أنفاق غزّة تبتلع ساحرة أسطوريّة

يعششُ في وعيّ كل إنسان عربيّ مشهدٌ لامرأةٍ مسنّة تقف فوق ركام بيتها وتهتف: «وين العرب؟». قد يبدو هذا المشهد بالنسبة لجيل من الشباب وكأنه بديهيّ، سابق للتجربة. نتخيّلها امرأة أسطوريّة، تقف هناك منذ الأزل، وتهتف الجملة ذاتها. كأنها ساحرة تسافر فوق بساطٍ من الركام إلى أي مكانٍ في وطنٍ تتناوب جغرافيّته على حمل المجازر: دير ياسين وقانا، مخيّم جنين وغزّة. تقف ساحرة الركام وتسأل:
2014-08-13

مجد كيّال

كاتب فلسطيني من حيفا


شارك
أسامة دياب - سوريا

يعششُ في وعيّ كل إنسان عربيّ مشهدٌ لامرأةٍ مسنّة تقف فوق ركام بيتها وتهتف: «وين العرب؟». قد يبدو هذا المشهد بالنسبة لجيل من الشباب وكأنه بديهيّ، سابق للتجربة. نتخيّلها امرأة أسطوريّة، تقف هناك منذ الأزل، وتهتف الجملة ذاتها. كأنها ساحرة تسافر فوق بساطٍ من الركام إلى أي مكانٍ في وطنٍ تتناوب جغرافيّته على حمل المجازر: دير ياسين وقانا، مخيّم جنين وغزّة. تقف ساحرة الركام وتسأل: «أين العرب؟».
الجديد الآن أن الساحرة اختفت. استبدلها آخرون سبق وشهدناهم في الجنوب اللبنانيّ عام 2006، هؤلاء الذين لا يسألون أين العرب، بل يقدّمون للجملة الشرطيّة إجابةً: «إذا هُدمت بيوتنا، فهي فداء للمقاومة».
في هذا التحوّل لحظة يجدر بنا التقاطها: من السؤال إلى الجواب، من الشكّ إلى اليقين. كنّا نسأل عن «العرب» كاصطلاح هلاميّ، وكأن الأمة العربيّة كلها رجل واحد يجلس في مقهى. لم نكن نعرّف ما الذي نريد منهم أن يفعلوه. كانت استغاثةً يخنقها الشكّ، نجد ما يشبهها في الثورة السوريّة في هتاف: «مالنا غيرك يا الله» كشعارٍ سياسي. أما الآن: «فدا المقاومة». مقولة واضحة ودقيقة التعريف: «نفدي المقاومة بحياتنا، مادياً ومعنوياً، لكي تنتصر على إسرائيل في هذه المعركة التي تخوضها». هذه الإجابة الواضحة، على الرغم من تعقيدها وأسئلتها الداخليّة، أربكت الشرائح الاجتماعيّة التي لا تستطيع أن تكون شريكة بها: في الضفة الغربيّة، في الأراضي المحتلة عام 1948 وحتّى في الوطن العربي. شهدنا حالة صمتٍ مطبق، له أسباب وعوامل كثيرة أساسها يقع في انعدام إمكانيّة المشاركة بالمعركة، رغم وجودها. بكلمات أخرى، حين يُذبح أهلنا دون مقاومة وتنعدم ردّة الفعل الحقيقيّة على الجرائم الإسرائيليّة، يكون للتظاهر والاشتباك الشعبي والاعتصام أمام السفارات قيمة حقيقيّة. أما إن وُجد الماء فبطل التيمم، وعُدنا نحن في حيفا ونابلس وبيروت كومة تراب راكدة تشاهد المجازر عبر التلفاز.

موسم حصاد الشوك في الوطن العربيّ

أمام التلفزيون رجال يتحلقون ثم يسألون «وين العرب؟»، ونساء يلطمن خدودهن وأفخاذهن ويرددن السؤال نفسه. مثلنا ملايين العرب، يعيدون هذه الجملة حتى يتحوّل الوطن العربيّ كلّه رجع صدى لهذا الصوت، ويُعطي النداء قوّته الحقيقيّة. فتأثير هذا السؤال علينا وعلى وعينا مرتبط بالأساس بكونه يُطلق وسط فراغ، وسط قاعة خالية لا تتحرك داخلها الأجسام. أما اليوم، فالوطن العربي ليس راكداً. القاعة لم تعد خالية ولا ساكنة. ألف حزب وحركة شبابيّة وثورة مضادّة وتيار إسلاميّ وطغمة حاكمة وجهاز مخابراتي، كلهم يركضون ويقفزون في فضاء هذه القاعة. الوطن العربي بأسره كله ينزف مخاض السياسة كاتباً تاريخه. متعثّراً، مكلوماً، يسير باتجاه تغييرات سياسيّة كنّا نظن خطأً أن إنجازها ممكن دون جراحة اجتماعيّة خطيرة باتجاه التوافقات الوطنيّة. هناك مناضلون في مصر وتونس وسوريا والعراق والبحرين... يناضلون اليوم، بموازاة المقاومة الفلسطينيّة، ضد أنظمة دمويّة تارة، وضد تنظيمات دمويّة تارةً أخرى.
نفهم في فلسطين أن سؤال «أين الشعوب العربيّة» صارت له إجابة، ففقد بريق الصدى المتعاظم: الشعوب العربيّة، بكليّتها، تصارع نفسها من أجل مستقبلها الذي هو مستقبل فلسطين. مرّت سنوات طويلة وقضيّتنا الفلسطينية هي قضيّة العرب الأولى، هي القلب والبوصلة. لكنّ ما فاتنا كل هذه السنوات، أن قضيّة فلسطين لا يمكن أن تبقى قضيّة العرب الأولى إذا ما حوّلناها إلى قضيّتهم «الأولى والوحيدة». والآن، لا بد أن نحصد شوك عقودٍ طُمست فيها كلّ القضايا الجوهريّة في الوطن العربي باسم قضيّتنا.

نبض الضفة الذي هدأ

خرجت الضفة الغربيّة خلال العدوان، تظاهرت واشتبكت مع الجنود الإسرائيليّين في نقاط التماس المعتادة. سقط في الضفة خلال العدوان على غزّة 19 شهيداً، أغلبيّتهم الساحقة من أبناء قرى الضفة ومخيّماتها. شُيّعوا ثم دُفنت الحالة الشعبيّة التي اندلعت دون قيادةٍ وبغيابٍ تام لأي بنية سياسيّة قادرة على دفع المعركة. أبدت الضفة تضامنها. شُنّت حملة لمقاطعة المنتوجات الإسرائيليّة تماماً كما في المدن الأوروبيّة.
شكّلت الحرب على غزّة هزّة قويّة للمنظومة الاجتماعيّة المؤسساتيّة والاقتصاديّة في الضفّة. كأنّ وجبةً دسمة من النضال الغزّي لم يستطع جسد المؤسسات الأجنبيّة، والسلطة الفلسطينيّة، والشركات الخاصة أن يهضمها بأي شكلٍ من الأشكال. تعثّر الجهاز الذي أسسته دولة أوسلو فتقيّأ في الضفّة موجةً من الاستغلال الدعائيّ والانتهازيّ للدم الغزّي. شركات الخدمات الخلويّة على سبيل المثال لا الحصر، تنافست في ما بينها. شركة «جوّال» أطلقت دعايات كارثيّة إبداعياً قبل كونها كارثيّة سياسياً. إحدى الدعايات تقول: «حبيبتنا فلسطين اللي على حبها ما يختلف «اثنين»، بيني وبينها عشق صار له سنين». أما شركة «الوطنيّة موبايل» فاستغلت المساحة الإعلانيّة في الصحف لتقول: «اللهم كنّ مع أطفالنا ونسائنا وشيوخنا وشبابنا في غزة، اللهم آمين». هذا نموذج بسيط لشبكة اتصالات تدعو لربّها عبر إعلان مدفوع الثمن. وليكتمل المشهد، ناشد أبو مازن الجماهير بالتبرع بالدمّ، وكان ينقصه أن يدعو الناس لصلاةٍ من أجل غزّة وكأنه البابا فرنسيس.
مع هذا، شهدت الضفّة موجة من المواجهات الشعبيّة غير المسبوقة في السنوات الأخيرة. اصطدمت بدايةً بأمن السلطة الذي حاول قمع المسيرات. لكنّ السلطة سرعان ما استدركت الموقف، خاصةً بعد بدء الدخول البرّي إلى قطاع غزّة وتسجيل المقاومة لإنجازات عسكريّة على الأرض. استدركته لئلا ينقلب السخط عليها ولئلا تتعاظم المسيرات التي دعت إليها حماس في الضفّة. لكنها لم تطلق له حيز الاشتباك فحسب، بل حاولت احتواءه وتنظيمه بأدواتها عبر وسطاء من الشخصيّات والرموز الذين دعوا إلى تظاهرات حاشدة يشارك بها عشرات الآلاف في الضفّة، وتسير نحو محاور اشتباك معروفة. استخدمت السلطة وسائطها لتأخذ كل احتياطاتها، فلا تتورط مباشرة بالدعوة للمواجهة وفي الوقت ذاته لا تترك الأمور تفلت من يدها.
في نهاية المطاف، لم تتمكن السلطة من احتكار المواجهة. لكنها أيضاً لم تطمسها في الأيام الأخيرة. ولا يصيب من يقول إن المواجهات انطفأت بتأثير مباشر من السلطة. لكن الأصوات الشبابيّة التي تحدّثت، قلقةً من «سيطرة القيادات» على الغضب الشعبي، تجاهلت أن الغضب وحده لا يمكن أن يُنجب استمراريّة الصدام. وأن كل انتفاضة شعبيّة على الصهاينة يمكن أن تشهدها الضفّة، لا يمكن أن تُبنى إلا على أساس تقويض البنية الاقتصاديّة والسلطويّة التي أنتجها أوسلو. وأن الحديث عن اللاسلطويّة وكأنها كائن تطلقه فيعيش وحده، قد يُصبح من ضروب الكسل.

مقياس رسم الكرامة

أما قصّة الأراضي المحتلّة عام 1948 فهي أغرب. قبل استشهاد الطفل محمد أبو خضير، شهد الداخل اشتباكات عارمة. كان إضراب الأسرى الإداريين في قمّته حين بدأت الحركات الشبابيّة في الداخل تتحضّر للتظاهر والمواجهة في مدينة أم الفحم، نصرة للإضراب. قبل يومين من التظاهرة الكبرى، أعلن الأسرى وقف الإضراب، لكن ذلّك لم يغيّر شيئاً بالنسبة للشباب المتأهّب للمواجهة، وكان ما كان من صدام وإصابات واعتقالات. استمرت المواجهات وتصاعدت، في حين عمّ الضفّة سكونٌ تامٌّ ولم تكن الحرب على غزّة قد بدأت. عند إعدام الطفل محمد أبو خضير حرقاً، كان الداخل قد خرج في أكبر موجة مواجهات شهدناها منذ بداية الانتفاضة الثانية. قُمع النضال الشعبيّ بقوّة. انطلقت واحدة من كبرى موجات الاعتقال بحق فلسطينيي الداخل الذين يحملون المواطنة الإسرائيليّة. اعتقلت الشرطة الإسرائيلية خلال أقل من شهر نحو 700 شاب وشابّة، الثلث منهم من الأطفال.
استخدمت وسائل قمع غير مألوفة في الداخل، مثل الكلاب البوليسيّة والمستعرِبين، وفرضت في بعض المواقع حظراً للتجوّل، وحاكمت بعض الشبّان على أساس بنود من القانون العسكريّ المطبّق بالضفّة الغربيّة. شركات حكوميّة وخاصّة أوقفت خدماتها في البلدات العربية، وشُنّت حملة واسعة النطاق لطرد العمّال العرب من أماكن عملهم، كما إيقاع عقوبات بحق الطلاب الجامعيين على خلفيّة مواقفهم السياسيّة. هذا علاوة على التحالف الحديديّ الذي عقده نفر من المتخاذلين من أصحاب المصالح الاقتصاديّة والسياسيّة وبعض رجال الدين، كما بعض رؤساء المجالس المحليّة للقرى والمدن العربيّة، الذين اتهموا الشباب بالطيش والتهوّر. بعض القيادات الحزبيّة اتهم الشباب، كما في الوطن العربي تماماً، بأنهم ينفذون مؤامرة ليعطوا ذريعة لإسرائيل بأن «تسحب المواطَنة منّا».
لكن ليس ذلك وحده ما جعل شعلة الاحتجاج تنطفئ كلما زادت المعركة في غزّة ضراوة. في بداية العدوان، قبل بدء العمليّة البريّة، حين كانت غزّة تُقصف والناس يُقتلون، وكانت صواريخ المقاومة تنزل على المستوطنات الإسرائيليّة دون أن توقع خسائر جديّة، ظن فلسطينيّو الداخل أنهم يستطيعون التحول الى عامل صعب في معادلة سياسيّة، بحيث يشكلون ضغطاً في الشارع على الجهاز الأمني الإسرائيلي.
لكن الميدان في غزّة قال غير ذلك. أنجزت المقاومة، فأعادت الأمور إلى سياقٍ يوضّح ضآلة الإمكانيّات التي يمتلكها الفلسطينيّون في الداخل. المجتمع الفلسطيني داخل إسرائيل، ذاك الذي عاش منذ النكبة على هامش صناعة السياسة والتاريخ، عاجز عن أن يكون سيداً لنفسه ومستقبله، نهض منذ أكثر من عام وسط حالة ركود في الضفة وغزّة، بقرار سياسيّ لخوض صدام ضد مصادرة الأراضي في النقب، واستمر بحذر شديد في هذا النهج الذي يُعيد زمام النضال إلى الناس في الشارع. لفترة زمنيّة قصيرة، نظر فلسطينيّو الداخل إلى أنفسهم بالمرآة وهم يلقون الحجارة ويستنشقون الغاز ويدخلون المعتقلات، وشعروا بشيء يكمن في جوهر النضال، اسمه الكرامة. ثم أتت غزّة وقاومت، دفعت نحو 2000 شهيد، ودُمّرت كاملةً، ووضعت مقياس رسم جديدا وضخما لمعنى الكرامة.

أسئلة

تجد ساحرة الركام نفسها أمام الضفّة الغربيّة التي تتخبّط بمنظومتها المتأزمة، حيث ظهرت قيادتها في قمّة عجزها وعبثها حين تجاهلتها إسرائيل كلياً لتنشغل بالحرب على المقاومة، فأثبتت بذلك أن دورها وثقلها مشتقان فحسب وليس إلا من اكتراث إسرائيل بها وحاجتها لها، وليس من قاعدةٍ شعبيّة ولا من ميثاق نضاليّ. وتجد ساحرةُ الركامِ التي تسأل: «أين العرب؟» فلسطينيّي الداخل الذين فهموا أنهم حتى لو تظاهروا بالآلاف، فليست التظاهرات بحد ذاتها هي ما يؤثّر، بل أن تشكل ضغطاً على المؤسسة الأمنيّة عن طريق المواجهة، وأن هذا الضغط ـ بحجم المعركة الحاليّة ـ يبقى هامشياً. وتلك أسئلة/مهمات، طرحها سياق تطور المسألة الفلسطينية، وسيعيد طرحها مراراً.

مقالات من غزة

رحلة البحث عن رغيف

كُل صباح في الأيام الماضية، حينما أجوب الشوارع، لا أجدني سوى باحث عن الخُبز، وأنا حقيقةً لا أستوعب إلى الآن أن الحال وصلت بي - كما وصلت بكُل الناس- إلى...

خالدة جرار مسجونة في قبر!

2024-11-21

"أنا أموت كل يوم، الزنزانة أشبه بصندوق صغير محكم الإغلاق، لا يدخله الهواء. لا يوجد في الزنزانة إلا دورة مياه ونافذة صغيرة فوقه أغلقوها بعد يوم من نقلي إلى هنا...

اقتصاد البَقاء: الدّلالةُ والمفهوم في ظلّ حرب الإبادة

مسيف جميل 2024-11-17

لا توجد جدوى للصمود، ما لم يرتبط بالتصدي للاحتلال. استخدم المانحون "الصمود" كإطار جديد، يتماشى مع المرحلة الفلسطينية، ويراعي المشاعر الفلسطينية والحس الوطني السياسي، وكأن التنمية تحدث بتسمية وتبنِّي مصطلحات...

للكاتب نفسه

فلسطين: حقوقيّون في ظلال الـ"درونز"

مجد كيّال 2022-01-06

تلعب إسرائيل دوراً محورياً في تشكيل رؤية الحروب في عصر "الدرونز". فهي اعتمدت في حروبها السريعة بعد حرب 1967، على الارتكاز لسلاح الجو، وقدرات المراقبة والسيطرة عن بعد، وتجنب التوغّل...

لحظة كل الممكنات وكل المخاطر

مجد كيّال 2021-05-26

الحرب العميقة تنطلق على مستويين. الأوّل هو المستوى الأمني، وقد بدأت إسرائيل تسعى إلى ترميم صورة "الوحش" التي كسرناها. ولكن هناك مستوى أخطر: حين تهدأ الأخبار، تبدأ المؤسسة الأمنيّة ببسط...