عن موقع حبر الأردني
قبل أسبوعين تقريبًا (نشر هذا المقال في موقع حبر بتاريخ 10 نيسان/ إبريل)، اُحتفي بالذكرى الخمسين لمعركة «الكرامة» احتفاءً تتصدّره السياسة، وتتوارى عنه الشعوب وذاكرة الشهادة والبطولة الحقيقية، احتفاءً يعلو بواسطته نحتُ المعركة في سياقاتٍ عابرة لكلّ المعضلات السياسية على أيّ نظرة ثاقبة للمعركة في سياق نقدي وضمن مفاعيلها اليوم. في هذا المقال نستعيد المعركة، في محاولةٍ منّا لتأصيلها ضمن الاتجاه الثاني. لا ندّعي هنا التورّط في التفاصيل العسكرية للمعركة، بقدر التورّط في البنيان السياسيّ الذي أنتجته «الكرامة» بالنسبة لفلسطين والأردن، وموقعها من الوعي الصهيوني العام، فضلًا عن تتبّع ظلّها الرسمي وما تبقّى منها اليوم وما عُدَّ مجالًا حيويًا للطمس والتسييج أو لمواراة المعنى وتحويره.
لطالما استدعى اجتراح الأسطورة الحاجة الملحّة إلى بنائها، وشروط السياق التي ارتفعت بموجبها إلى هذه المكانة، مقابل تآكلها حينما يفتر الإجماع على تلك الحاجة، فتنتهي وظيفتها السياسية ومشروعيتها الحقيقية بالدرجة الأولى، وتتحوّل لنمطٍ من التندر أو الحنين إلى المفقود. وهكذا كانت معركة الكرامة التي تكثّفت فيها الرمزية والمآل السياسي على حساب الحصيلة العسكرية، إذ جاءت في ذروة تطلّع الإنسان العربي لانتشاله من حالة الخذلان والهزيمة التي اعترته بعد حرب الأيام الستة، هذه الحرب التي أنتجت سردياتٍ جديدةً كان من بينها أن الصهيونية أتمّت دورها، وأن النصر الساحق الذي حققته كان قطعيًا ونهائيًا. في هذا الوقت، أتت معركة الكرامة لتستأنف على هذا الوعي الاستعلائي على «الأعداء» العرب، وأحدثت كوّة في منظومة الردع الصهيونية التي خلقتها حرب الأيام الستة، بإثبات أن ثمّة من تبقّى ليقاتل «إسرائيل» ويصنع مقولات مغايرة عما فرضته الحرب آنفًا.
خلق تعدّد الأطراف المشاركة في المعركة رواياتٍ مختلفةً عنها؛ تشترك جميعها في أنّ انحيازات كلّ منها ووظائفها السياسية هي مَنْ نَظًمَت تلك الروايات، ليتغلّب الطابع الانفعالي الدعائي على المقولة العقلانية في أحايين كثيرة، حتى إن شكل المواجهة لم يتم صهره في مركبٍ واحد، متنقّلين بسردية المواجهة النظامية بين جيشين إلى أخرى تتعدّاها نحو مواجهةٍ بين جيشٍ نظامي ومقاتلي حرب العصابات. لم تخلُ هاتان السرديتان من إفقار هوّيةٍ مُشاركةٍ على حساب أخرى، إلى حدٍّ تم فيه تذويت هذه المسألة، وتأبيد الانتصار باعتباره علامة ًمسجّلةً باسم إحدى السرديتين على حساب أخرى. غير أنّه يمكن لنا اعتبار أن «الكرامة» قد شكّلت نقطة مفصلية حدّدت الخطّ السياسي للفلسطيني أكثر من الأردني، وذلك على مستوى قياس المرحلة البعدية لها، وهو ما سنتوسّع فيه لاحقًا.
«الكرامة» من منظور الثورة الفلسطينية
لم تنبع أهمية المعركة من إزاحتها وعيًا وحملها آخرَ جديدًا فحسب، بل من المآلات التالية؛ أولًا تشكيلها موقعًا مهمًا للهوية الفلسطينية، وثانيًا استحكامها بدور استحالة الحركة الفدائية الفلسطينية حركةً جماهيريةً، وثالثًا أسطرة شخصيات بعينها مثل ياسر عرفات، بل واعتبار «هزيمة» «إسرائيل» نتيجةّ جزئية لقيادته وشجاعته»1، ورابعًا الانفتاح على منطق البناء الدولاني2 بعد المعركة مباشرةً، والذي استحال فعالًا في «ظهور حقل سياسي وطني، وفي البحث عن ميادين مؤسساتية مشتركة، دون أن يعني ذلك أن الطموح الدولاني كان واعيًا وثابتًا، وأن التنظيمات الفدائية جميعها كانت تشترك فيه»3. كل هذه المآلات دفعتها، بالضرورة، رمسنةُ الشعوب لنتائج المعركة وتصديرها أبطالًا في زمنٍ ظُن فيه بصعوبة الدفع بذاكرة البطولة من الماضي إلى الراهن. أبانت «الكرامة» عن ثنائية «النزعة»، لتتمكن تداعياتها من ترسيم حدٍّ فاصلٍ للحركة الفدائية بين نزعة وطنية قُطرية ضيقة تعبّر عن نفسها في الاتساق مع منطق «الدولة» والتي فتكت بنا اليوم على هيئة «سلطة فلسطينية»، وأخرى صهرت انتماءها الفلسطيني في هويات عربية وطبقية أوسع، وصانت هويتها الأخلاقية والسياسية إجمالًا ضمن سقف خطاب الثورة الحقيقي.
بذلك، مثّلت «فتح» بعد المعركة الاتجاه الأول، وجسّدت، كما يقول الباحث والمؤرّخ يزيد صايغ، سعي البرجوازية الصغيرة المهمّشة، التي لا دولةَ لها، للحصول على إطار سياسي مستقل ذاتيًا، ومثّلت طبقًا لذلك النزعة الوطنية القٌطرية الوطنية الفلسطينية الناشئة، والسعي من أجل السيادة والاعتراف القانوني4.
نجحت «الكرامة» في إرساء عملية طرد وإحلال عنيفة للهوية الفلسطينية على مستوى «الأيقنة»، فحلّت صورة الفدائي الثائر الحامل للسلاح محلّ الفلسطيني اللاجئ
تمظهرت هذه النزعة، بالضرورة، في سيطرة «فتح» على صوت منظمة التحرير الفلسطينية بعد المعركة بأشهر قليلة، وفي اتساع قاعدتها الجماهيرية التي تمّ تعبئتها عبر الفعل العسكري، دون أن يكون لذلك محمولٌ اجتماعي موازٍ. بمعنىً آخر، نجحت «الكرامة» في إرساء عملية طرد وإحلال عنيفة للهوية الفلسطينية على مستوى «الأيقنة»، فحلّت صورة الفدائي الثائر الحامل للسلاح محلّ الفلسطيني اللاجئ، وهو ما انعكس حتى على الملصقات الفلسطينية التي شكّلت فيها «الكرامة» محطةً أساسيةً. كما استحال «الكفاح المسلّح» الشرعية الأساسية ما حوّله إلى مطية وظيفية للتنافس بين عناصر الحركة الفدائية على استملاك الشعب والرمز والخطاب، وتسويق ذلك للخارج لضمان الدعم الماديّ.
على وقع ذلك، أكدت تداعيات «الكرامة» أن الوظيفة الأساسية للكفاح المسلح لم تكن في الواقع وظيفة عسكرية، كما أن «الوظيفة السياسية التي كان يؤديها الكفاح المسلح ارتبطت، من جهة، بإيجاد الرموز والأساطير للخيال الوطني، ومن جهة أخرى بالتنافس بين مختلف التنظيمات لتأكيد خطابها، لتقرير وجهة التطوير المؤسساتي الفلسطيني وهدفه»5. معنى ذلك أن الإصرار على التمسّك بالسياسة النظرية لـ«حرب العصابات» ساهم في التغطية على غيابها أحيانًا ممارساتيًا، إذ لم يكن لـ«حرب الشعب» الحقيقية أي أساس في الواقع الاجتماعي والاقتصادي المحلي، وما كان يتحقّق هو عمل عصابي انتقائي أكثر من كونه «حرب عصابات»، حتى في المعركة نفسها.
إن التثمير السياسي لمعركة «الكرامة» دفع لإيهام كثيرين بأنّ تكتيك «اضرب واهرب» بات خلف ظهر الحركة الفدائية، توازيًا مع تصوير دخول الأخيرة مرحلة «المواجهة المحدودة» أو «الاحتلال المؤقت»، وغيرها من صيغ المغالاة، وهو ما يفسّره الطموح الزائد الذي خلقته ارتدادات «الكرامة» في كسب الرهان العربي الرسمي على الحركة ككل، والذي ينعكس بشكل أساسي على الدعم المادي من قبل الخليج العربي تحديدًا، الأمر الذي ولّد تناقضًا بين المقاربتين البلاغية والوظيفية تجاه الكفاح المسلّح إجمالًا. لا يعني ذلك استعارة الجميع لهذا المنطق، فثمة من عاش الواقع ولم يقفز عنه، في إحالةٍ إلى مرحلة «تخليق المناخ الثوري، وتطوير الأداة الثورية القادرة على ممارسة العمل الثوري، وصولًا لمستوى شن حرب التحرير الشعبية»6، معتبرًا أن الفدائيين يحتاجون إلى «هانوي عربية» كي ينتقلوا إلى المرحلة الأخيرة.
إنّ الرجوع إلى «الكرامة» لا يمثّل استحكامًا بالماضي فحسب، بقدر ما يعبّر عن كشفٍ حقيقيٍّ لراهنيتها، على اعتبار أن ما تمخّض عنها شكّلَ النظام السياسي الفلسطيني في هيئته الحالية تحديدًا، كما شكّلَ اختبارًا جادّا للمواقع بين الفدائي الفلسطيني والنظام السياسي الأردني إزاء كليهما، والذي انتهى به الحال إلى أحداث «أيلول الأسود». تقول القاعدة أنه كلما تمكّن أي جيش نظامي من استجماع قواه، يُضحي التجاوب مع أي قاعدة فدائية آمنة مكلفًا من جهته، وهكذا كانت «الكرامة»؛ فباستعادة الجيش الأردني عافيته وصورته التي كُسِرت بسبب حرب 67، صارت القدرة على تحمّل القاعدة الفدائية وتبعاتها على المحكّ، خصوصًا أن تلك القاعدة الآمنة بعد المعركة أتاحت للفدائيين ممارسة سلطتهم الكاملة، وحوّلتها إلى ما يقارب المجتمع الثوري المصغّر. ارتفع مستوى الفعل النضالي ضد العدوّ بعد «الكرامة» إلى مستوى غير مسبوق، فشهد شهر حزيران من ذات العام 90 عملية، وزاد في العام 1969 بمعدل شهري بلغ 203 عملية، ثم إلى 231 عملية شهريًا عام 1970 حتى الحرب الأهلية. بالمقابل، لم يلتزم العدوّ بالرد فقط على الفدائيين، بل شنّ غاراته على قواعد القوات العربية في الأردن، واستهدف المنشآت الاقتصادية للبلاد وميناء العقبة بقصفِ شديد بعد تعرّض «إيلات» لهجومٍ بالصواريخ في شهر نيسان 1969. أدى ذلك إلى تعطيل مشروع قناة الغور الشرقية، وإفراغ وادي الأردن من سكانه (100 ألف نسمة)7. كان ذلك بهدف إعادة نصب سؤال الجدوى من تلك القاعدة أمام ناظريْ الأردن، وفقًا لقاعدة الربح والخسارة من المنظور القُطري الضيق، وصولًا إلى إقناعها بضرورة تفكيك مبدأ احتوائها.
عن «أسطورية» المعركة
أسقطت معركة «الكرامة» حسابات النصر العسكري من زاوية صرف، لتقفز إلى المقدمة المسألة السياسية وخطّ الجماهير، وتنتقل بموجبها إلى مصاف المعارك التاريخية الكبرى، على الرغم من عدم توفّر شروط «تاريخيّة» المعارك فيها بالمعنى الحِسيّ، إذ إنّ تلك «التاريخيّة» تتطلّب حسمًا نهائيًا لمفهومي الانتصار والهزيمة، بانتقال «المنتصر إلى مرحلة السيطرة الكاملة وإبادة الجسم الرئيسي للعدوّ، أو إجباره على التبعثر والفرار مع فقدان تماسكه وانضباطه»8. بإسقاط ذلك على «الكرامة»، نجد أنّ الحسم النهائي لم يكن متوفّرًا كشرطٍ للانتصار العسكري عند الطرفين، فمن جهة حقّق العدو هدفه المحدود بتدمير قاعدة الحركة الفدائية وقتله وأسره عددًا من الثوار الفلسطينيين، ومن جهة أخرى عاد أدراجه محمّلًا بالخسائر والأخطاء التي كان بإمكانه تجاوزها أثناء سير المعركة. لكن ما ألبس هذه المعركة نمطًا تاريخيًا هو المزاج الجماهيري العام والظروف الذاتية والموضوعية العامة؛ بمعنى إعلاء الهدف السياسي على التكتيك العسكري، والذي أنتج جماهيرَ عربيةً تتواصل مع مكامن القوّة فيها واحتمالات الثورة المخبوءة بداخلها، وبشكلٍ ليس مشروطًا بفعالية الجيوش العربية إجمالًا.
تأسيسًا على ما سبق، يمكننا القول إنه كان ثمّة تنازع على قرار الذهاب إلى المعركة من قِبل الحركة الفدائية، مردّه غالبًا إلى الانفعال بالقانون الماوي لحرب العصابات أو ما يطلق عليها «حرب الغوار»، وقياس مكامن القوة والضعف التي يمكن التحايل عليها، على اعتبار أن حرب العصابات تكون فيها الذات الفدائية هي الأنا العليا، بفرضها المعركةَ على الخصم، دون أن يفرض العدوّ عليها ذلك، فضلًا عن ضرورة الالتزام بجولات خاطفة قصيرة ضد العدو، تحقق فيها أهدافها العينية كلّ مرة وتستمر في خطها الأفقي الثوري الأرحب، بشكلٍ يكبح استنزافها ويتيح لها أيضًا تأمين نفسها من الانكشاف والتحطّم أو الإبادة. بمعنى آخر، لم يُفقِد فقدانُ تلك الشروط في «الكرامة»- تحديدًا من جهة تواضع قدرات الفدائيين على مستوى العدد والذخيرة والتأهيل العسكري- الرغبةَ العارمةَ، خاصةً من جهة «فتح»، في أخذ حسّ المغامرة السياسية إلى مداه الأقصى في التجريب، على عكس الجبهة الشعبية التي آثرت عدم الانخراط في المعركة للاعتبارات التي سبق ذكرها. كانت النتيجة بالمحصلة أن أثبتت المجازفة نجاعتها، كما قيست نتائج «حرب العصابات» بالتأثير النفسي والدعائي، وشكّلت رغم التدمير والخسارة طرازًا من السلطة السياسية بمعيّة الشعب، التي أتاحت لها «الكرامة» الانفتاح على مختلف المخيمات والمدن، كما أعلنت «فتح» في عددٍ لمجلة «الثورة الفلسطينية» الصادر في شهر نيسان من العام 1970 أنّه كان لا مناص من خوض المعركة «لمواجهة القوى المضادة للثورة في الحكم الهاشمي»9، بمعنى أن المجابهة كانت ضرورية لتحصّن الحركة الفدائية نفسها من الاقتلاع من المنفى (الضفة الشرقية/ الأردن) كقاعدة آمنة، تضمن من خلالها أن تكون الضفة الغربية ساحةَ المعركة الفعلية، خصوصًا بعدما تعرّضت القاعدة لحملة تطويق قادتها القوات الأردنية قبل حوالي شهر ونصف من «الكرامة» (2 شباط 1968)10، بل قيل حتى إنّ المخابرات الأردنية اجتمعت قبل أيام معدودة من اندلاع المعركة مع قيادة الثورة الفلسطينية، وطلبت منها التراجع في عمق الأراضي الأردنية وعدم القتال11، وهو بالضرورة ما انعكس على عدد من الروايات الفلسطينية التي اعتبرت أن المشاركة الأردنية كانت نابعةً من عقيدة ورغبة أفراد في الجيش الأردني، وعلى رأسهم مشهور حديثة الجازي أكثر من كونها رغبة نظامٍ سياسي كان قد أبدى امتعاضه من العمل الفدائي في وقتٍ سابقٍ على المعركة.
«الكرامة» في التاريخ العسكري الصهيوني
صحيح أن الوعي الصهيوني العام لم تشكّله معركة «الكرامة» بقدر ما شكّلته معارك 1948، غير أن المعركة دفعت الوعيَ ذاتَه إلى نقد ذاتِه، خصوصًا من جهة التاريخ العسكري الصهيوني. اللافت هنا أن هذه الرواية العسكرية قاربت المعركة بشكلٍ يتجاهل اعتبارات الروايتين الفلسطينية والأردنية، ويتضمّن مساءلةً للجيش على نحوٍّ تتسامى فيه الفعالية العسكرية على أيّ حسابات أخلاقية أخرى أو تضليلٍ بإمكانه أن ينقذها على مستوى الخطاب الشعبوي، وتتعثّر به على أرض الواقع والمنجزات المادية. ففي مجلة «معرخوت» التابعة للجيش الصهيوني، نقرأ مقالًا مفصلًا كتبه مقدّم باسمٍ يبدو مستعارًا حول معركة الكرامة أو ما يطلق عليها في الأدبيات الصهيونية «عملية الجحيم»12، مستفيضًا في شرح تفاصيل المعركة ومسارها، وساردًا ما أسماها «الدروس المستفادة على المستوى التشغيلي والاستراتيجي» للأطراف الثلاثة، فضلًا عن خطوطٍ موجزة أخرى على مستوى الموضعية والتكتيك.
تؤكّد المقالة (رواية الجيش الصهيوني) أن التدخّل الهائل للجيش الأردني كان أسلوب حرب شكّل تغطيةً مهمةً على الفدائيين وأحبط المرونة والبطء اللذين يمثلان النتائج الضرورية لهكذا عمليات، وهو ما منح «المنظمات الإرهابية»- على حدّ تعبيرها- وقتًا كافيًا للهروب من منطقة القتال والأسر. يتوصّل الكاتب بذلك إلى أن «القضاء على حرب العصابات سيتحقق في حرب استنزاف؛ عبر سلسلة من العمليات المحدودة التي تقاس فعاليتها ضمن التوازن العام للقتال، وليس في ضربات المرّة الواحدة»13، والأخيرة هي ما تمثّل حتمًا الاتجاه العملياتي الذي اندفع نحوه الجيش الصهيوني في «الكرامة»، معتبرًا أن التجربة أظهرت أن مثل هذا الاتجاه كان ضرره أكثر من فائدته، فكان مُكلفًا لهم ومربحًا لمقاتلي حرب العصابات تحديدًا، ولذا صار من الممكن التعاطي مع المعركة كنصر عربي، أفضى إلى المزيد من إغناء وادي الأردن كقاعدة آمنة للإنسان الفلسطيني، وإلى زيادة التعاون بين الفدائيين وأفراد الجيش الأردني ولو بشكلٍ مؤقّت.
تتآكل الأساطير السياسية حينما تتراجع إلى الخلف الاحتياجات الشعبية التي حتّمت بناء بنيتها الروائية
يعزو الكاتب قدرة الجيش الأردني على التمرّد، على الصورة التي أُطر أفراده داخلها من قِبل العدوّ، إلى التحصينات القوية التي أنجزوها، والتي أعاقت بدورها فعالية سلاح الجو الإسرائيلي خلال العملية، والذي عادةً ما يعتبر الذراع الطولى التي بإمكانها حسم النتيجة عند الركون لها. وخلقت كل هذه العوامل مجتمعةّ معنىً صارمًا من الاسترداد النفسي والمادي لقوى الجيش الأردني بعد «الكرامة»، والذي تمثّل في ضرورة تحسين قبضتها على غور الأردن عبر إغناء التحصينات، وهو ما تم تنفيذه في السنوات التي تلت المعركة، وما انعكس بالضرورة على مفهوم حماية السيادة الوطنية للبلاد الذي صكّته أيضًا النظرة إلى «الآخر»، بما فيه الفلسطيني وإمكانية دمجه في النظام الأمني للجيش أثناء القتال، بحسب المقالة.
كما يتبدّى منطق النقد الذاتي في المقالة، حينما يتمّ إحالة جزء من الإخفاق العملاني إلى عدم التأثّر بتجارب سابقة على المعركة، إذ إنّ دروس العمليات البريطانية حول مهماتهم الفاشلة في الأردن عام 1918، نظرًا إلى طوبوغرافيا الأرض وطبيعتها، لم تستدعِ يقظة الجيش حينما أقدم على معركة «الكرامة» وهو ما أدّى إلى غرق عدد من مركباتهم في وادي الأردن، وانجرار كتائب المظليين التي أغارت على مخيم الكرامة إلى قتال غير مخطط سلفًا فرضتها الممارسة المباغتة من الطرف الآخر، رغم أنه كان من الممكن عزل منطقة عمل الفدائيين في منطقة الكرامة من قبل قوات صغيرة متاخمة دون التورّط في المناطق الزراعية والحقول المروية، واستحالة الدبابات أهدافًا سهلةً لتنتهي المعركة «بـ 33 قتيلًا، وأكثر من 161 جريحًا، فضلًا عن 27 دبابة مدمرّة (أربعة منهم بقيت في المنطقة)، و12 طائرة مدمّرة»14، وذلك وفقًا للرواية الرسمية الصهيونية التي لا تذكر أيّ نية من وراء العملية إلى احتلال جبال البلقاء كما ادّعت الرواية الأردنية. إجمالًا، ادعى الصهاينة في أدبياتهم أنهم أنهوا عمليةً محدودةً بأهداف متواضعة15.
مرحلة انهيار الأسطورة
عودٌ على بدء، تتآكل الأساطير السياسية حينما تتراجع إلى الخلف الاحتياجات الشعبية التي حتّمت بناء بنيتها الروائية، غير أن السياسة الرسمية تحاول بكل السبل مقاومةَ مرحلة انهيار الأساطير التي نعيشها. هذه هي حال معركة «الكرامة» بعد خمسين عامًا على حصولها، إذ تتحصّن السياسة الرسمية الأردنية والفلسطينية، على حدٍّ سواء، برمزية المعركة وتصوّرها باعتبارها إنجازها الدائم كماهيةٍ أسطوريةٍ عابرةٍ لتقلّبات الزمن والسياسة ودوران معنى الصراع من الحرب إلى السلام، فتحتكر تمثيلها الشرعي لها، وتدفع بها نحو الراهن بذات الروح.
ليس في هذا الكلام تبخيسٌ من قيمة الدم الذي سال قبل خمسين عامًا، بل لأننا مؤتمنون على هذا الدم للاطمئنان عليه اطمئنانًا أبديًا، فمن الضروري تبخيس قيمة السياسة التي تحمل، اليوم، «الكرامة» على أكتافها وتحوّلها إلى صيغة احتفالية أداتية للتغطية على كل ما يسلب «الكرامة» مواجهتها الحقيقية والمعنى البطوليّ الذي انطلقت منه، من توقيعها اتفاقيات سلامٍ مع العدوّ، بل والسيادة الشكلية على أراضي الباقورة والغمر الأردنية للأخير، واستيراد الغاز منه أيضًا. بعبارةٍ أخرى، تبدو المقاربة التوظيفية الاحتفائية بمعركة «الكرامة» اليوم أشبه بواقعةٍ سورياليةٍ من شأنها تبديد وتعليق حالة العداء مع «إسرائيل» على الدوام، مقابل إعادة تشغيلها على المستوى الخطابي الرسمي في المناسبات الوطنية، أو ربما تحويل العدوّ إلى كائن لامرئي وتعويم الحدود بيننا وبينه، من خلال سردية تصوير المعركة في لحظة استعادة السلطة لها اليوم، وكأنّها تكثيفٌ للبطولة المطلقة التي صنعها الأردن، على نحوٍ تُؤمَّم فيه تلك الذاكرة بشكلٍ مُجرَّد تمامًا من هوية العداء أو منحرفٍ عنها.
من الضروري تبخيس قيمة السياسة التي تحمل، اليوم، «الكرامة» على أكتافها وتحوّلها إلى صيغة احتفالية أداتية للتغطية على كل ما يسلب “الكرامة” مواجهتها الحقيقية والمعنى البطوليّ الذي انطلقت منه
على وقع ذلك، تبدو «الكرامة» اليوم مجالًا حيويًّا بإمكان السياسة الرسمية في الأردن وفلسطين خوضه على الدوام لتطهير نفسها أمامنا ممّا تعتبره «تُهمًا» نكيلها لها أو نظرة تشكيك منّا إزاءها، ليأتي احتفاؤها الرسمي بالمعركة كآلية تدفعنا للتجاوز وتخطّي ما تعتبره الشعوب نكوصًا أكبر من أن يتم تلميعه أو القفز عنه.
قبل ست سنوات، دخل عددٌ من الجنود الصهاينة الذين شاركوا في المعركة منطقةَ «الكرامة» سُيَّاحًا وبصحبة مرشدٍ سياحي أردني، قصدوها لاستعادة ذكرياتهم المرّة هناك، ودوّنوا شهاداتهم حول ذلك. تختزل هذه المشهدية الكثير، فبتحوّل أولئك الجنود سُيّاحًا يجولون في «الكرامة»، ننكشف -نحن المتلقّين- على تحوّلٍ شفّافٍ في الحيّز والمعنى والهوّية، عبر مصادرة المكان وتعبيراته عنّا باسم السلام واتفاقية «وادي عربة»، وأداء طقوس سياحية لا تنتهي بالتقاط صورة تذكارية بجانب النصب التذكاري في «الكرامة»، بل تنفتح على انتزاع ذاكرة شهداء وأبطال المعركة منّا وجرفها تمامًا من المكان، وإحلال ذاكرة ميّتة إزاء العدوّ بدلًا منها؛ ذاكرة من شأنها أن تَعْلَقَ عند حدود الماضي، ولا تسترسل في الحاضر والمستقبل إلّا بمفهوم انتكاسة العداء وتجديد عهد الصداقة الذي لن يتوقّف عند غفران الأردن السريع لحادثة السفارة الإسرائيلية، وطيّ ضحاياها كما شهداء «الكرامة» تمامًا.