هل يعيش العرب المرحلة الاخطر في تاريخهم الحديث؟ هل هم على عتبة "وعد بلفور" جديد، مع مراعاة مقتضيات العصر وتبدل "الوقائع على الارض"؟ علماً بأن بريطانيا العظمى قد ذهبت مع بلفور في حين أن "وعده" قد تحقق فاختفت فلسطين، أو تكاد، لحساب دولة اسرائيل التي تتعاظم قوة وجبروتاً بفضل الدعم الاميركي أساساً، والدولي عموماً، بما يشمل الاتحاد الروسي، كما بفضل سيادة مناخ الهزيمة عربياً والتسليم بواقعها كقدر لا راد له.
أم أن عبقرية الرئيس الاميركي دونالد ترامب التي انتجت "صفقة القرن" ستقْدر على إعادة صياغة هذه الارض التي كان اسمها من قبل "الوطن العربي" وباتت الآن مجرد جهة جغرافية باسم "الشرق الاوسط"، بغير أن نعرف هو "أوسط" بين من ومن، وأين هوية أهله بين الهويات المحددة في ضوء التاريخ والجغرافيا وجهد اهلها في حفظها بهويتها / هويتهم؟
واضح أن الوقت يضيق أمام مهلة تنفيذ هذه "الخطة" أو "المؤامرة" الجديدة على العرب في حاضرهم ومستقبلهم، وإلا فلماذا هذا الحشد من القمم المتعاقبة والتي تمّ تهريبها إلى حيث يسود الصمت بالأمر و"قداسة المكان"، فتعقد ثلاث قمم متعاقبة في مكة المكرمة (عربية وخليجية واسلامية).
..هذا في حين تعقد قمة "مستقلة" في البحرين، الجزيرة المغلقة على "ملكها" والقواعد العسكرية الغربية، مخصصة ل"صفقة القرن"، و"تصفية القضية الفلسطينية"، أي قضية العرب جميعاً والمسلمين جميعاً وأحرار العالم جميعاً.
في ظل هذا الحشد من القمم المتعاقبة، وكلها مذهبّة، يمكن - بل ستُبذل جهود خارقة - من اجل التغيير والتبديل في حدود الكيانات القائمة، بالدمج متى أمكن، والتقسيم إذا ما تعذر الدمج.. وقد تنشأ كيانات كرتونية لقضايا ثبت استعصاؤها على الموت، كقضية فلسطين.
لقد "تعهد" ترامب بإنهاء "الصراع العربي - الاسرائيلي"، الذي تمت تصفية وقائعه ومقوماته تدريجياً وعبر صفقات الصلح المنفرد مع مصر- السادات، بداية، ثم باتفاقات وقف إطلاق النار المفتوحة، نظرياً والمقفلة عمليا، بشهود الحال الذين وقّعوها مع الاطراف المعنية (الاردن بداية، وهو أقرب إلى الصلح وأدهى)، ثم سوريا، ومن بعدها في اعقاب الحرب الاسرائيلية على لبنان والتي انتهت بهزيمة عسكرية ساحقة للعدو، تمّ تخفيف وقعها على الكيان الاسرائيلي بالقرار الاممي 1701.
على هذا، فمن حق ترامب أن يعتبر أن المسرح (العربي) جاهز لتنفيذ "صفقة القرن":
- مصر خرجت من الصراع بمعاهدة كامب ديفيد التي وقعها الرئيس المصري الراحل انور السادات مع رئيس حكومة العدو الاسرائيلي مناحيم بيغن تحت رعاية الرئيس الاميركي جيمي كارتر في المنتجع الرئاسي اللطيف بتاريخ 17 ايلول / سبتمبر العام 1978.
ولقد نشأت، بعد هذه المعاهدة، علاقات تكاد تكون طبيعية بين الحكومتين المصرية والاسرائيلية، تشمل، اضافة إلى السفارتين في كل من القاهرة وتل ابيب، مختلف وجوه التعاون الاقتصادي (النفط والغاز والتبادل التجاري وبعض السياحة الدينية الخ..).
- أما سوريا فقد اضطرت إلى شن نصف حرب، بشكل مستقل، بعد غدر السادات بها حين أمر بإيقاف اطلاق النار على الجبهة المصرية في حرب اكتوبر- (تشرين الاول) العاشر من رمضان - عام 1973...وهكذا استمرت الجبهة مفتوحة في الجولان حتى تم التوصل إلى اتفاق لوقف النا، جاء في اعقابه الرئيس الأميركي نيكسون ومعه وزير خارجيته الاسبق ( والاشهر) هنري كيسنجر إلى دمشق لتثبيت هذا الاتفاق (المؤقت) على أن يُستكمل البحث لاحقاً في معاهدة صلح تلعب الولايات المتحدة الاميركية دور "الضامن" فيها.
وبالفعل جرت محاولات حثيثة في عهد كلينتون، أشهرها مؤتمر جنيف الذي جمع الرئيس السوري الراحل حافظ الاسد مع الرئيس الاميركي عام 1994، وانتهى بعد دقائق من افتتاحه، حين بوشر بعرض خريطة معاهدة الصلح المفترضة، فسأل الرئيس السوري محاوره الاميركي: وأين الجولان؟ وأين بحيرة طبريا.. لا يمكن أن اوقع الا إذا تضمنت الخريطة هذه البحيرة التي كنت اسبح فيها حين اقتضت ظروف خدمتي العسكرية أن يكون معسكري عند الهضبة التي تشرف عليها.
- أما لبنان فان الدبلوماسية الاميركية ناشطة جداً هذه الايام فيه، اذ لا يكاد يغادر موفد اميركي حتى يجيء ثانٍ، لا سيما من بين السفراء الذين خدموا في بيروت، وهم يستخدمون "صداقاتهم" المحلية و"دالتهم" عليهم من اجل الترسيم المقترح للحدود اللبنانية مع دولة الاحتلال الاسرائيلي، بغض النظر عن مستقبل العلاقات بين لبنان وسوريا، وسوريا والعدو الاسرائيلي.
ليس هناك، بعد، تعريف او تحديد جغرافي - تاريخي ل"صفقة القرن"، غير ما تفوه به ذات مرة الرئيس الاميركي الذي لا يكف عن الثرثرة، مباشرة أو عبر تويتر وسائر وسائل الاتصال الاجتماعي. ولا أحد يدري ما إذا كان المدعوون للمشاركة في قمة البحرين، المحكومة سعودياً كما بالقواعد البحرية متعددة الأعلام (بريطانية واميركية) والتي لا تبعد كثيراً عن إيران، ويشكل المتحدرون من أصول إيرانية، مع المواطنين الشيعة من البحرانيين، نسبة مؤثرة من عدد السكان، وان كان النظام لا يعترف بهم ولا يعاملهم معاملة اخوانهم من السنة، مع انهم متداخلون – بمجموعهم – نسباً وذرية وتوجهات سياسية.
لا احد يدري ما اذا كان هؤلاء المدعوون إلى القمم الثلاث، في مكة المكرمة، ثم قمة البحرين، يعرفون شيئاً عن "صفقة القرن"، ام أنهم ما زالوا ينتظرون المنامة بالبحرين، سواء على لسان وفد ترامب نفسه أم عبر البيان الختامي لهذا المؤتمر الذي لم يعرف - أقله علناً حتى الآن – الغرض منه، والاهداف المرجوة من انعقاده، ومن سيشارك فيه تحديداً، لا سيما بعد رفض "السلطة الفلسطينية" المشاركة فيه من دون أن تفهم وتعرف يقينا الهدف منه، وأين موقع فلسطين فيه، أن كان لها ثمة موقع ( خارج الهيمنة الاسرائيلية).
على أن الجميع، في الوطن العربي (أي الشعب) وفي العالم (أي سائر الدول) لا يعرفون شيئاً عن اهداف هذه القمم المتلاحقة في وقت قصير جداً، مما يوحي بان ثمة أموراً خطيرة تُدبر للعرب في مستقبلهم، بعنوان فلسطين اساساً، ولكنها تشمل حاضرهم ومستقبلهم في بلادهم.. التي ستظل، برغم كل المؤامرات والتنازلات وضروب الخيانة، بلادهم التي لا بلاد لهم غيرها، والتي لن يسلموا ابداً بان تكون لغيرهم أو أن يكونوا أغراباً فيها أو رعايا لدولة أو دول أخرى بالعنوان الإسرائيلي..