التقى السوريون برمضان جديد، جاء هلاله هذا العام في أوائل أيار / مايو، حيث الصيف يثبُ باكراً، حاملاً غبار الأجواء الخماسينية إلى وجوه الناس، وقد تعطلت حركتهم أمام محطات الوقود يراقبون اكتظاظها، أو يعبرون من أمام معادلات الغلاء التي تدوّنها الأسواق بخطوط ملتوية على واجهات محلاتها التجارية.
والمارة الصائمون يبحثون عن ظلالٍ يلجأون إليها وهم سائرون، لا تعنيهم الشوارع الواسعة المشرعة على الحرارة والضجيج، نجدهم يقتصدون في الكلام والشكوى، وإن تحركوا نجدهم يقتصدون في خطواتهم أيضاً، ولا يسهبون في الأحلام، يتدبرون شؤون حياتهم من دونها قدر المستطاع. فهذه "واقعيّة رمضانية" يتمسك بها السوريون أكثر من غيرهم، ويستعيرون منها مجازات التقشف والجوع والتقنين، وهم أهلُ كار في ذلك منذ ثمانِ سنوات.
إفطار العام الثامن
في العاصمة وفي غيرها من مدن النظام "الآمنة"، تجتذب أسواق المواد الغذائية خطوات المتسوّقين المتمهلة، فهي على أي حال الوجهة الرئيسية لحركة السيولة النقدية طيلة شهر رمضان. لكن جولة النزال الإضافية بين القوة الشرائية المهترئة للدخول في سوريا، وبين ارتهان كلفة سلّة المعيشة اليومية إلى سعر صرف الدولار، والتي يعززها شهر الصيام، لا تقود بالضرورة إلى جديد يُذكر. فالناس ينفقون مداخيلهم على شراء الحاجات الأساسية فقط، في وقت تتراجع فيه الحركة التجارية داخل أسواق الملابس الجاهزة والمفروشات والكهربائيات وغيرها من السلع الكمالية. كما لا يغامر أصحاب الدخول المتوسطة باختبار أسعار وجبات الإفطار والسحور في مطاعم تعلن بإلحاح عن خيمها الرمضانية، وهم الذين كانوا قبل سنوات عديدة يُنعشون عمل تلك المنشآت الاستثمارية داخل دمشق القديمة، أو في الضواحي الفخمة المحيطة بالعاصمة، باعتبارهم الشريحة التي ضمنت ازدهار أسواق التجزئة في سوريا بين العامين 2005 و2011.
الناس الذين يعيشون في مناطق سيطرة النظام لا يشعرون بأدنى تعاطف مع أخبار الاشتباكات التي تدور يومياتها في شمال سوريا داخل ريفَي حماه وإدلب، حيث المواجهات الرمضانية بين جيش النظام وحلفائه من جهة، وبين فصائل المعارضة المسلحة وحلفائها من جهة أخرى، وحيث المزيد من النازحين المدنيين يقصدون الحدود التركية..
يتمسك السوريون الصائمون بإفطارات متواضعة، وغالباً ما تكون امتداداً لوجباتهم اليومية المعتادة. لكنهم في رمضان يسلّمون حواسهم إلى شاشات مضيئة تُملي عليهم ساعات طويلة من البث الرمضاني ضمن خيارات لا نهاية لها على قمر "النايل سات"، ثم ينتظرون جلاء الشمس، وآذانهم تلاحق أصوات رابطة المنشدين في الجامع الأموي وهم يرفعون آذان المغرب. ذاك الصوت الجماعي العذب الذي يذوب بلا مشقّة في أحياء القيمرية والعمارة والحميدية، يفتقده قاطنوا الحيّ السوري في اسطنبول، وهم الحريصون على إحياء مراسم الفطور السوري ابتداءً بشراب العرق سوس والتمر الهندي، وانتهاءً بالقبوات والسجقات كما تقدّمها مطاعم سوق الميدان، أحد أشهر أسواق المأكولات والحلويات في العاصمة وفي سوريا كلها. ويفتقده أيضاً المهاجرون واللاجئون السوريون في أوروبا، وبعضهم يصوم لأكثر من تسع عشرة ساعة، وكذلك يفتقده قاطنو مخيمات اللجوء في دول الجوار، وهم يطهون من المساعدات الدولية وصفات بلا طعم أو رائحة لوجبات إفطارهم اليومية.
حرائق وجبهات مشتعلة
يحترق جامع الرفاعي في شارع بغداد وسط دمشق. لا يسمع الناس دوّي انفجار، لكنهم يرون دخاناً يتسلق الهواء فحسب. لعلهم يتذكرون حينذاك يومياتهم مع قذائف الهاون قبل انسحاب الفصائل الإسلامية المسلحة من ريف دمشق. ولأنهم يعيشون في مناطق سيطرة النظام، فهم لا يشعرون بأدنى تعاطف مع أخبار الاشتباكات التي تدور يومياتها في شمال سوريا داخل ريفيّ حماه وإدلب، حيث المواجهات الرمضانيّة بين جيش النظام وحلفائه من جهة، وبين فصائل المعارضة المسلحة وحلفائها من جهة أخرى، والمزيد من النازحين المدنيين يقصدون الحدود التركية، يبحثون عن وجبة إفطار آمنة، بعدما طالت غارات الطيران السوري والروسي قرابة سبع عشرة بلدة تقع في ريف حماه الشمالي وريف إدلب الجنوبي.
ثم كيف يكون "للناعم" المسمّى أيضاً رغيف رمضان، نكهة سهلة الوصف وهو المصنوع من طحين وماء فقط، والمزيّن برداء من دبس العنب فوق قوامه الهش، ولا يكون لسوق الحميدية والدرويشية وباب الجابية نكهة سهلة الوصف في رمضان، وصوت القارئ عبد الباسط عبد الصمد لا يطوف في ساعات الظهيرة معزّياً الهواء الفقير لتلك الأسواق الشعبية، ربما لأن الفقر لم يعد في سوريا مجرد توصيف اقتصادي اجتماعي بقدر ما صار هويّةً مكتملة المظهر لها ملامحها وعلاماتها الفارقة، عن هوية لصوص الحرب وحديثي النعمة، أو عن هوية المهاجرين واللاجئين السوريين في أوروبا وهم يبثّون يومياً ابتساماتهم العريضة على وسائل تواصلهم الاجتماعي، بالتزامن مع النوايا الباسمة لسفارة دولة الإمارات وهي تبث رغبتها بتقديم المساعدات الغذائية للمحتاجين في دمشق وريفها خلال شهر الصيام الحالي، باعتبارها أول السفارات العربية التي تعيد فتح أبوابها منذ نهاية العام الماضي.
السوريون المهزومون جداً، من يداوي خيباتهم؟
30-01-2019
ثم تأتي المبادرات المحلية ذات الصبغة الاجتماعية الإنسانية، خجولةً ومحدودة العدد، ولعل أهمها مبادرة "سامحوا المستأجر" وهي حملة نادى بها شباب مجموعة "الفالوجيين" على فيسبوك (والاسم مشتق من الفالج او الشلل النصفي، ويُقصد به الاشارة الى ما "يفلج" لشدته، ويقال أن أعضاء هذه المجموعة المغلقة التي تأسست مطلع هذا العام قد تجاوز المئة ألف سوري من كل المناطق والطوائف وربما المَهاجر.. والله اعلم!). هدف الحملة أن يسامح كل صاحب منزل بإيجار شهر رمضان، ذلك أن إيجارات المنازل باتت تسجل أرقاماً عالية تتراوح قيمتها في ريف دمشق مثلاً بين مئة دولار ومئة وخمسين دولاراً.. مقارنة بالمتوسط العام للدخول في سوريا والذي لا يتجاوز مئة دولار شهرياً.