تحية صباحية تتلقاها عائشة يومياً على «الوتس أب» من زميلات العمل الذي أجبرت على التقاعد المبكر منه في عز نشاطها، صباح الخير، «افتقدنا ابتسامتك»! تشير الإحصاءات الرسمية أن المتقاعدين مبكراً يشكلون 82 في المئة من مجموع عدد الذين تقاعدوا في البحرين خلال السنة الحالية. أما المتقاعدون بسبب بلوغهم السن القانوني (وهو الستين عاماً)، فنستبهم 18 في المئة. في الأصل «التقاعد المبكر» يعني الخروج اختياريا من سوق العمل، إلا أن النسبة المرتفعة كشفت عن ظروف قسرية للتقاعد.
صديقة عائشة، مي، كتبت: «مجبرة على التقاعد المبكر، لا عمل يُسند لي كباحثة متخصصة، لا سيما بعد توقيفي عن العمل بسبب مشاركتي في الحركة الاحتجاجية. احتراماً لذاتي تقاعدت. اهتزّ تنظيم حياتي، لكني لا أزال أدمن طقسي في الصحو باكراً، أتهندم، أفطر أمام كمبيوتري في عزلتي، أبدأ عملي البحثي الذي أحب، بينما يخترق الضوء نافذة مكتبي الذي أحرص على ترتيبه بالنسق ذاته كما سابقاً، وبأشيائي الصغيرة التي احتفظتُ بها وتنقلت معي أينما ارتحلت في أعمالي. أسوأ ما في الأمر، أن لا أحد يشعر بهول إحساسي بالضياع والفقدان. أصدرتُ تعليماتي للشغالة بنسيان وجودي معها، فلا تحاول إشراكي في الطهي والكنس أو جلب المستلزمات، أن لا تحدث ضجيجاً يكسر الهدوء الذي أحتاج. ولأن توفير هذه الشروط صعب، قررتُ ارتياد المكتبة يومياً بما توفره من عزلة وهدوء». رددت مي لنفسها «وجدتها! مكتبي متنقلاً معي عبارة عن شنطة مدرسية تحتوي مستلزماتي، فطوري، قهوتي ومائي، واللابتوب الخاص بي المزود بشبكة انترنيت... وغيرها. حين انتهي بعد ثلاث أو أربع ساعات كأنني في دوام رسمي، أتوجه بصحبة صديقتي لممارسة رياضة المشي، بيد أنني أفتقد حميمية زمالة العمل، فهنا لا أحد يحادثك، لا نقاش لا تبادل آراء، بالنسبة لي هي معضلة وإشكالية».
لكل متقاعدة مبكراً حكاية تختلف، ولكن أسبابها تبقى مشتركة: واقع سياسي، قهر وظيفي، تهميش، تمييز، الخ... تضيف عائشة: «أعشق عملي، مدمنة عليه حتى قيل لي بتندر: هل سلموك «مفاتيح المدرسة»؟
تسترسل، «لطالما جاء عملي على حساب أسرتي وإرهاق جسدي، وكانت نهايته وشايات أوصلتني لغرف التحقيق ومخافر الشرطة، وتوقيفي ثم طردي من العمل بسبب مشاركتي في الاحتجاجات الشعبية في 14 شباط/ فبراير 2011». تشاركها أنيسة التي بدأت مشكلتها بسبب نشاط زوجها السياسي، وعانت «تطفيشاً» وتمييزاً طائفياً متراكماً. ولأن صورتها برزت من بين المشاركين في مسيرة مؤسسات المجتمع المدني في انتفاضة اللؤلؤة، أوقفت عن العمل، جرجرت للتحقيقات. وهي تؤكد، كما عائشة، أن «وشاية زميلات» العمل لها تأثير مضر، إذ تبين من التحقيقات أن مفصولي العمل في الوزارة التي عملتا بها هم 78 امرأة مقابل رجل واحد فقط. تردف عائشة: اضطررت لبيع سيارتي كي ادفع رسوم ابني الجامعية بعد قطع مرتباتي أثناء التوقيف. أصبت بغضب وبسلبية تجاه جهة عملي التي ظلمتني حتى بعد إعادتي للعمل الذي كنت أشغله كمديرة مدرسة. مررت بما يشبه الحرب النفسية، خصوصاً عند حضور الشرطة لأخذي أمام طالبات المدرسة ومعلماتها، وكأني مجرمة. بعد عودتي وجدت نفسي معزولة وتحت رقابة ولا عمل كي أنجزه، سوى الانتظار لنهاية الدوام. لم أحتمل، فقررت التقاعد باكراً». وتشاطرها أنيسة: «بعد عودتي جُردت من مهماتي، كنت خائفة من الفصل مجدداً بسبب أي تلفيقات، وقتها قد أخسر سنوات خدمتي، فتقاعدت، إذ ثمة شعور يتلبسني بأن عملي سرق مني».
تهم ومحاكم ثم عزل
ندى تقاعدت هي الأخرى من القطاع العام. تباينت ظروفها شكلاً، بقت معاناتها كما الأخريات. تقول: «التقاعد مريح حين يخطط له المرء بإرادته، لكن جو عملي كان غير مريح وفرص الترقي كانت شحيحة بسبب التمييز الطائفي. برغم ذلك واصلت، ولحظي العاثر، شاركتُ ضمن لقاء دعا إليه «المجلس الأعلى للمرأة» للمساهمة في مساندة المصابين وأهالي شهداء الانتفاضة، خصوصاً بعد الاعتذار الرسمي والسماح للمحتجين بالعودة لدوار اللؤلؤة. هناك تجرأت قائلة إنّ سبب الاحتجاج هو تردّي الوضع الاقتصادي والاجتماعي، وحال التمييز الذي أوصل للانفجار الشعبي. حال عودتي للعمل وبعد قمع الانتفاضة، عانيت من ضغوطات واتهمت بأني أميز بين الموظفات. الاتهام هزني وهز كرامتي، خشيت من تلفيق قضايا ضدي واستغلال توقيعي، ما قد يؤدي بي للمحاكم. كنا في أجواء بوليسية تفتَّش فيها المكاتب ويجبر الموظفون على التوقيع على وثائق تؤكد الولاء، شعرت لحظتها أن الوضع لا يحتمل فقدمت استقالتي وتقاعدت».
فقدان القيمة
للتقاعد الاضطراري تأثيرات معنوية عميقة ومدمرة، ذلك لأنه يتعلق بالشعور بالفراغ المفروض وفقدان القيمة والدافع في الحياة، والتمييز وبث الكراهية والازدراء لأسباب طائفية أو سياسية تُشحن بها بيئات العمل، وتخلق أجواء تستفز المشاعر وتجعل المعاناة تتعاظم. بالمقابل هناك من تقاعدوا طوعاً لظروف صحية أو إرهاق وظيفي كما تفيد سحر. أما دانه فارتفع التحدي لديها قائلة: رغم جرجرتي للمخافر والتحقيق، وتسريحي من عملي لمشاركتي الاحتجاجات، وتجريدي حتى من طاولة مكتبي بعد العودة، فلا نية لي للتقاعد المبكر. ظروفي لا تسمح، لن أرضخ للمضايقات، سأقاوم الحرب النفسية، الأوضاع ستتغير يوماً ما، لا زالت في مقتبل العمر ولي قدرة على العطاء.
يبقى قرار التقاعد المبكر وظرفه نسبيان يخصان كل شخص. فهو يحدث إما برغبة ونتيجة الحصول على تسوية مالية مجزية، وأما هو أشبه بالطرد القسري من العمل والانتقام، بعدما يسلط على المتقاعد قهر نفسي ومادي، بدءاً من تجريده من مهامه الوظيفية وركنه من دون عمل، فضلاً عن حرمانه فرص الترقي والتطوير والإبداع في ظروف تدفعه دفعاً للتخلص من الجحيم، إذ تضيق الخيارات إلا من تقاعد مبكر، غالباً لا يسمن ولا يغني عن جوع تحقيق الذات.