فرضت «الحداثة» ايقاعها على السكان الاصليين لمدينة البتراء (225 كيلو متراً جنوب عمّان)، فجعلتهم يغادرون انماط حياتهم الطبيعية بعد ان اجبرتهم السلطات على مغادرة كهوفهم المتناثرة، يوم رأت فيهم «عائقاً أمام حماية وترميم الاثار في المدينة»، التي بدأ العمل على تحويلها الى محمية سياحية العام 1967.
عشيرة البدول البالغ عدد أفرادها ثلاثة آلاف نسمة، وفقاً لأرجح الإحصائيات، والذين يطيب لهم ان يعرّفوا عن انفسهم بـ «الورثة الشرعيين للأنباط» (دون سند علمي لروايتهم)، كانوا الضحية.
في العام 1985 رُحِّلوا جميعاً إلى إسكان بُنيَ خصيصاً لهم على تلة أم الصحون المطلّة على موطنهم الاصلي.
خسر البدول كهوفهم غير قانعين بالبيوت الحديثة التي حصلوا عليها بل وغير منسجمين معها، وخسروا زراعتهم بعد ان حُرموا من العمل في اراضيهم التي خلفوها وراءهم دون ان تعوضهم السلطات أراضي زراعية في مناطق سكناهم الجديدة.
وزيادة في حصارهم، حُددت لهم اماكن رعي خاصة، ما ادى الى الإضرار في نمطهم الرعوي المتجه نحو الانقراض، والإخلال في النظام البيئي النباتي لعدم إمكانية تنويع مناطق الرعي، ذلك أنّ مناطق الرعي في البتراء صخريّة يندر فيها أصلاً الغطاء العشبي، وتحديدها فوق ذلك يجعل عملية الرعي شبه مستحيلة.
ماذا فعل البدول أمام التدمير المبرمج لأنماط حياتهم؟ استغلوا المأساة. وبعد ان كانت السياحة نقمتهم وسبب ترحيلهم، تحولت الى جنتهم ومصدر دخلهم الوحيد.
واصل البدول بعد ترحيلهم النزول يومياً الى مدينتهم حاملين المشغولات اليدوية وقطعاً من احجار المدينة لبيعها إلى السياح القادمين من كل ارجاء العالم، كما يصطحبون معهم في رحلة النزول الحمير والجمال والعربات، التي أضحت وسيلة النقل المفضلة لدى السياح، تحدد أجورها بالتفاوض المباشر.
في البداية، لم يُجد البدول فن التفاوض، ففرضت عليهم حواجز اللغات ان يحفظوا كلمات محددة تتعلق بالأسعار فقط، يوماً بعد يوم تعلموا المزيد من المفردات، إلقاء التحية للترحيب بالسياح كل بلغته ليجدوا انفسهم في وقت قياسي يعرفون المزيد، ويتدبرون أمرهم في العديد من اللغات، ليقول غالبية الاردنيين يا لحظ البدول! وليقول البدول مثلهم المشهور « البتراء مدرسة».
غير ان البتراء مدرسة للبدول الذين يعاني 29.2 في المئة منهم من الأمية، حسب دراسة اعدتها جامعة الحسين بن طلال في العام 2010، وهي النسبة الأعلى في المملكة.
وتكشف الدراسة عن فجوة كبيرة بين الجنسين من حيث التمكن من القراءة والكتابة، فالأمية لدى الإناث، تبلغ تقريباً ضعف نسبتها لدى الذكور، حيث تشكل أمية الإناث 37.3 في المئة، في حين تشكل أمية الذكور 19.7 في المئة.
ولكن البدول لا يلقون بالاً للدراسة، يكتفون بما تعلموه من لغات تساعدهم على احتراف العمل السياحي الذي يوفر دخلاً سريعاً لهم، يفوق دخل المتعلمين. وقد غيرت سنوات الترحيل في نمط معيشتهم، غير انها لم تغير من حنينهم الى كهوفهم الأولى. طفح كيلهم في العام 1992 وقرروا العودة اليها داخل مدينة البتراء، فردتهم الحكومة يومها بوعود توفير الاراضي وزيادة مساحة مناطق الرعي. وعود لم تنفّذ، لذلك جددوا في العام 2000 قرار العودة لتمنعهم القوة الأمنية التي أوقعت في صفوفهم ثلاثة قتلى، اعتبرهم البدول «شهداء العودة» التي سيحاولونها من جديد.