يتذرّع سياسيو ما بعد الاحتلال الامريكي للعراق 2003 بمكسب "الديمقراطية" على أنه معجزة يجب على الشعب ارتضاء الويلات لأجلها، فيخففون على الدوام من أهمية الكوارث كلما وقعت، ويجمِّلونها بزينة "الحرية" التي يسوقونها في مؤتمراتهم وخطبهم الفضفاضة على أنها صنيعتهم المقدسة.
وعلى الرغم من أن الدستور العراقي في المادة38 /1 يكفل "حرية التعبير" وعلى الرغم من تواجد العراق كعضو في العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية الذي يشدد في المادة 19 منه على حق "حرية التعبير"، الّا أن ساسة "العراق الجديد" يدعسون هذه المواد ويبتكرون طرقاً للالتواء عليها، فيراوغ برلمانيون منذ 2011 من أجل تمرير "قانون جرائم المعلوماتية"، الذي لطالما تعرّض مشروعه لانتقادات كبيرة من قبل الرأي العام ومنظمات المجتمع المدني، الشيء الذي يضطر مريديه الى مواربته باستمرار.
قانون القضبان
يحظر دستور العراق في المادة 2/ ب سنّ قانون يتعارض مع مبادئ الديمقراطية، وفي المادة 2/ج ينص على عدم جواز سن قانون يتعارض مع الحقوق والحريات الاساسية الواردة فيه، واحداها "حرية التعبير". لكن مشروع قانون جرائم المعلوماتية قيد الاعداد ذاك يتجاهل هذه المواد إذ يكفيه تمتعه بتأييد قادة الكتل السياسية الحاكمة ومباركتهم. وقد عاد القانون للواجهة في 12 كانون الثاني/ يناير 2019 في مجلس النواب لقراءته قراءة أولى بعد تعديله تعديلاً خجولاً. ما أستفز المنظمات المهتمة بالحقوق، بل وصل الامر الى دعوة منظمة العفو الدولية في الأول من آذار/ مارس 2019 الى سحب مشروع القانون واصفةً اياه "الانتكاسة المفجعة" في حال اقراره.
يتعرض السياسيون الى السخرية رداً على وعودهم الخاوية: المالكي الذي وعد باستعادة السيطرة على الموصل خلال 24 ساعة والعبادي الذي يتهدد الفاسدين بالضرب "بيد من حديد.. وعبد المهدي الذي ابتدع مشروع "الترشيح الالكتروني" على الوزارات بداية توليه رئاسة..
يهدف مشروع القانون وفق المادة 2 منه الى "توفير الحماية القانونية للاستخدام المشروع للحاسوب وشبكة المعلومات ومعاقبة مرتكبي الافعال التي تشكل اعتداء على حقوق مستحقيها ومنع اساءة استخدام جرائم الحاسوب". يبدو ذلك نبيلاً! لكن صياغة مواده الاخرى التي وصفتها منظمة العفو "الفضفاضة" تمثل فخاً لمستخدمي وسائل التكنلوجيا، حيث تعتقد المنظمة أنه يمكن بسهولة أن يصبح بصياغته هذه "أداة للقمع" في بلد، تعاني فيه مساحة الصوت النقدي قيوداً شديدة.
السخرية كمتنفس
يتعرض سياسيون وقادة حكوميون الى تنكيل وسخرية ممتدة رداً على وعودهم الخاوية. فما زال العراقيون يسخرون من تصريح رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي - الذي فقد العراق بعهدته ثلث أراضيه لتنظيم "داعش" - الذي وعد فيه باستعادة السيطرة على الموصل خلال 24 ساعة، وذلك بعد سقوطها بيد التنظيم مباشرة. ولم ينجُ خلفُه العبادي من التعليقات الساخرة على تصريحاته التي ترفع شعار الضرب "بيد من حديد" أو وعوده بمحاسبة الفاسدين ومفاجأتهم، حتى طالت السخريةُ مشروع الترشيح الالكتروني على الوزارات، الذي ابتدعه عادل عبد المهدي بداية توليه رئاسة الوزراء في تشرين الاول / اكتوبر2018.
تمثل مواقع التواصل الاجتماعي فسحةً للعراقيين، لكنها تضيق شيئاً فشيئاً. فبعض دوائر الدولة أرغمت موظفيها على التعهد بعدم المساس بالـ"الرموز الوطنية والدينية" للبلد على مواقع التواصل الاجتماعي، وبعض الكليات و الجامعات لاحقت طلبتها الذين ينتقدون الأداء الأكاديمي الرديء بعقوبات وصلت الى الفصل.. ويبدو أن هذه المساحة قد تنعدم تماماً مع اقرار قانون "جرائم المعلوماتية".
صحافة مكبّلة
في 24 تشرين الاول/ اكتوبر2018، أصدرت "هيئة الاعلام والاتصالات العراقية" تعميماً وجهته الى وسائل الاعلام الناشطة في العراق كافة تحذر فيه من "المساس بالرموز الوطنية والدينية" وتهدد بمعاقبة المخالفين. أثار التوجيه امتعاضاً عاماً وتناقله العراقيون كبرهان على التضييق. للآن لم يُجب أحد على سؤال ماهية "الرموز الوطنية والدينية"، وفي هذا مجال كبير للتأويل. فتجربة ما بعد الاحتلال الامريكي لبغداد 2003 قامت على أساس المحاصصة الطائفية، ولكل طائفة وفئة رموزها في السياسة والدين، فمن تعتبره طائفةٌ ما رمزاً، قد يمثل لطوائف أخرى خصماً.
تمثل مواقع التواصل الاجتماعي فسحةً للعراقيين، لكنها تضيق شيئاً فشيئاً. فبعض دوائر الدولة أرغمت موظفيها على التعهد بعدم المساس بالـ"الرموز الوطنية والدينية" للبلد على مواقع التواصل الاجتماعي، وبعض الكليات والجامعات لاحقت طلبتها الذين ينتقدون الأداء الأكاديمي الرديء بعقوبات وصلت الى الفصل.
لم تنعم وسائل الاعلام والمؤسسات الصحافية في العراق بمساحة كافية لإنتاج مواد استقصائية أو الاجابة صحفياً على أسئلة الشارع. فالنظام في العراق يشيّد أسواراً بين الصحافي والمعلومة، ولم يضمّن المشرّع العراقي هذا الحق في الدستور بشكل صريح. أما مشروع قانون "حق الحصول على المعلومات" فما زال في أدراج مجلس النواب رغم المطالبات بإقراره.
في 2018 وحدها، سجل "المركز العراقي لدعم حرية التعبير" 220 حالة انتهاك بحق صحافيين واعلاميين، وقع كثير منها أثناء تغطيتهم للتظاهرات التي شهدتها البلاد والتي منعت وسائل الاعلام من تغطية بعضها.
التفنّن بالقمع
امتداداً لتظاهرات ساحة التحرير التي بدأت عام 2011 إبان حكم المالكي وقوبلت بقوة مفرطة، شهدت محافظات العراق الجنوبية صيف 2018 غضباً عارماً، بدأ في البصرة وجاء بعد سنوات سبقته من الاحتجاجات على انعدام الخدمات وتفشي الفساد. لم يُجدِ ترياق الوعود بالإصلاح مع البصريين فاستمروا بتظاهرتهم رافعين شعارات تهجو الطبقة السياسية وفسادها حتى باتت تهدد وجود العملية السياسية، فتحركت فوّهات بنادق الأجنحة المسلحة للأحزاب وتشكيلات الأمن نحو المتظاهرين العزّل، لتبدأ بذلك ما اعتقده المسؤولون الصفحة الأخيرة للاحتجاج، خصوصاً مع اشعال النار بمقار حكومية ودبلوماسية.
لا أرقام دقيقة لضحايا القمع لكن تقديرات ظهرت تقول أن الذين قضوا بالرصاص الحي تصل الى 21 مدنياً في البصرة وحدها، إضافة لمئات المصابين، واستمرت الملاحقات لمن ينقل اخبار التظاهرات أو يدعو لها على وسائل التواصل الاجتماعي. وفي خطوة تترجم عجز السلطات عن المعالجة، قامت بغداد بحظر مواقع التواصل الاجتماعي وايقاف خدمة الانترنت أيام الاحتجاج تجنباً لتفوّره أكثر وخروجه عن سيطرتها.
في الوقت نفسه كان البغداديون يعيدون احياء ساحتهم، لا "التحرير"، بتظاهرات مؤيدة للبصريين، لكنها سرعان ما قُمعت. وفي تقريرها السنوي الذي يستعرض حالة حقوق الانسان في العراق، قالت منظمة العفو الدولية ان قوات الأمن في بغداد "قامت بالقبض التعسفي على المحتجين واحتجزتهم وتعرضت لهم بالضرب واستخدمت اجهزة الصعق الكهربائي واستجوبتهم وأرغمتهم على توقيع أوراق بدون الاطلاع على محتواها قبل اطلاق سراحهم".
وقسّمت مؤسسة "دار الحرية freedom house" في تقريرها السنوي بلدانَ العالم الى ثلاثة أصناف (حرة، حرّة جزئياً، وغير حرّة بالمرّة) معتبرةً العراق، وفق أحداث 2018 ، بلداً "غير حر بالمرة"!