أبت غزّة إلا أن تكون عنواناً للظرف التاريخي القائم في فلسطين. نشعر هنا كأن الأرض تتحرّك تحتنا، ويُكسر جليد الرّكود. ما يبدّل هذا العدوان عما سبقه، أن غزّة ليست المتغيّر الوحيد، وإن كانت الأصعب. ليست غزّة عنواناً لنفسها هذه المرّة، إنما طليعة نار تعمّ فلسطين بأشكالٍ متفاوتة وشدّة متباينة، وتغيير اجتماعي قبل أن يكون سياسياً، بدأ يظهر. لذلك، وغزّة هي العنوان، عليها أن تكون مدخلاً لأسئلة اجتماعيّة وثقافيّة وسياسيّة لا تعنيها فقط، بل تعني كل فلسطين.
أقول مثلما يقول الكثيرون: لا مجال للكتابة عن غزّة أمام هذه المشاهد الدمويّة. نشعر بالعجز عن الوصف أو التحليل. فكل تحليلٍ سياسي لمجزرة مثل تلك التي ارتُكبت في الشجاعيّة يُصبح تافهاً وغبياً إذ يحاول فذلكة أكثر الأمور بديهيّة: غريزة الانتقام الوحشي الإسرائيليّة التي لا علاقة لها بالعقل. لكي نكتب عن الأمور، علينا أن نمسك ولو بطرف خيط عقلانيّ لها، ونحن الآن أمام مجزرة لا تمتّ للعقل الإنسانيّ بصلة.
لكننا من جهة أخرى نحدّق بإنجازات عسكريّة غير مسبوقة للحركات المقاوِمة. وهي مقاومة تعبّر بالأساس (وليس فقط) عن رفض الناس في غزة للتنازل عن مقوّم إنسانيّ أوليّ: ألاّ تموت قبل أن تقاتل لأجل الحياة. وهذه الجملة الأخيرة يُقترح استخدامها جواباً للسؤال عن معنى الكرامة. لكننا أيضا لا نستطيع أن نكتب عن المشهد المقاوم، رغم عقلانيّته وإنسانيّته، ليس لعجزٍ عاطفي ولا لانطفاء الفكر والسياسة أمامه كما الحال مع المجازر، بل لأسباب متصلة بقواعد هذه المقاومة وأسسها، وبالسياق التاريخي لتطوّرها.
العسكري والثقافي: المصالح المشتركة؟
الحقيقة أنّ الكتابة في فلسطين انفصلت عن القتال عند مفترق طرقٍ ذهبت فيه الثقافة إلى طريق والقتال إلى طريق آخر. فالعلاقة بين العملين الثقافي والقتالي لا تصلح إلا أن وجدت مصلحة مشتركة تهذّب التناقضات القائمة بينهما أصلا- بين عملٍ ثقافيّ جوهره أن يكشف، وعملٍ قتاليّ يعير للسرّ أهميّة كبيرة، بين عملٍ ثقافيّ محرّكه النقد وعمل قتاليّ ضمانه الطاعة والشغل في ظروف لا وقت فيها للسؤال.
منذ لحظتها الأولى، سجّلت العمليّة السلمية إنجازاً لمصلحة العدو، حيث أنها أدخلت حركة التحرر الوطني إلى فلك غربي استعماري واسع. احتوته في هذا الفلك، فعزلته عن منظومته القيميّة التي اعتمد عليها في السابق. أي أن العملية السلمية عزلت حركة التحرر الوطني عن منظومة مناهضة الإمبرياليّة في العالم أجمع. وتمثّل العزل القيمي بعزل تنظيمي أولًا، حيث فُصلت منظمة التحرير الفلسطينيّة عن غيرها من الحركات التحرريّة حول العالم، ثم تمثّل لاحقًا بعزلٍ جغرافي في الضفة وغزّة.
ولكن قبل هذا العزل، شكّلت المنظومة القيميّة التي تنتمي إليها حركة التحرر الوطني عامل قوةٍ ماديّة ومعنويّة، أغنت المقاومة الفلسطينيّة من حيث قدراتها القتاليّة ورسّخت وجودها في طليعة النضال العالمي للشعوب المضطهدة. وبين هذا الماديّ وهذا المعنويّة، كمنت المصلحة المشتركة بين العمل الثقافي والعمل القتالي، إذ أن المقوّم الفكريّ هو أصل وضمان العلاقة مع المنظومة القيميّة ومن ينتمي إليها من حركات تحرر حول العالم.
نعود للعمليّة السلميّة. عُزلت حركة التحرر عن منظومتها القيميّة أولًا، ثم دُفعت لحصارٍ داخل رقعةٍ جغرافيّة صغيرة في فلسطين لتحدّها إسرائيل من كل الجهات، ثم تورّطت بتحوّلها إلى سلطة. هنا رأت فلسطين مسارين للكفاح المسلّح. الأوّل هو ذاك المسار للمقاومة المرتبطة بالسلطة، وهي جهاز عسكريّ مصدر قوّته الماديّة تكمن في وجود فتح كسلطة فلسطينيّة، وكانت زعزعتها في حينه عملياً زعزعة للجهاز الأمني المُستعد للمقاومة (والذي لم تنته الانتفاضة الثانية إلى أن قُضي عليه)، بينما ضمان وجود السلطة لم يكن إلا بثبات المعادلة الدوليّة على ما هي، واستمرار مهادنة الدول الغربيّة وإدارة العلاقة معها ونيل رضاها، فاستبدل دور العمل الثقافي الضامن للعلاقة مع حركات التحرر العالمي بدور العمل الدبلوماسي المنسجم مع طبقة ماليّة فلسطينيّة، ليضمن العلاقات مع الأنظمة الغربيّة.
أما المسار الثاني فهو مسار المقاومة الإسلامية التي لم تجد في حينه (ولم تكن تبحث عنه) نفوذاً لها في السلطة، لأن مقاومتها اعتمدت في المادّي والمعنوي على قواعد شعبيّة واسعة من جهة، وعلاقات خارجيّة مع قوى إسلاميّة صاعدة من جهةٍ أخرى. وما رتّب في حينه العلاقة مع الجهتين كان منظومة قيميّة إسلاميّة يبقى دور المثقف الذي ينتمي لها، رغم وجوده، هامشياً مقارنة مع دور رجال الدين والقيادات الروحيّة.
الثقافة: وداع السلاح؟
هذه هي لحظة انفصال العمل الثقافي عن العمل القتالي المقاوم. وكما انفصل العمل المقاوم بدوره إلى مسارين، انفصل العمل الثقافي إلى مسارين آخرين. فنجد من الرموز الثقافيّة من أبى أن "يعود" إلى الوطن ضمن اتفاقيّة أوسلو. بيروت أوسع ألف مرّة من أريحا، وأكثر رفاهيةً. خلع المنفى ببطء عن ذاته صفة "المنفى السياسي" (في حين وُجد المخرج السياسي في الضفة وغزّة من هذا المنفى)، فصار من لم "يعودوا" مثقفين يتامى من حركة سياسيّة. ومن جهة أخرى، كانت الحركة الثقافيّة في الضفة وغزّة قد تأطّرت بأدوات السلطة - إما بالمؤسسات الرسمية للسلطة، وإما بالمؤسسات "غير الحكوميّة" المحكومة بفلك التسوية وأنظمة العمل الغربيّة عبر التمويل وعبر نظم أخرى كثيرة ـ لكن المهم أنها عُزلت داخل مؤسساتها لتفقد علاقتها بالسياسة والمجتمع.
لماذا لا نكتب عن غزّة؟ لأن الكتابة، كل كتابة، تدور في فلك العمل الثقافي الذي وقف متفرجاً، بينما سلكت المقاومة دربها الوعرة، تقلّع شوكها بيدها، وتشق طريقها نحو الانتصار حتى وإن لم تنجزه. تبدو الكتابة صغيرة، والكاتب صغيراً أمام صورة المقاوِم المتعاظمة، ولا أحد يحب أن يبدو صغيراً، فالمرء يفضل الاختفاء على أن يبدو هامشياً. بالتالي، نستطيع أن نجد في هذه الظروف التاريخيّة من يعمل في الإنتاج الثقافي في مواقع محددة: الاحتمال الأوّل أن نجد بعضهم يجترّون الشعبويّات مقتنعين أن لذلك دور في المقاومة، أو أن ما يفعلونه أصلاً يُعتبر ثقافة.
الاحتمال الآخر، أن نراهم يصمتون منتظرين مرور العاصفة، حتّى يعود المقاوم إلى بيته وصمته، ويركد المشهد لمصلحة أصواتهم الخاوية. الاحتمال الثالث أن نجدهم بدور المراقب، فيقعون تارة في خطيئة تحليل المجزرة بأدوات عقلانيّة، وتارة أخرى يتركّز عملهم بالنقد اتجاه الخارج، تفكيك الخطاب المضاد والخطاب المتضامن بخبث، مناهضة أعداء الداخل، ومراجعة اللغة وتحليل الصورة... وهو دور ثقافيّ لا يضرب في الجوهر ولا يتجرّأ على النُصحِ ولا يعتبر نفسه جزءاً من المقاومة، لأنه ليس كذلك. لكنّه يساند من بعيد، ويوجّه النقد إلى نفسه، إلى زملائه، إلى نظرائه، وحتى أن الوقاحة قد تصل به ليسأل في بعض الأحيان: "لماذا لا نكتب عن غزّة؟".
الثقافة الملثّمة
وهناك احتمال رابع قد نجد فيه الأفراد المشتغلين بأي من الفروع المحسوبة على الثقافة، وهو احتمال يصعب أن نبحث عنه الآن في غزّة، لأن طبيعة العمل المقاوِم هناك حُددت بالمقاومة الممعنة في عسكرتها وحديديّة تنظيمها، والانخراط فيها هو انخراط سابق على المعركة لا خلالها. بينما من الأسهل أن نجده في الضفة الغربيّة وفي الداخل، حيث يأخذ النضال أشكالاً شعبية في الأطوار الأولى للتنظيم والإغلاق.
في هذا الاحتمال، سنجد المثقف أو طالب الثقافة يعترف بأزمته، ويضع جانباً ومؤقتاً إنتاجه الثقافيّ ليعود إلى ما هو أكثر جذريّة، إلى القيم التي تُحرك فكره وتُحرك ثقافته. يعود إلى إحيائها عبر الفعل السياسي الاجتماعي في مكانٍ وزمانٍ لم يعد فيهما العمل الثقافي فعلاً مؤثراً لا في السياسة ولا في المجتمع. سنجده ينقّب عن شرعية ما يقوله عن طريق أدوات النضال الأوليّة، المباشرة والحادّة.
علينا أن نجده ملثماً، مجازاً وحرفياً. ينزل إلى الشارع، ينخرط بالتنظيم السياسي بشكلٍ فعليّ، يتحمّل مسؤولياته ويتورّط غالباً بالعمل المنهك والدقيق والتقني، بعيداً عن الأضواء وبعيداً عن فردانيّته - أي ملثماً مجازاً. وأن يتحمّل، أول ما يتحمّل من مسؤوليّات، مسؤوليّته الشخصية بأن يكون شريكاً في الصف الأول للمواجهة، ملثماً حرفياً، فيعرّض صدره ورأسه لخطر النار، ممتحناً بذلك صدق قيمه وشجاعة عقله في التفكير، مثبتاً بذلك بأن هذا القلب وهذا العقل مستعدّان للتوحّد مع صور الشهداء. فقط حينها يثبت بأنه جدير بأن يقول شيئاً ما عن المقاومة. ربما حينها نستطيع أن نكتب عن غزّة.