احتوت "جيكور"، القرية البصْرية الصغيرة التي ولد وتربى فيها. صائب إذا ما صنفنا الموت كوجه من أوجه السكينة. وهي كذلك، ميتة كموت أُمها البصرة التي خفَتَ نبضُها مذ بداية العقد الثامن من القرن العشرين، حين اشتعلت حرب السنوات الثمان مع إيران وكانت البصرة في مواجهة لهيبها. ولم تكن السنوات التي لحقت تلك الحرب تتيح استشفاءها، فأمعنت "عاصفة الصحراء" 1991 وما تلاها بتدميرها، وهكذا أخذت الحياة تجرّها نحو انحدار متواصل، محتفظةً بندوب كل خطوة فيها.
لم تحمل سنوات ما بعد الغزو الأمريكي للعراق 2003 نبأً جديداً للبصريين. فبقي نصيبهم هو ذاته، سنة تلو الأخرى وحكومة تلو حكومة: خراب مضاعف. ما حملهم في صيف 2018 إلى انفجار غير مسبوق، فتدفقوا إلى شوارع محافظتهم محتجين على سوء الخدمات، وتراجع فرص الحياة الكريمة مقابل صعود أسباب الموت التي كان بمقدمتها عدم صلاحية مياه الشرب للاستخدام البشري، الذي تسبب بآلاف الإصابات بالتسمم.
الصيف.. أرض التظاهرات الخصبة
العنف والقمع والملاحقة والاعتقال، بالإضافة للوعود الخاوية، هي أسلحة تكميم التظاهرات البصْرية. وهو ما خنق تظاهرات بدأت تلوح في أفق هذا الصيف الذي تصل درجات حرارته، كما دائماً، إلى نصف درجة الغليان. ولكن ما الذي يضمن عدم اشتعالها مرة أخرى؟ ومن الذي يضمن انطفاء جمرات صيف 2018؟ وحينها لن تكفي مياه شط العرب أو الخليج لإخمادها.
انطلقت في حزيران/ يونيو 2019 تظاهرات عدّة، تمت مواجهتها بالقوة الشديدة، وملاحقة المتظاهرين واعتقال الناشطين منهم. وفي أقصى درجات التكميم، ظهر قائد عمليات البصرة بمقطع مصور يهدد الإعلاميين والصحافيين بالاعتقال ويحذرهم من تغطية التظاهرات.
فقد بَدَتْ تظاهرات البصْريين في 2018 أكثر جرأة من غيرها في المحافظات الأخرى، وصارت دافعاً لبقية العراقيين في ذلك الصيف اللهاب. هم اقتحموا مجلس المحافظة وأحرقوه، توجهوا لمقرات الأحزاب الشيعية المشاركة في العملية السياسية، والتي تعتمدهم كجمهور لها فأضرموا بها النار، وامتد غضبهم ليحرق مبنى القنصلية الإيرانية احتجاجاً على تدخل النظام الإيراني ورعايته أحزاب سلطة المحاصصة.
الموت في حديقة ملؤها الحياة
تطل البصرة (529 كلم جنوب بغداد) على الخليج العربي، بساحل إلى جنوبها طوله 60 كلم، وهو المنفذ البحري الوحيد للعراق، تتوزع عليه ستة موانئ، منها اثنان نهريّان على شط العرب الذي يصب في الخليج.
ويسكنها نحو 3 ملايين نسمة، يعتلون أرضاً تطوف فوق بحر من النفط. ففي البصرة 15 حقلاً نفطياً معروفاً، منها 10 حقول منتجة وخمسة بانتظار تطويرها. وتحتوي هذه الحقول احتياطياً نفطياً يقدر بأكثر من 65 مليار برميل، أي نسبة 59 في المئة من إجمالي الاحتياطي النفطي العراقي.
تسجل محافظة البصرة نحو 800 حالة إصابة بالسرطان شهرياً حسب المفوضية العليا لحقوق الإنسان. وتعزو المفوضية ذلك لعدة أسباب: "الملوثات البيئية سواء في الهواء كتلك المتمثلة باحتراق النفط، أو في الماء والتربة، وآثار الحروب" والنسبة الأكبر من الإصابات هي من نصيب الأطفال.
تركت حرب عقد الثمانين الفائت، وحرب الخليج الثانية في البصرة ندوباً ينميها الزمن تتمثل بالمواقع التي تعرضت للقصف ولم تتم معالجتها حتى الآن، وخصوصاً تلك المواقع التي استقبلت الصواريخ الأمريكية المحشوة باليورانيوم المنضب عام 1991.
تسجِّل محافظة البصرة نحو 800 حالة إصابة بالسرطان شهرياً حسب المفوضية العليا لحقوق الإنسان. وهي تعزو ذلك لعدة أسباب: "الملوثات البيئية سواء في الهواء كتلك المتمثلة باحتراق النفط، أو في الماء والتربة، وآثار الحروب"، والنسبة الأكبر من الإصابات هي من نصيب الأطفال.
في جلسة للبرلمان العراقي عقدت بتاريخ 20 أيار/ مايو 2019، تمت مناقشة الواقع البيئي لمحافظة البصرة، وكشف آنذاك النائب عن المحافظة، فالح الخزعلي، عن مجموعة من أسباب تلوث بيئة المحافظة، جاء فيها أن في البصرة 18 موقعاً ملوثاً إشعاعياً لم تُعالج حتى الآن، وفي البصرة أيضاً مليار و300 مليون متر مربع غير مطهر من المخلفات الحربية. وتطرق النائب إلى مجموعة أخرى من المسببات من أبرزها الغاز المنبعث على إثر عمليات الاستكشاف والاستخراج النفطي.
نموّ دوافع الاحتجاج
كل ما تقدم ومساوئ أخرى، كغياب فرص العمل وتردي الواقعين الصحي والتعليمي، تدفع البصريين للانفجار الصيفي. ولم تسجل هذه القطاعات تحسناً يذكر حسب مواطنين في المحافظة. فتحركوا في حزيران/ يونيو 2019 في تظاهرات عدّة تمت مواجهتها بالقوة الشديدة، وملاحقة المتظاهرين واعتقال الناشطين منهم. وفي أقصى درجات التكميم، ظهر قائد عمليات البصرة على إثر إحدى تلك التظاهرات بمقطع مصور يهدد الإعلاميين والصحافيين بالاعتقال، ويحذرهم من تغطية التظاهرات، ليتراجع عن تصريحه هذا بعد حملة شنها مدونون وصحافيون.
اتخذت الحكومتان المحلية والمركزية اجراءات، ترفع الاستعداد الأمني.. لمواجهة التظاهرات المحتملة لا لمواجهة الانفلات الأمني الذي تعانيه المحافظة. وهو انفلات تبدؤه ميليشيات ولا ينتهي بسلاح العشائر.
وما تصريح قائد عمليات البصرة إلا امتداد لإجراءات اتخذتها الحكومتان المحلية والمركزية، ترفع الاستعداد الأمني، لمواجهة التظاهرات المحتملة لا لمواجهة الانفلات الأمني الذي تعانيه المحافظة. الانفلات الذي تبدؤه ميليشيات ولا ينتهي بسلاح العشائر، والذي كانت آخر صوره تفجير ثلاث عبوات ناسفة على رتل لشاحنات حمل تابع لشركة كويتية في منطقة صفوان، والذي اعتبرته مصادر أمنية في المحافظة جزءاً من عمليات الابتزاز التي تتعرض لها شركات أجنبية.. وسبق لشركات أخرى، من بينها "إكسون موبيل" الأمريكية، وأن تعرضت مواقعها لقصف بقذائف الهاون.
وتتغذى الاحتجاجات في محافظة البصرة على قوتٍ آخر غير خرابها، يتمثل بفكرة إنشاء "إقليم البصرة"، الحل الذي اعتُمد دستورياً كمخرج مُرضٍ لمسألة الأكراد في الشمال، لا كحالة محتمل تطبيقها في محافظات أُخرى. غير أن البصرة تجرأت لتضع بغداد أمام حرج منح هذا "الحق"!