هل سينجح «مؤتمر الحوار الوطني» في اليمن، الموشك على الانعقاد بعد تحضيرات وتأجيلات، ليلج باليمنيين إلى مستقبل تاه كثيرا في ماض متخم بالقمع والفساد والحروب الأهلية؟ هل مآلات هذا الحوار ستكون مختلفة عن سابقاتها بعد اختلاف شروطه، أي بعد ثورة شبابية وشعبية أطاحت برئيس دكتاتوري حكم البلد بالقمع والفساد 33 عاما، بينما أبقت التسوية السياسية على حزبه مسيطراً على ما نسبته 50 في المئة من مقاعد الحكومة.
منذ قيام ثورة 26 أيلول/ سبتمبر 1962 في شمال اليمن ضد حكم الأئمة، وقيام ثورة 14 تشرين الاول/ اكتوبر 1963 في جنوب اليمن ضد الاستعمار البريطاني، واليمنيون يخوضون في حوارات متتالية تنتهي غالبا بحروب تسيطر بها القوى التقليدية على مقاليد السلطة وتستأثر بالثروة لتهيئ بذلك لثورة أخرى. ولعل الحوار بين شركاء الحكم بعد ثلاث سنوات من تحقيق الوحدة اليمنية المعلنة عام 1990، هو الأكثر حضورا ومرارة في ذاكرة اليمنيين. فبعد التوقيع على وثيقة تصالحية هي «وثيقة العهد والاتفاق» في العاصمة الأردنية عمان، من قبل مختلف القوى السياسية والاجتماعية، وأبرزها شريكي تحقيق الوحدة، الحزب الاشتراكي اليمني الذي كان حاكما لجنوب اليمن والمؤتمر الشعبي العام الذي كان حاكما للشمال... أزاح علي عبد الله صالح وحلفاؤه الوثيقة بحرب قادوها عام 1994 ضد الجنوب وضد الشريك في تحقيق الوحدة. ومثلت تلك الحرب بداية لتعميم نظام الجمهورية العربية اليمنية الذي كان قائما في الشمال قبل الوحدة، وهو نظام عائلي قمعي.
التسوية السياسية خارطة طريق
المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية، وهي ما يعرف بمبادرة التسوية السياسية، هي خارطة طريق مدعومة بقرارات أممية تشرف الأمم المتحدة على تنفيذها، وقد تضمنت تدابير عديدة لإنقاذ اليمن من الانزلاق في حرب أهلية، ولمعالجة الأزمة وتحقيق مطالب الثورة الشعبية. وابرز ما في تلك التسوية انعقاد مؤتمر حوار وطني تشارك فيه كل الفعاليات السياسية والاجتماعية لمناقشة أبرز القضايا المستفحلة وتحديد معالجات لها تمهيدا لتنفيذها بإرادة جمعية للعبور بالبلد إلى المستقبل.
أبرز قضايا الحوار الوطني
تمثِّل «القضية الجنوبية»، وهي قضية جنوب اليمن الذي حاربه رأس النظام المخلوع وحلفاؤه من القوى التقليدية وسحق غالبية مواطنيه، ونهب ثرواتهم، وسعى جاهدا لطمس كل معالم دولتهم، أهم قضايا مؤتمر الحوار الوطني، إلى جانب قضية صعدة. وهذه محافظة في شمال اليمن، على حدود المملكة العربية السعودية شن النظام السالف ضد جماعة فيها، هي جماعة الحوثيين المنتمين إلى المذهب الزيدي، ست حروب في خمس سنوات.
تلك هي جوهر المهمات التي يتعين على مؤتمر الحوار الوطني مناقشتها ووضع حلول لها، ضمن تحديد شكل نظام الدولة، وصياغة دستور جديد، وتحديد النظام الانتخابي المناسب، وتحقيق المصالحة الوطنية، والعدالة الانتقالية الضامنة لعدم حدوث انتهاكات لحقوق الإنسان والقانون الإنساني في المستقبل. ويمثل كل ذلك خطوات تمهد لإجراء انتخابات برلمانية ورئاسية بعد الفترة الانتقالية التي تنتهي في شباط/ فبراير 2014 بحسب «مبادرة التسوية السياسية».
تحديات بالجملة
المشكلة الماثلة أمام مؤتمر الحوار الوطني حتى الآن أن فصائل في الحراك الجنوبي ترفض المشاركة فيه، مع استمرار اعتقال المئات من شباب الثورة والحراك الجنوبي السلمي الذي انطلق عام 2007 ، وكذلك استمرار اعتقال منتسبين لجماعة الحوثيين، تنكر السلطات اعتقالهم ما يجعلهم في عداد المخفيين قسرا. وعلى الرغم من صدور قانون بتأسيس لجنة مستقلة للتحقيق في انتهاكات عام الثورة 2011 ، إلا ان تنفيذ تشكيل اللجنة لم يتقرر بعد.
تتنازع القضية الجنوبية مكونات سياسية عديدة لم تبلور قيادة موحدة ورؤية مشتركة، إذ تتقاسمها تيارات تراوح بين خياري الفيدرالية وفك الارتباط، الأمر الذي يزيد من صعوبة تحديد من يمثل الجنوبيين في مؤتمر الحوار الوطني. ومن جانب ثانٍ، هناك قوى ذات منشأ شمالي لا تحبذ الفيدرالية، خاصة حين ينحصر مقترحها بإقليمين شمالي وجنوبي، إذ ترى أن هذا التقسيم يمهد لانفصال الجنوب مستقبلا. ويقف في مقدمة هذه القوى «حزب الإصلاح الإسلامي» و«التنظيم الناصري» المشاركان في «تكتل أحزاب اللقاء المشترك»، المكون من أحزاب يسارية وقومية وإسلامية، ويشارك بنسبة 50 في المئة في حكومة الوفاق الوطني إلى جانب تسلُّم رئاستها. يضاف إلى ذلك تحديات واقعية ترتبط بالقضايا الاقتصادية والاجتماعية الموروثة، ووجود مراكز قوى عسكرية وقبلية لا ترغب في انتقال اليمن إلى دولة مدنية حديثة وديموقراطية.
12 من اصل النقاط العشرين البرنامجية مخصصة للضمانات
منذ شهر بالتمام، في 12 كانون الاول/ ديسمبر 2012 ، سلمت اللجنة التحضيرية للحوار الوطني تقريرها النهائي عن نتائج أعمالها في المرحلة الأولى التي استمرت قرابة خمسة أشهر. تشكلت هذه اللجنة من مختلف القوى بقرار جمهوري، وهي قدمت لرئيس الجمهورية المنتخب، عبد ربه منصور هادي، 20 نقطة للتهيئة للحوار الوطني.
أبرز تلك النقاط 12 بنداً تحمل مسمى «ضمانات للحوار الوطني». وقد أوصت اللجنة في تقريرها رئيس الجمهورية والأطراف الوطنية المشاركة في الحوار بتطبيقها قبل انطلاق مؤتمر الحوار. وتتضمن الخطوات تنفيذ جملة من الإجراءات لمعالجة القضية الجنوبية وقضية صعدة، مثل الاعتذار عن الحروب، وإعادة الممتلكات المنهوبة، وإعادة المقصيين إلى السلكين المدني والعسكري، بالإضافة إلى توحيد الجيش والأمن تحت قيادة وزارتي الدفاع والداخلية، وإزاحة مراكز النفوذ، والإفراج عن المعتقلين على ذمة الثورة الشبابية السلمية والحراك الجنوبي السلمي، ومداواة الجرحى، وتسوية وضع أسر الشهداء والمعاقين.
في الواقع، تتركز الضمانات على طلب الأمم المتحدة المساعدة على تنفيذ قرارات مؤتمر الحوار بوسائل مختلفة، باعتبارها شاهدة ومساندة وراعية للتسوية السياسية في اليمن أثناء الفترة الانتقالية. أما الضمانات الداخلية فتقتصر على التزام أخلاقي من المشاركين بالاستمرار في الحوار حتــى نهايتـه، وتشـكيل آلية متابعـة لتنـفيـذ مخرجات المؤتمر على أرض الواقع.
نسب التصويت العالية لتوفير التوافق
إلى جانب تمثيل مختلف القوى في مؤتمر الحوار الوطني، فإن النسبة المطلوبة للتصويت على القرارات تمثل ضامنا آخر للتوازن والتوافق، وعدم تمكين أي طرف من التحكم بنتائج مؤتمر الحوار. ذلك أن اعتماد أي قرار يتطلب نسبة 90 في المئة وهي نسبة عالية جداً (تساوي 509 مقاعد من إجمالي مقاعد مؤتمر الحوار البالغة 565 مقعدا) أو 75 في المئة في دورة التصويت الثاني لاعتماد أي قرار (تساوي 424 مقعداً). ولا يوجد مكون أو فعالية واحدة يمكنها الاقتراب من حيازة هذه الأرقام بمفردها.
وأوردت اللجنة التحضيرية للحوار الوطني في تقريرها - المنتظر صدور قرارات جمهورية بشأن الإجراءات والآليات التي تضمنها - مبادئ لتوزيع عدد المقاعد على مختلف الأطراف، تلزم كل مكوِّن أن يُمثَّل بـ20 في المئة من الشباب على الأقل، اعتباراً للدور الذي لعبه هؤلاء في عملية التغيير السلمي، إضافة إلى تمثيل النساء بـ30 في المئة على الأقل، إلى جانب اعتماد كل المكونات أعداداً كافية من أبناء الجنوب حتى يصل عددهم الإجمالي في المؤتمر الى ما لا يقل عن 50 في المئة من مجمل أعضائه.
خطوات باتجاه استعادة الجيش
أواخر شهر كانون الاول / ديسمبر 2012، أصدر رئيس الجمهورية قرارات بإعادة هيكلة الجيش المنقسم الذي يسيطر على جزء كبير منه نجل الرئيس المخلوع من خلال قيادته الحرس الجمهوري، فيما يسيطر على جزء آخر منه اللواء علي محسن الأحمر الذي أعلن مساندته الثورة الشعبية بعد ثلاثة اشهر من انطلاقها عام 2011. وقد تضمنت القرارات الرئاسية تعيين قادة ألوية عسكرية ضمن تقسيم جديد يبعد سيطرة الطرفين على الجيش. لكن المواطنين لا يزالون يطالبون بإعادة هيكلة قوات الأمن.
عقدة الحوثيين
لاقت تلك القرارات تأييدا من مختلف القوى الوطنية والدول الراعية لمبادرة التسوية السياسية... عدا جماعة الحوثيين. وبرر هؤلاء عدم تأييدهم قرارات رئيس الجمهورية بإعادة هيكلة الجيش بأنها «قرارات شكلية» و«عملية أميركية لتطويع الجيش أكثر وإخضاعه للنفوذ الأميركي واستخدامه لمصلحتهم» وهم يعتمدون على ما اكتسبوه من قوة خلال الحرب التي دارت بينهم وبين النظام قبل الثورة الشعبية. لكن اتهامات من قبل ائتلافات وأحزاب شاركت في الثورة توجه لجماعة الحوثيين بانهم يحاولون تقويض عملية الانتقال السياسي للسلطة، إضافة إلى عقدهم تحالفات مع رموز النظام السابق بهدف إفشال الحكومة الحالية التي يعارضونها. لكن الحوثيين ينفون تلك الاتهامات. ولذلك، فالتوصل الى تفاهم مع الحوثيين حول مؤتمر الحوار ووظائفه، وموقعهم ضمنه هو اليوم من أولى الاولويات.
عقدة الجنوب قابلة للحل؟
بالمقابل، شهد الجنوب انعقاد «المؤتمر الوطني الجنوبي» في مدينة عدن أواخر شهر كانون الاول/ ديسمبر الفائت. وهو مؤتمر تمكن من أن يعكس أصوات القوى الجنوبية المشاركة فيه، ويتبنى قراراً مرناً بالاشتراك في مؤتمر الحوار الوطني.
واجتهد منظمو المؤتمر الجنوبي كثيرا على مدى أشهر لتوحيد الصف الجنوبي، كما بدا ذلك من حديث رئيس اللجنة التحضيرية للمؤتمر محمد علي أحمد الذي أوضح أنه انعقد بعد نحو 168 لقاء مع فئات مختلفة في الحراك الجنوبي ومنظمات المجتمع المختلفة ورجال الأعمال وشيوخ الدين. وأشار إلى أن اللجنة التحضيرية للمؤتمر الجنوبي ضمت 92 فرداً في عضويتها، بما يضمن أقصى قدر من التمثيل الشامل للقوى الجنوبية.
أما توصية اللجنة التحضيرية للحوار الوطني بتخصيص نصف مقاعد المؤتمر لممثلي المحافظات الجنوبية، فيأتي لحث الجنوبيين على المشاركة فيه، لا سيما أنه لم يضع شروطا مسبقة أو سقفا محددا للقضايا التي سيناقشها. وهو ما ساعد على اتجاه المؤتمر الجنوبي الى المشاركة، بوجه الفصيل الذي يدعم فكرة فك الارتباط، أي الانفصال، وهو الذي يقوده نائب رئيس دولة الوحدة علي سالم البيض، والذي قال مؤخراً لوسائل الإعلام «لسنا من اليمن، نحن من الجنوب العربي ونريد أن نستعيد بلدنا».
صعوبات وأمل
كثيرة هي ومريرة، العراقيل في طريق انتقال اليمن إلى دولة وطنية، لكن الأمل يبدو من خلال اتفاق قوى سياسية عديدة على أنه لا حل لواقع البلاد اليوم سوى إنجاح مؤتمر الحوار والبناء على نتائجه. وهو ما أكده الأمين العام للحزب الاشتراكي اليمني، الدكتور ياسين سعيد نعمان، قائلا ً «هذا البلد يجب أن يتجه نحو مسار مختلف، ويصنع مستقبلا بفضل مسار سياسي هو الحوار بين الناس (...) ورفض الإقصاء، على عكس مراحل سابقة كانت فيها الغلبة والانتصارات الوهمية هي الطاغية، وسط شعور بعض النخب أنها حققت هذا الانتصار أو ذاك إذ تقصي الآخر».
يفترض بالمؤتمر العتيد أن يجسد هذه المقاربة، وهي فلسفة قائمة على تطلب التوافق، والصبر والبحث عن تسويات من أجل التوصل إليه، كسبيل لمواجهة مشكلات اليمن وتجاوزها.