أفرح الآن عندما يسألني أي شخص: من أين أنت؟، وأتمنى أن يسألني كلُ من يصادفني في الطريق هذا السؤال، لأجيبه أنا من هّنا، أنا من عراق المنشية.
كم كان السؤال محيراً في زمن مضى، يوم كنتُ لاجئاً في الأردن، وكان يأتي السؤال محملاً باحتمالات كثيرة. كنتُ أجيب أنا من مخيم البقعة، لتنهمر الأسئلة بعد السؤال: من وين من فلسطين؟ أجيب: من عراق المنشية، ويتابع: وين عراق المنشية؟ وهُنا أُغرقُ في الشرح: هي قرية هُناك بين عزة والخليل بعيدة عن الساحل وليست قريبة من الجبل، آخر القرى التي سقطت، صمدت في عام النكبة وسقطت في عام 1949، فيها ولد والدي الذي مات في المخيم، خرج منها طفلاً في الثالثة من عمره تناوب والداه على حمله في رحلة اللجوء، وحين تعبوا وألقُوهُ على جانب الطريق، حملته أخته مريم التي أرضعته وأصبحَ أبنها بالرضاعة.
وينتهي الحوار العابر. يعني أنت فلسطيني، وأحياناً أنت أردني من أصول فلسطينية. وكنت أكره السؤال، ليس هرباً من هوية اعتزُ بها، بقدر الرغبة في تجنب حوار غالباً ما كان يأخذ بعداً عنصرياً، عندما يكون المُحاور شرق أردني.
الآن، في العام 2054، وبينما ينشغل العائدون في الخلاف على أمتار مربعة من الأرض، وهم ورثة للاجئين، ورثوا عنهم حنيناً من دون صكوك ملكية، ومفاتيح لبيوت اندثرت، ماذا يفعل سبعيني مثلي. فقط يبحث عمن يسأله "من أين أنت؟" كي يرضي غروره.
وأفكر، كيف فعلها فلسطينيو الـ 48، وهم الذين نظرنا إليهم في لجوئنا كخونة، ووصفناهم باليهود ووضعناهم في خانة الأعداء، حقاً فعلوها، فجروا الثورة التي كانت سبباً في إنهاء الاحتلال، والتي انخرط فيها أهل الضفة الغربية وقطاع غزة، ولما انتصروا قالوا لنا عودوا بعد أن عاد كثير من اليهود إلى البلاد التي جاءوا منها.
ماذا يفعل صحافي متقاعد وهو على جسر العودة، يكتبُ نصاً منحازاً يشتم فيه ببذاءة كل من رفض العودة، يطوي النص ويضعه في جيبه، فهوَ غيرُ صالحٍ للنشر، ويقترب من الجندي على الجسر ليجيب على سؤاله. إلى أين ذاهب؟ فأقول: إلى حيث يفرحني أن أُسأَل: من أين أنت؟
كما السلاحف التي تندفع فور خروجها من البيض المدفون على رمال الشاطئ صوب البحر، اندفعنا. وجرى خلاف عابر بيني وبين زوجتي، سألتني بعد أن عبرنا الجسر، إلى أين نذهب؟ أجبت: إلى بيت أجدادي، قالت وبلدي الناصرة؟ قلت: نزورها عندما يعثر العائدون من أهلك على بيت أجدادك.
والآن، هُنا، حيث الجنة التي رسمتْها في خيالي حكايات الكبار يوم كنت طفلاً. كم كانوا يكذبون، وكم هو جميل الكذب. وددت لو حملتُ في العودة رفاتهم لأدفنها حيث حلموا أن يموتوا ولم يستطيعوا ذلك.
واتفقَ المُحررونَ على إعلان 15 أيار/ مايو 2054 عيداً للتحرير، يفصلنا أزيد من شهر عن موعد الاحتفال المركزي الذي سيقام في القدس، بحضور قادة دول الممانعة، والاعتدال، والصمت الخ... العربي والإسلامي. سيكون وقتاً كافياً قبل ذهابي لمشاهدة الحفل، لأقنع ممثل وزارة العائدين في قريتنا ليستبدل الشقة التي منحتني إياها وزارته بالطابق الرابع في المستوطنة التي بناها اليهود الهاربون على أنقاض بيوت أجدادي، بشقة في الطابق الأرضي تناسب الخطوات المتعبة لزوجين سبعينيين يمشيان بمساعدة العكاز.
وهذا على الرغم إني واثق من صدق إعلان الوزارة أنها ستهدم كل المستوطنات، بعد أن تبني بيوتاً للعائدين على الأراضي التي ورثوها من أجدادهم اللاجئين الذين ماتوا، فهم لا يريدون للمستوطنات أن تتحول هياكل مزعومة في زمن ما.
وأعلن الساسة بأنهم وبعد أن يفرغوا من وضع الدستور الذي سيجري استفتاء عليه، سيشرعون بالإعداد لانتخابات رئاسية وبرلمانية وبلدية، وتعهدوا بأنهم لن يخوضوا الانتخابات، شعارهم "الثائر لا يطمع بالكرسي".
وأنا من هُنا، من عراق المنشية وفيها، عجوز ما زال يبكي الطفلُ فيه والديه الذين فرّقت بينهم مقابر المخيم، وفرقت بينه وبينهم الآن بلاد. وبعد أن شبعتُ هُنا من فرحة الجواب على سؤال: من أين أنت ؟، تراودني فكرة العودة إلى بلد اللجوء لأجيب على السؤال ذاته هُناك، والحقيقة أني هُنا حلمتُ أن أحيا لا أن أموت.
والآن، هُنا، حيث الجنة التي رسمتها في خيالي حكايات الكبار يوم كنت طفلاً، كم كانوا يكذبون، وكم هو جميل الكذب، وددت لو حملتُ في العودة رفاتهم لأدفنها.
مواضيع
الآن يفرحني سؤال: من أين أنت؟
مقالات من الأردن
خالدة جرار مسجونة في قبر!
"أنا أموت كل يوم، الزنزانة أشبه بصندوق صغير محكم الإغلاق، لا يدخله الهواء. لا يوجد في الزنزانة إلا دورة مياه ونافذة صغيرة فوقه أغلقوها بعد يوم من نقلي إلى هنا...
اقتصاد البَقاء: الدّلالةُ والمفهوم في ظلّ حرب الإبادة
لا توجد جدوى للصمود، ما لم يرتبط بالتصدي للاحتلال. استخدم المانحون "الصمود" كإطار جديد، يتماشى مع المرحلة الفلسطينية، ويراعي المشاعر الفلسطينية والحس الوطني السياسي، وكأن التنمية تحدث بتسمية وتبنِّي مصطلحات...
كلّ ما يتحدّى اكتمال الإبادة..
شبعت أعين العالم أكلاً في مأساة غزّة. لن تغيِّر صور الموت ما لم يغيّره الموت نفسه. لذلك، فهذه هنا صور لقلبٍ ما زال ينبض، لملمناها من صور شاركها الصحافي يوسف...
للكاتب نفسه
العلاقات الأردنية الفلسطينية: زواج يُشرّع الخيانة
يُجيدُ الساسةُ الأردنيونَ إخفاء الشمس بغربال، حتى لو كانت شمس ساطعة كما في عز الصيف، والأكثر مقتنعون بذلك ويَجهدونَ لإقناع المواطنين بالأمر، ويعالجون أصعب المشاكل التي تعيشها الدولة بالشعارات التي...
استخدامات متعددة للمساجد في الأردن
يوجد في الأردن 5954 مسجداً ، منها 216 مسجداً تحت الإنشاء. الأرقام كشفت عنها وزارة الاوقاف والشؤون والمقدسات الإسلامية الأردنية في إحصائيات خاصة بنهاية عام 2013.ويحتل المسجد لدى الأردنيين، الذين...
عمّان... شرق الفقراء غرب الأغنياء
انقسمت عمّان إلى مدينتين، وكان عنوان الانقسام طبقياً. فنشأت عاصمة الفقراء في شرقها القديم الذي يمثل مهد ولادة المدينة الحديثة عام 1909، تاريخ إنشاء أول مجلس بلدي. وفي غربها الحديث،...