إذا سلمنا أن جوهر تأزم الانتقال السياسي والدستوري في ليبيا هو قصور إدراك مفهوم الوطنية وتطبيقاته فكيف السبيل لإزالة هذا القصور؟ يبدأ الامر بتوضيح معاني المفهوم من خلال التوعية والتعليم والتثقيف بكافة الوسائل المتاحة، وهي كثيرة. ثم بإطلاق مبادرات عملية تصب في تجديد البنية الوطنية، ومنها إرساء مفهوم دوائر الانتماء المتصالحة، وصياغة ميثاق اجتماعي وطني يقوم على إعادة تعريف الشخصية الوطنية وبيان سماتها المشتركة والسمات الفريدة الخاصة بكل من مكوناتها، وإعادة ضبط السرديات الجمعية وتحسين أداء الذاكرة الجمعية. ولابد أن تكون هذه المعالجة اجتماعية - سياسية في المقام الأول، ترتكز إلى مقاربة قاعدية أساسها المحليات. ومن وسائل ضمان نجاعة هذه المعالجة توظيف القوى المجتمعية وعلى رأسها الشباب والنساء.
ومن خطوات تجديد إعادة بناء الدولة صياغة عقد اجتماعي يقوم على تصحيح أسس التمثيل السياسي المتوازن، وتصحيح توزيع السلطات لكيلا يحصل تركيز للسلطة، وتحسين صيغ توزيع الثروة على أسس مفاهيم العدالة الاجتماعية، وتفعيل الإدارة اللامركزية وآليات الحكم المحلي، وتحسين الرقابة والمساءلة بكافة صورهما، ونزع السلاح وتفكيك الكتائب المسلحة وفقاً لمعالجة أمنية / اقتصادية (وليس أمنية فحسب)، وإعلاء قيم سيادة القانون ومبادئ حقوق الانسان ورفع كفاءة القضاء والأطر البديلة لتسوية النزاعات.
وربما يمثل مفهوم المواطنة القائمة على احترام التعددية الثقافية واحدة من نقاط الارتكاز. ولا بد من مراعاة تراتبيةُ الخطوات. ولابد من اعتماد مقاربة كلية (holistic) للإصلاح.
هناك عدد من العوامل التي تتيح لمبادرة غسان سلامة حظاً من النجاح أكبر من مبادرات رؤساء بعثة الأمم المتحدة للمساعدة في ليبيا التي سبها. أول هو انحسار المجموعات الارهابية وعلى رأسها "داعش" وإن نسبياً. أما العامل الثاني فهو أن طول المرحلة الانتقالية قد أدى إلى إصابة أغلب القوى السياسية بالإرهاق. ويتمثل ا العامل الثالث في موجة جديدة من المصالحات الأفقية الآخذة في البروز، وهو ما يسهم في جعل المناخ أكثر ملاءمة على المستوى الرأسي. أخيراً وليس آخراً فمقاربة غسان سلامة (رئيس "بعثة الامم المتحدة للدعم في ليبيا" منذ 2017) القاعدية لتوسيع دائرة الحوار المجتمعي، والمتمثلة في الملتقيات الوطنية الممهدة للملتقى الوطني الجامع، تستحق الاهتمام. فقد أدرك حاجة المجتمع الليبي المتشظي في هذه المرحلة لبناء عقد اجتماعي جديد قبل مسألة الحسم الاجرائي لدستوره. ولكن تظل هناك محاذير لكيفية متابعة مسألة الملتقيات الوطنية والمؤتمر الوطني الجامع، كي لا تُزيد المشهد اضطراباً.
يظل هناك عامل يشكل العائق الرئيسي للاستقرار في ليبيا، وهو النفوذ والصراع الإقليمي والدولي داخل أراضيها، وهو هاجس لدى الليبيين كما هو هاجس لدى المبعوثين الأممين الذين عبر أكثر من واحد من بينهم عن وقوع عرقلة لجهوده في الوساطة بسبب تدخل دول أجنبية على المستوى الإقليمي والدولي.
الليبيون غير واثقين من أن الاستحقاقات القادمة ستنتج نقلة نوعية نحو إستعادة البوصلة، ومع ذلك، فهم لم يفقدوا الثقة في عملية استعادة الدولة فقداناً كاملاً، ولذلك، فهم على استعداد للتعاطي الإيجابي مع هذه الاستحقاقات. إلا أنه لديهم تخوفات من اجراء الانتخابات والاستفتاء في ظل فوضى السلاح والانقسام السياسي على مستوى المؤسسات وانهيار الشرعية الدستورية.
توصيات بالنسبة لاستحقاقات خارطة الطريق
• لا بد من تجنب أن تؤدي الاستحقاقات القادمة، بما في ذلك الانتخابات والاستفتاء، إلى مزيد من الانقسام والعنف، وتعظيم القيمة المضافة التي يراد أن تنتجها.
• لا بد من تجنب الدخول في انتخابات دون إطار دستوري. هذا ما تقتضيه البداهة القانونية وصحيح القانون والمشروعية الدستورية. لكن المشكلة الأساسية هي أن الاعلان الدستوري جاء خالياً من أي نصوص توجب إجراء انتخابات برلمانية ورئاسية جديدة. ومن ناحية أخرى لم يُضمّن فيه الاتفاق السياسي بعد. ومن ثم ستكون هناك حاجة لتعديل الإعلان الدستوري على نحو يضع الإطار الدستوري الحاكم للانتخابات.
• هنا يفرض نفسه السؤال الآتي: من هي الجهة التي ستقوم بتعديل الإعلان الدستوري، مجلس النواب، أم مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة. وعلام سيستند ذلك؟ كما: ما هي صيغة الإعلان الدستوري التي ستخضع للتعديل بعد التعديلات الكثيرة التي أُجريت، والتي كان التعديل السابع المستند ل"مقترح فبراير" قد جرى الطعن به أمام المحكمة العليا التي أصدرت قرارها بقبول الطعن. وقد أدى ذلك إلى انقسام مؤسسات الدولة ابتداء. لعله من الواضح أن القوى المتصارعة قد أوغلت في محاولة توظيف القانون والتقاضي كأداة سياسية وبالغت في ذلك مبالغة شديدة. هذا الإيغال وهذه المبالغة أوصلا الجميع إلى أن يجدوا أنفسهم في متاهة. ولا أحد قادر على إبصار المخرج. والكل يرتجل، وهذا الارتجال سيضاعف حالة التيه ولن ينهيها.
• هناك حاجة ماسة لتوحيد مؤسسات الدولة قبل المضي في هذه الاستحقاقات، سواء أكانت اجراء الانتخابات أو الاستفتاء. ومما يعزز من القيمة المضافة لهذه الاستحقاقات أن يتم وضع تصور شامل وواقعي لكيفية التعامل مع فوضى السلاح وهيمنة الكتائب المسلحة قبل حلول أجل الاستحقاقات، لاسيما أن هناك تقارير من منظمات ومراقبين دوليين تحذر من إجراء الانتخابات في مشهد تسوده فوضى السلاح وثقافة الإفلات من العقاب، وهو ما جاء في التقرير الأخير لمنظمة "هيومن رايت ووتش" Human Rights Watch. فحسب التقرير"إن العنف في أعقاب آخر انتخابات عامة في ليبيا في 2014 أدى إلى انهيار السلطة المركزية والمؤسسات الرئيسية، لاسيّما سلطة إنفاذ القانون والسلطة القضائية.. ما ولد حكومتين متعارضتين تتنافسان على الشرعية. نظام العدالة الجنائية انهار، ولا تزال المحاكم المدنية والعسكرية في الشرق والجنوب مُغلقة في الغالب، في حين أنها تعمل في أماكن أخرى بقدرة محدودة.. الإدارات المعنية بإنفاذ القانون والتحقيقات الجنائية تعمل في جميع أنحاء البلاد بشكل جزئي فقط، وغالبا ما تفتقر إلى القدرة على تنفيذ أوامر الاستدعاء الصادرة عن المحاكم وأوامر الاعتقال.. المحاكم الليبية ليست في وضع يسمح لها بحل النزاعات الانتخابية بما في ذلك التسجيل والنتائج" .
• لا بد إذاً من:
أ) توضيح طبيعة المؤتمر الوطني الجامع وأجندته ومشاركة أطراف ليبية محايدة (لاسيما من قوى المجتمع المدني) في وضع أجندته وفي صياغة مقررات جلساته و مخرجاته حتي يتحقق جانب المُلكية الوطنية في هذه الملتقيات وفي المؤتمر الوطني الجامع.
ب) أن يبدي جميع الأطراف التزامهم المسبق بقبول نتائج تلك الاستحقاقات والامتثال لتلك النتائج في حالة الخسارة. وقد يكون ذلك عبر ميثاق وطني ينبثق عن المؤتمر الوطني الجامع.
ت) وجود مراقبة أممية ومراقبة مجتمعية مستقلة وضمانات دولية لتحقيق التسليم السلمي للسلطة ومعاقبة المعرقلين.
• من المهم بذل أقصى جهد بغية تعظيم الاستفادة من هذه الاستحقاقات في تعزيز الوحدة المجتمعية، وتجنب أن تتمخض الاستحقاقات عن نتائج غير مرجوة مثل زيادة مستوى الانقسام. ويكون ذلك بتكثيف الجهود لدعوة جميع الأطراف الى إبداء التزامهم بالتخلي عن خطاب الاستقطاب الحاد الذي يعزز الانقسام، وقد يكون ذلك عبر ميثاق ينبثق عن المؤتمر الوطني الجامع.
• لا بد من ضمان ألا يتحول المؤتمر الوطني الجامع المقترح إلى جسم عام جديد فيزيد من حالة الاضطراب المؤسسي.
• بالنسبة للاستفتاء، لابد من الاتفاق على ماهية بنوده، وتحديد آلياته سلفاً، وبيان الموقف والبدائل المتاحة في ما إذا تمخض عن رفض المواطنين. فما الخطة البديلة حينها؟ هناك تخوف مستند إلى سوابق حصلت في بلدان أخرى تُشير إلى أن الاستفتاء قد يُسهم -عكس ما هو متصور - في رفع مستوى الاستقطاب والعنف، لاسيما إذا كانت البلاد في مرحلة انتقالية ولا تزال تشهد نزاعاً مسلحاً . كما تشير دراسات أخرى إلى أن إجراء استفتاءات شعبية في بلدان تتسم بتعدد الثقافات والأعراق قد تكون له عواقب عكس ما هو مرجو. فمع أن الاستفتاء آلية شرعية من منظور ديمقراطي إجرائي إلا أنه بمنظور واقعي قد يؤثر سلباً في وضع بعض مكونات المجتمع. ولذلك فالدرس المستفاد هو وجوب الحرص على عدم إخضاع أي من الحقوق الأساسية لأي من المكونات لاستفتاء شعبي ولحكم الأغلبية، فذلك منافٍ لجوهر مفهوم الديمقراطية التضمينية .
توصيات لبعثة الأمم المتحدة للمساعدة في ليبيا
• على بعثة الأمم المتحدة:
أ) إعادة صياغة استراتيجيتها.
ب) أن تتخذ لنفسها فريقاً استشارياً محايداً من القوى المجتمعية ومنظمات المجتمع المدني.
ت) أن تزاوج بين مسار التفاعل مع القوى السياسية ومسار التفاعل مع قوى المجتمع المدني والاستفادة من خبراتها في تطبيق خريطة الطريق.
• على مجلس الأمن / الأمم المتحدة:
أ) تعديل الصلاحيات المعطاة للبعثة لتكون أشمل بحيث تتصدى لأمور جذرية.
ب) تعديل هيكلة البعثة من حيث الموارد المخصصة لها ومدى عملها.
ت) تعديل بنية البعثة من خلال: زيادة عدد أعضائها المطلعين بعمق على الشأن الليبي والذين لديهم الخبرة بالمنطقة. وزيادة عدد أعضاء البعثة الملمين إلماماً واسعاً بمفهوم الوساطة وتسوية النزاعات لاسيما من الخبرات النسائية والذين لديهم سجل حقيقي في ذلك. إضافة خبرات متنوعة تشمل خبرات اجتماعية وجندرية ونفسية واقتصادية وتنموية في فريق بعثة الأمم المتحدة، وخبرات عابرة للتخصصات.
توصيات بشأن الوضع الدستوري
هناك حاجة لحسم موضوع الدستور قبل اجراء الانتخابات بغية الانتهاء من المرحلة الانتقالية. مشروع الدستور الذي قدمته الهيئة التأسيسية لصياغة الدستور به العديد من المشكلات الجوهرية حسب الدراسات المحلية والدولية. وحسب نتائج هذا الاستبيان فإن هناك مخاوف من تفجر أزمات مستقبلية إذا ما تم إقرار مشروع الدستور بصيغته الراهنة. ولذلك قد يكون من بين السبل التوافقية استئناف العمل بالدستور الذي عُطل عشية 31 آب/ أغسطس 1969، لتحقيق مستوى أعلى من الاستقرار، على أن تجري صياغة دستور جديد يراعي حقوق الانسان ويحترم التعددية الثقافية للبلاد ويكون مستنداً للموروث الدستوري الليبي بعد توطيد أركان الاستقرار في البلاد.
توصيات بشأن معالجة الأزمات غير السياسية
هناك حاجة لتأسيس أجسام مجتمعية قاعدية لاسيما من النساء والشباب ذات تخصصات متنوعة تُطلِق مبادرات وتستحدث منصات تضمينية تضطلع بدراسة الأزمات على المستويات الأخرى المذكورة، دراسات تنطلق من مقاربات كلية يختلف نطاقها من حالة لأخرى، وتطلق مبادرات وحلول عابرة لمستويات التأزم .