السياسة النقدية شأن في غاية الأهمية والخطورة. إدارة عملة بلد ونظمها المالية مهمة معقدة فنياً وتحتاج إلى طاقم عالي التعليم والتدريب وثاقب الرؤيا والحس الوطني. ولكن نظام "الانقاذ" وضع السياسة النقدية في السودان في أيدي ثلاثي يتكون من رجال أمن، وبعض "المهنيين الاقتصاديين"، ومهندسي برمجيات لا علاقة لهم بعلم الاقتصاد من قريب أو بعيد.
كانت غايات هذا الثلاثي من وراء السياسات التي تمّ فرضها هي التالية:
1- أراد رجال الأمن التأكد من أن بنك السودان سيقوم دائماً بطباعة العملة لتوفير الأموال التي يطلبها جهازهم لتمويل آلته القمعية وميليشياته ونهبه الفسادي.
2 – تم تعيين الكادر المهني، من ذوي التدريب الجامعي، في مناصب قيادية وحساسة بناء على ولائهم للتنظيم وليس بناء على امتلاكهم للتأهيل المناسب. وحتى أذا ما ارتبط الأمر بقضايا يفهمونها، تراهم يسبحون مع تيار الأمن حتى لو كان فيه ضرر عظيم على الاقتصاد. وهم فقط سعداء بالحفاظ على وظائفهم ومخصصاتهم ويفعلون كل ما يطلبه رجال الأمن أو مؤسسة الرئاسة.
3 - ثم هناك دور غاية في الأهمية، وهو ما يقوم به مهندسو البرمجيات الذين اكتشفوا أنهم يستطيعون مراكمة المزيد من الأمجاد المهنية البرمجاتية، والثروة، بالعمل مع "الانقاذ" حتى لو كانت هذه الأمجاد تأتي على حساب تكاليف باهظة على عافية الاقتصاد ومصلحة المواطن.
هذا الثلاثي صنع الأزمة النقدية وشح السيولة. كان هدف كادر الأمن والكادر الاقتصادي هو احتواء التضخم الكامن وتدهور سعر الصرف الناتج عن عمليات الطباعة غير المسؤولة للعملة. أما أهل البرمجيات فقد كانوا وما زالوا شريكاً مهماً كمساهم أصيل ذو رأي في تصميم السياسة النقدية، على الرغم من أنهم لم يدرسوا شيئا عن الاقتصاد. وربما أوصى هذا الطاقم البرمجياتي بصناعة أزمة سيولة نقدية حادة كمقدمة لإجبار الناس على تبني آليات الدفع الإلكتروني كحل لها. وهنا تتقاطع الطموحات المهنية لأهل البرمجيات مع هدف النظام لتعزيز قبضته الشمولية عن طريق تعميم نظام الدفع الإلكتروني. فسوف يَستخدم النظام السجل الإلكتروني لجمع المعلومات الاقتصادية والتجسس على كل الأموال والمعاملات التجارية، ليتمكن على سبيل المثال من استخدام المعلومات المكتسبة الكترونياً في فرض الضرائب على الدخل والثروة والمبيعات. كما يمكنه من استخدام المعلومات لمعاقبة خصومه التجاريين والسياسيين، وسرقة أسرار رجال الأعمال المغضوب عليهم ونقلها إلى منافسيهم الموالين للنظام. وهكذا يتيح نظام الدفع الإلكتروني الإلزامي تشديد القبضة الاستبدادية لحكومة مفترسة، بتوسيع هيمنتها على الاقتصاد، الشيء الذي سوف يقضي على ما تبقى من رجال ونساء الأعمال المبدعين ويفاقم من وتائر هروب رؤوس الأموال المالية والبشرية.
الفئات النقدية الورقية المطروحة لامتصاص غضب الناس تتناسى أنها تعبير دال عن مقدار التضخم القائم: هي مئة الف وليست مئة جنية على سبيل المثال!
كان مخطط فرض نظام الدفع الإلكتروني يسير كما هو مأمول منه. فقد أطلقت الحكومة سلسلة من التصريحات تشير إلى ادخال هذا النظام حيز التنفيذ على نطاق واسع في بدايات عام 2019 . ولكن انتفاضة كانون الاول/ ديسمبر 2018 فاجأت الحكومة وأفسدت خططها. فتحت ضغط نيران الغضب الشعبي هرولت الحكومة لاحتواء المد الثوري بإعلان انها سوف تحل أزمة السيولة بصورة نهائية عن طريق ضخ أوراق من فئات 100 و200 و500 جنيهاً. وهذا لا يعني موت فكرة نظام الدفع الإلكتروني ولكن الحكومة سوف تتريث وقد تتبناه كخيار ليس وحيدا.
يحقق النظام بذلك مكسباً بتصويره طرح العملة من تلك الفئات كاستجابة حميدة لرغبة الناس في تجاوز أزمة السيولة النقدية، بينما يموه المعنى الحقيقي لطرح الفئات الجديدة من العملة: هذه في الواقع هي بالألوف (مئة ألف وهلم جرا) وهي مقياس حقيقي ودليل دامغ على فداحة التضخم القائم وفساد سياسات النظام النقدية وجهلها.