في 23 شباط /فبراير 2014، وفي أثناء مشاركته في تشييع أحد شهداء الحراك الشعبي المستمر منذ أكثر من ثلاث سنوات، أصيب شابٌ اسمه عبد العزيز العبّار مباشرة بقنبلة مسيلة للدموع، بالإضافة إلى رشات خرطوش في رأسه. وأشارت تقارير أولية "إلى أن ضبّاط الشرطة أطلقوا الرصاص على العبّار من مسافة قريبة". نقل المصاب إلى المستشفى لتلقي العلاج، إلا إن وجود شظايا من رصاص "الشوزن" في الدماغ سببت نزيفاً أدى إلى دخوله في غيبوبة. دامت تلك الغيبوبة أكثر من خمسين يوما قبل أن يعلن الأطباء وفاته في 18 نيسان/ أبريل 2014. بذلك انضم الشاب عبد العزيز العبار وعمره 27 سنة، وهو أب لولديْن، إلى قائمة طويلة من ضحايا المواجهات بين المحتجين والأجهزة الأمنية في البحرين. إلا إن ظروفاً تلازمت لتجعل من العبّار إسما متميزاً في تلك القائمة. فلقد رفضت عائلته أن تستلم شهادة الوفاة التي أصدرتها وزارة الصحة والتي تشير إلى إن سببها هو "توقف الدورة الدموية". وطالب موسى العبار، والد الشهيد، بأن تذكرالشهادة السبب الحقيقي وراء الوفاة أي الطلق المسيل للدموع وخرطوش الشوزن. لم يكن موسى العبار وزوجته وحيديْن، ولكنهما لم يكونا جزءً من جهد جماعي. لم يكن ما قاما به تفصيلاً في سيرة نضالية أو تكتيكا يخدم إستراتيجية كبرى. كانا إنسانيْن عادييْن يدافعان عن عزة نفس وكرامة إنتهكتهما رصاصات قوى الأمن التي أصابت إبنهما. لم يقفا ليطالبا بإسقاط النظام ولا حتى بإصلاحه. أقصى ما كانا يطالبان به طيلة أشهر هو حقهما في توثيق كيفية أُزهاق روح ولدهما الوحيد. نعم. لم تتوقف المسيرات التضامنية مع قضيتهما ولم تتخلف وجوه المعارضة بأشكالها عن مطالبة السلطة بإنصافهما. إلا إن موسى العبار وزوجته لم يخرجا على رأس تلك المسيرات ولم يتصدرا المجالس. هما فردان عاديان يقومان بما يتطلبه منهما الحفاظ على إنسانيتهما وإنسانية إبنٍ فقداه نتيجة فجور قوات أمن تعتبر كل متظاهر إرهابياً وتعتبر كل معارضة خروجاً على ولاة الأمر.
العين في مواجهة المخرز
رفضت السلطات المعنية الاستجابة إلى طلب العائلة التي لا عزوة قبلية أو مالية أو سياسية لها. فمن جهة، أعلنت وزارة الداخلية (التي يرأسها أحد كبار العائلة الحاكمة) أنها "ليست طرفاً في هذا الأمر، وهو بين العائلة والطبيب الشرعي"، وإن المطلوب لإتمام مراسيم الدفن هو "قبول أهل المتوفى بتقرير الطبيب الشرعي بشأن وفاته". أما وزارة الصحة (التي يرأسها وزير شيعي)، فأصدرت بيانا تؤكد فيه إن المتوفى "وافته المنية إثر هبوط في الدورة الدموية"، وإن "الإجراءات والأنظمة والقوانين لا تسمح بتغيير ما يذكر في شهادة الوفاة وسببها". ما حدث بعد ذلك كان مفاجئاً للسلطات على مختلف مستوياتها. فلقد رفض موسى العبار وزوجته إستلام جثمان إبنهما لإتمام مراسم دفنه قبل إستلام شهادة وفاة تبين سببها. وإستمرت مواجهة غير متكافئة، أحد طرفيها عاملٌ فقير وزوجته في مقابل سلطة تعودت ان تفرض قراراتها. صمد الرجل الذي يعمل في المشرحة التي تختزن ثلاجاتها جثمان إبنه. لم ينقطع عن عمله ولم يقف بباب أحدٍ ليستجدي حقه. بعد 73 يوما، رضخت السلطة فأوجدت مخرجاً يتيح لها إصدار تقرير يؤكد إن سبب وفاة هو "مضاعفات الإصابات النارية الرشية بالوجه والرأس، بما أحدثته من أنزفة بالمخ ومضاعفات التهابية وتوقف بالقلب أدى إلى الوفاة". وبهذا تمكنت العائلة من تشييع فقيدها يوم الأحد الفائت (6/7) بمشاركة آلاف المشيعين من مختلف مناطق البحرين.
ما الذي يجعل أفراداً عاديين يقومون بأعمال غير إعتيادية؟
ما فعله موسى العبار وزوجته يشابه كل مقاومة يمارسها الناس العاديون، وهي تُفاجئ السلطات والنخب فتسعى إلى إخمادها أو تحجيمها أو إحتوائها. لقد فوجئت السلطة في البحرين، وكثيرون غيرها في البداية، بجرأة زوجيْن فقيريْن على رفض قبول شهادة وفاة تبرئ السلطة من جريمتها. كما لم تستوعب السلطة ولا وسطاؤها قدرة ذلك العامل الفقير وزوجته على الصمود طيلة أشهر دون أن يودعا فقيدهما الوداع الأخير. فما أكثر المغريات التي يمكنها أن تخاطب عائلة فقيرة تسكن بيتاً متواضعاً حتى بمعايير مساكن الفقراء في القرى البحرينية. وتزداد قيمة صمود موسى العبار وزوجته في مجتمعٍ يتضمن موروثه "إكرام الميت بالإسراع في دفنه". إنتصر موسى العباروزوجته على سلطة إستخدمت مواردها لترهيبهما وإغرائهما، وحتى لتشويه سمعة عائلتهما وفقيدهما. لن يعيد هذا الإنتصار لهما إبنهما، ولكنهما ضربا للناس مثلاً يستحق أن يُعرف. ففيه أضافة لسطر في ملحمة يكتبها الناس العاديون في كل أرجاء الأرض وهم يقاومون - فرادى في أغلب الأحيان - جبروت سلطات سياسية أو مالية أو إجتماعية. لقد قدّم الزوجان وهما في قمة حزنهما شكلاً خاصاً من أشكال المقاومة. شكلٌ يقف متميزاً بين المقاومة المسلحة والمقاومة بالعمل الجماهيري، ولكنه لا يلغيهما. ولأنه شكل من المقاومة التي يمارسها بطرق مختلفة ملايين الناس العاديين، فلا جدوى من قولبته ووضع ضوابطه أو تحديد مساره. ففي هذه المقاومة يتاح للبسطاء أن يصبحوا أبطالاً بمعنى الكلمة وهم يمارسون حياتهم العادية ويدافعون في الوقت نفسه عن عزة أنفسهم وعن كرامتهم.
لم يعد دق الجدران يكفي
في رائعته "رجال في الشمس" عرض غسان كنفاني معاناة ثلاثة رجال يموتون عطشاً وإختناقاً وهم مختبئون في سيارة صهريج تنقلهم إلى حيث يأملون أن يجدوا مخرجاً من حياة البؤس التي كانوا فيها. عانى الثلاثة حتى الموت دون أن يدقوا جدران الصهريج حتى لا يُكتشف أمرهم. فلقد كانوا يظنون إن صمتهم هو أمانهم وهو الذي سيضمن حياتهم. ختم غسان كنفاني روايته القصيرة بعبارة ظلت ماثلة لعقود طويلة: "لماذا لم يدقوا جدران الخزان؟". وبدأت الصحراء كلها تردد الصدى : لماذا لم تدقوا جدران الخزان؟ لماذا لم تقرعوا جدران الخزان؟ لماذا؟ لماذا؟ لماذا؟".يستصغر كثيرون ما حدث في الربيع العربي ويقللون من أهمية الأبواب والنوافذ والشقوق التي فتحتها الحراكات الشعبية منذ نهاية 2010 في قلعة القمع العربي. ويجد بعض هؤلاء في ما تشهده االبلدان العربية من حروب أهلية وفوضى وإنقسامات مبررات للحنين إلى عصر بن علي وأمثاله. لهذا لا يبدو مهماً وتاريخيا في أعين هؤلاء أحد أهم إنجازات الربيع العربي: كسر جدران الخوف. لم تعد الناس تؤمن بأن السكوت من الذهب ولا إن الأمان في الصبر والإحتساب. بل لم يعد "دق الجدران" يكفي إلا كبداية لحراك متعدد الأشكال يشارك فيه الناس العاديون بأشكال مقاومتهم العادية، فيصنعون تغييراً في ميزان القوى لصالح مئات الملايين من أمثال موسى وزوجته.