في السير الشخصية، هناك حيز لنساء يحملن الاسم الأول فقط وقصة، صنعن - بدون قصد - ما أنا عليه. نساء التقيت بهن لمرة واحدة، لكني أبقيت على ذكراهن وملامحهن في البال، أستدعيها حين أحلم بأني أؤرخ لحياتهن وأرويها، ورغم أني في كل مرة أفعل ذلك يكون النص بالنسبة للقصة الحقيقة لا شيء، أعود لأمحيه وأحلم بأني سأكتبه يوماً كما يجب. الآن وهنا أتمنى أني أستطيع تقديم إحداهن: بطلتي باسمها الأول في ذاكرتي ولقاء يتيم وقصة أشرقتْ في ذهني مراراً في ليالي الخوف والتراجع، قصة كانت دوماً الخطوة التي لم أتجرأ أن أخطوها، وإلهام الشجاعة الذي لم يغادرني.
في المرة الوحيدة التي التقيتها كنا مراهقات، نتشابه في الشكل العام ولدينا البشرة السمراء ذاتها. لذعتني الغيرة من مرأى أنوثتها المتفتحة باكراً، وأنا الهزيلة عديمة الملامح كما أغلب المراهقات. لكني أحببت انطلاقتها وكيف أشارت إلى مسألة تشابه شكلينا التي أفرحتني وإنْ كانت كذبة. كنا في المرحلة الدراسية نفسها لكنها أعلمتني أنها سنتها الأخيرة فهي لن تكمل الدراسة كما هو عادي وتقليدي. فهي شابة الآن، في الخامسة عشر من العمر تخبئ صدرها الناهد دلالة على النضجز لم أكن فتاة تصنع الصداقات، لكني كنت فتاة تسعى وراء الحكايات، وكانت شائعة أنها واقعة في الحب قد وصلتني. وحين أتلقيت بها صدفة، سعيت للتعرف بها، كأني من لقاء الدقائق ذاك سأسبر غورها وأعرف قصة حبها، وأطلع على كل تفاصيلها. لم يحدث هذا بالطبع، لكني على الأقل تأكدت من أنها فتاة تستحق أن تكون محبوبة.
نساء أكبر من الحرب
10-03-2016
في تلك الأيام - وما زالت تلك الأيام في قرانا ومدننا - كانت قصص حب الفتيات بالنسبة لهن أسراراً خطيرة. ليس فقط قصص الحب، بل كل ما يتعلق بالفتيات وما يدور بين الفتيات هو سر.. تتشاركه خمسون فتاة على الأقل. لكن أخطر هذه الأسرار كانت قصص الحب، مخاطرة تقْدم عليها الفتيات وقد تكلفهن حياتهن ومستقبلهن، لكنها قصص ملأى بالشغف والتضحية، مجللة بالصبر الجميل، بحرمان الليالي من لقاء أو ابتسامة، قصص حب طريقة التواصل فيها نظرة من بعيد كيلا يلمح الآخرون حركة البؤبؤ، صوت عال من تحت النافذة يقول أي هراء لكن الحبيبة تسمعه، أغنية تصدح من مسجّل قديم، ظلال مترصدة من وراء النوافذ وحركة ناعمة على السطوح وقت نشر الغسيل، كنت أسمع عن مغامرات لا يصدقها عقلي الصغير عن فتاة انتظرها حبيبها في غبش الفجر وألقى عليها التحية أمام كل صديقاتها، وعن أخرى شاهدها الجيران تبتسم له من النافذة. لكن بطلتي فعلت أكثر من ذلك، فقد قيل أنهما يتبادلان الرسائل بشكل دائم، بأن يخبئانها بجانب البئر بمكانهما السري الذي تعرفه أعز صديقاتها في حالة أنها لم تستطع الذهاب للبئر.
.. بطلتي فعلت أكثر من ذلك، فقد قيل أنهما يتبادلان الرسائل بشكل دائم، يخبئانها بجانب البئر بمكانهما السري الذي تعرفه أعز صديقاتها في حالة أنها لم تستطع الذهاب للبئر..
بعد لقائي بها بعامين تقريباً، قيل لي أن كل قريتها صارت تعرف قصة حبها. كانت قريتها بعيدة جداً عن قريتي، لكن كانت لدينا مصادرنا التي تنقل لنا تحديث أي قصة. سألت مرعوبة إن كان ذلك قد سبب لها أي أذى، قيل لي أنه كلا حتى الآن، لكن إخوتها الذكور لا ينوون لها خيراً. بعدها بأشهر، وصلنا خبرخطبتها. للحبيب ذاته؟ كلا لشاب آخر، قرر أخوها أن يخطب فتاة معجب هو بها، وكي يتفادى دفع المهر، كان من التقليدي أن يقدم الشاب أخته إن كان لدى من سيخطبها أخ، تتزوج فتاتان وشابان بدون مهر، وهذا ما حدث مع بطلتي، قاومت بكل الطرق، وبعثت لخطيبها الجديد رسائلها المفخخة بالتهديد والإهانة، هي تحب آخر وكل العالم يعرف بمن فيهم هو، وصفت لي الفتيات كيف تبصق إذا مرت من أمامه إمعاناً في إذلاله.
بالنسبة لفتاة في القرية، وبذلك العمر، كان ما تفعله جنوناً بحتاً سيؤدي لا محالة لأذيتها. وقد بدأت بالفعل أذيتها على يد أخيها. لكن ذلك الإصرار والتحدي اللذان أبدتهما جعلاني دوماً أشكك في قدرتي وإيماني بحقي وما أريد. كنت الفتاة المتعلمة التي تعرف الكثير، لكني لم أكن لأتجرأ على التفكير بما قامت به. جعلتني أقزم نفسي في تلك المرحلة. ولم تكن تلك سوى البداية، عرفت هذه الفتاة كيف تقول لا، قالتها كما لم تقلها أي فتاة قبلها، علّمتنا جميعاً أن بالإمكان أن تقول لا. هل تستطيع الحفاظ عليها، هل تدفع ثمنها أم تتراجع بسبب الخوف والألم؟ جميعنا أعتقدنا أنها في النهاية وتحت وطأة الضرب والتحقير ستستسلم وتتزوج من أرادت لها العائلة والقرية أن تتزوجه، فما معنى أنك تحب آخر؟ شيء لا يستوعبه الجميع.
اقترب الموعد الذي ستزف فيه البطلة، كانت قد استنفدت محاولاتها لإرغام خطيبها على التراجع، وكان أخوها مستمراً في ضربها وعقابها. من الأشياء التقليدية الجميلة في قرانا أن تبعث حقيبة "الكسوة" والهدايا في اليوم السابق للزفاف، في حال أن العروس سترتدي شيئاً مما بعثه العريس، مما يتيح أيضاً للصديقات والعائلة تقدير حجم الهدايا وما إذا الزوج كريماً أم لا. قيل لنا أنها بصقت عليها، ورفضت أن تلقي عليها نظرة واحدة. وفي الليل وهذا تقليدي أيضا، تبدأ مراسم الحناء، تنقش الأيدي والأرجل بالحناء الطبيعي، وتكشف في اليوم التالي عن نقوش حمراء جميلة، قيدت العروس من يديها وساقيها كي تجبر على إبقاء الحناء عليهما، حاولت أمها وأخواتها بكل الطريق إبقاءها جالسة، لكنها كانت تفر وتمسح الحناء. وفي النهاية قُيّدت. ووصفت لنا قريبة لها كيف في كل مرة يمر بجانبها أخوها يركلها ويلعنها، كيف أمضت الليل بطوله تبكي. وفي اليوم التالي كان الزواج قد حُسم، ذهب الجميع للقاضي وكُتب الكتاب، ومهما رفست برجليها، فهي متزوجة رسمياً.
قرر أخوها أن يخطب فتاة هو معجب بها. وكي يتفادى دفع المهر، كان من التقليدي أن يقدّم الشاب أخته إن كان لدى من سيخطبها أخ. تتزوج فتاتان وشابان بدون مهر، وهذا ما حدث مع بطلتي. قاومت بكل الطرق، وبعثت لخطيبها الجديد رسائلها المفخخة بالتهديد والإهانة..
في كل مرة يمر بجانبها أخيها كن يركلها ويلعنها. أمضت الليل بطوله تبكي. وفي اليوم التالي كان الزواج قد حُسم، ذهب الجميع للقاضي وكُتب الكتاب. ومهما رفست برجليها، فهي متزوجة رسمياً. لكن معركتها لم تنه حينذاك!
بالنسبة لفتاة قطعت ذلك الشوط، لم تكن تلك النهاية. متزوجة؟ فليكن، بدت هادئة في اليوم التالي، وضعن على وجهها المساحيق، التي مسحتها قبل أن تُزف إليه، لن تبدو جميلة في حضرته. وحين انتهت الحفلة وغادر الجميع، وخلى الزوج بزوجته، تربعت هي جالسة على صندوقها الحديدي، حاملة سكيناً بيديها محذرة إياه أنه إذا ما أقترب منها فلن تكون العواقب سليمة. كانت قد صرحت أنه لن يلمسها ما دامت حية، وفتاة مثل هذه تعني ما تقول. حملت سلاحها طوال أشهر، وعاشت معه في المنزل نفسه، أذلته أمام قريته كلها، وأعلنت أنه لا يملك كرامة وإلاّ لما تزوج فتاة يعرف أنها تحب آخر. عوقبت وجُلدت، تحول جسدها إلى كدمات بسبب أخيها، لكن لم يكن أي شيء ليردعها، قالت الأم أنها نفضت يديها، ولم تعد تعرف ما الذي يمكن فعله معها. بعد أشهر استسلم الزوج البائس وطلقها، فعادت لبيت أهلها منتصرة رغم معرفتها بما كان ينتظرها هناك.
كنت أسأل دوماً ما هو موقف الحبيب؟ قيل لي أن لا شيء يمكنه فعله. يبدو هذا سلبياً، وحتى اللحظة ما زال سلبياً في نظري، أن يتركها تخوض المعركة وحيدة. كان فشلاً وأنانية من وجهة نظري، لكني عرفت بعد ذلك أن حرباً كهذه التي خاضتها كانت لأجلها هي، ولا علاقة له بها. قصتها بالنسة للنساء الكبيرات في السن، كانت سخفاً وانعدام تربية، وبالنسبة للرجال كان نقص رجولة وقدرة على الضبط لدى الأب والأخ والزوج. بالنسبة لي، كانت الحكاية التي أظل أعيشها في خيالي متقمصة شخصيتها، واضعة نفسي مكانها، وكيف سأتراجع ما إن أشعر بالألم أو الخوف. وقتها لم نكن قد تجازونا التاسعة عشر، وكل ما فعلته كان يخيفنا جميعاً كفتيات. لم تحدد الأخريات موقفهن، أما أنا فكنت مسحورة تماماً بالشجاعة والثبات.
إنتقلتُ بعدها الى المدينة، وحين عدت سألت عنها، قيل لي أنها تزوجت بمن تحب، انتظرها هو ووفى بوعده، وحققت هي ما أرادت. والطريف والجميل أن أختها الصغرى كانت في طريقها لأن تكرر الحكاية ذاتها، لولا تدارك الأم للمسألة وإذعانها لرغبة الفتاة. لم أسمع عنها منذ ذلك الوقت، غادرت أنا بعيداً عن كل الأسرار المتداولة، عن كل حكايات الحب الخفية وتفاصيلها السحرية، عن المخاوف والشكوك، عن الأمنيات في ظلال الأشجار حين تريح الفتيات رؤوسهن من حمل الأحطاب والحشائش. ربما تغيرت الآن كل هذه القصص في عصر المحمول والتلفزيون، ربما اتخذتْ منحى آخر وازدادت تفاصيلها غنى بسبب المسلسلات، لكنها ستبقى أسراراً تتدولها الفتيات هامسات وضاحكات، وستبقى صاحبة هذه الحكاية، بطلتي، التي منها عرفت لأول مرة كيف تقال لا! وكيف تُحمى هذه ال"لا"، مهما كان الثمن الذي سندفعه، وعلى الرغم من أنها لن تقرأ هذا أبداً، وعلى الرغم من أنها بالتأكيد لا تتذكرني ولن أعبر أبداً في ذاكرتها، لكني أهديها كل حبي وامتناني، مختارة إياها لتكون أول بطلة لي في يوم المرأة العالمي.
بريد مؤجّل لأمي
24-08-2016