تابع الرعايا العرب، بكثير من الفضول والدهشة حد الانبهار أحياناً، العملية الانتخابية في لبنان، والتي لعنها اللبنانيون وداخوا في حل لغز "الصوت التفضيلي" المقتطع من النظام النسبي.. وإن كان "المنتصرون" فيها قد أشعلوا الفضاء برصاص الإبتهاج، وهو في حقيقته رصاص "الشماتة" بالخصوم الذين اسقطتهم ــ في تقديرهم ــ "الإرادة الشعبية".
ففي الوطن العربي الكبير، لا يعرف ملايين الملايين من الرعايا ما هي الانتخابات، فضلاً عن لغز "الديمقراطية"، فكيف يمكن أن نشرح لهم "النسبية" ثم "الصوت التفضيلي"، ومعظم اللبنانيين تقبلوا القانون الجديد مرغَمين، وتبرع بعضهم بشرح "الغموض البناء" في القانون لضمان نتائج نزيهة لعملية الاقتراع.
صحيح ان الحمى الطائفية والمذهبية كانت العنصر المقرر في نجاح هذه اللائحة أو تلك، وفوز هذا المرشح بدلاً من ذاك، ولكن عملية "الانتخاب" تمت بهدوء ومن دون ضحايا تقريباً.
.. هذه الحمى وتسعيرها بين الأشقاء العرب، بعد فرزهم كسنة أغنياء، كما في السعودية وأقطار الخليج من جهة، واليمن من الجهة الأخرى.. هذه الحمى تقتل الناس رجالاً ونساء وأطفالاً في اليمن، فكيف سيكملون مسيرتهم نحو الديمقراطية، والدكتاتورية تتربص بهم في الداخل فإذا ما هم نجحوا في لجمها، تحركت اطماع "الأشقاء الأغنياء" في بلد الحضارة الفقير، فعمدوا الى النفخ في نار الفتنة تمهيداً لأن يدفعوا "جيوشهم" بالمرتزقة فيها من أمثال مجندي "بلاك ووتر"، والطيارين الأجانب، ليهاجموا فيدمروا المدن والقرى والدساكر، "بالتعاون" مع مرض الكوليرا الذي يفتك بآلاف آلاف الأطفال الذين لا يجد أهلهم لا المستشفيات المؤهلة والأطباء ولا الأدوية اللازمة.
بطبيعة الحال، يمكن للبنانيين الأشاوس أن يعتزوا بهذا التميز في العلاقة بالديمقراطية الطوائفية التي تقسمهم قطعاناً، اذا ما قارنوا أنفسهم بأشقائهم العرب، الذين تصدر "نتائج" الانتخابات، رئاسية على وجه الخصوص، ونيابية وحتى بلدية، من دون أن يتكبدوا عناء الذهاب الى صناديق الإقتراع، فثمة من "يصوت" بالنيابة عنهم، تكريساً للديمقراطية وتثبيتاً لحرية الشعب في التعبير عن رأيه..
ومن أسف فإن عدداً من الدول العربية كانت قد عرفت "نوعاً" من الديمقراطية والانتخابات النيابية والرئاسية الحرة، منذ أواسط الأربعينات (سوريا والعراق)، وذلك قبل انتخابات 1947 الشهيرة بتزويرها المبدع في لبنان.. لكن ذلك النوع من الديمقراطية الذي سمح لأحد صحافيي دمشق بأن يضع عنواناً من كلمة واحدة على طول الصفحة الأولى من جريدته، يهاجم فيها رئيس الجمهورية آنذاك، تلقاها هدية، الراحل شكري القوتلي لأنه "ضُبط" وهو ذاهب الى مزرعته في الغوطة في سيارة كاديلاك يقودها سائقه الخاص وأمامه شرطي دراج يفتح له "الطريق" في قلب الأحياء الشعبية.
كان عنوان الصفحة الأولى لتلك الصحيفة يومها، في النصف الثاني من الأربعينات كلمة واحدة: "الطغيان ..." !
بماذا يمكن ان توصف مواكب الرؤساء والوزراء والأعيان النافذين إذا ما قورنت "بموكب" الرئيس الأول للجمهورية السورية بعد جلاء قوات الاحتلال الفرنسي وانتخابه في المجلس النيابي المنتخب ديمقراطياً.
صارت الديمقراطية في الوطن العربي عموماً، مع استثناء لبنان ومعه المملكة المغربية، "بدعة" و"ضلالة" و "خروجاً على طاعة الله ورسوله"، و "تقليداً أعمى" للغرب الاستعماري ومن ضمنه "الكيان الإسرائيلي" حيث تجري انتخابات الكنيست في موعدها المقرر، وحيث ينتخب رئيس الوزراء ويعزل اذا ما فقد ثقة النواب (الذين يفترض انهم يمثلون "الشعب" الذي يحمل أفراده عشرات الجنسيات الأجنبية التي تدل على مصادر استيرادهم ليكونوا "شعب الله المختار").. ولكي يهزموا الجيوش العربية في ثلاث حروب متوالية ( 1948-1967-1973). هذا اذا ما قفزنا عن حرب اقامة الدولة العبرية التي امتدت لأكثر من عشرين سنة، وعمليات شراء الأرض الفلسطينية بالثمن، لا سيما تلك التي كان أصحابها من أهل الإقطاع ورأس المال في فلسطين ذاتها كما في لبنان وبعض سوريا والعراق.
هل كان الماضي السياسي القريب للعرب أفضل من حاضرهم؟
وهل يمكن أن يتحقق للعرب في المستقبل المنظور غد أفضل من يومهم، لاسيما في مجالات الاعتراف بالإنسان العربي كمواطن هو المرجع في اختيار حاكمه بالانتخاب الديمقراطي، أي بحرية لا تزييف لها ولا ارتهان، لا عسكر فيها هم أصحاب القرار، ولا حماية أجنبية لموارد بلادهم الهائلة التي تنهبها وتتحكم فيها الأسر "ذات الأمجاد النبيلة" وتحكم الناس بالسيف والدينار؟
وبالعودة الى لبنان، لا بد من طرح السؤال الشرعي: كيف تُبنى الديمقراطية في الدولة التي تعتمد الطائفية والمذهبية شرطاً لمنح المواطن – الرعية حقه البديهي في أن يكون له رأيه في نظام الحكم الذي يلغيه عندما يفرض عليه أن يختار بين مواطنيته وبين دينه أو مذهبه أو طائفته؟ ان الطائفية هي أبشع أنواع الديكتاتورية وأقذر سلاح في مواجهة المواطنة.. فكيف تصح انتخابات إذا كانت الطائفية والمذهبية بعض أركان قانونها؟ ومن المضحك – المبكي أن الدكتاتوريات في الوطن العربي اندفعت تهنئ النظام اللبناني، الفريد في بابه، على انجازه التاريخي بإجراء الانتخابات النيابية بعد تأخير موعدها لثلاث سنوات من الديمقراطية بالتمديد.