لا يبدو ان بغداد تنوي الضغط على طهران بالاستفادة من أي ورقة متاحة لها، بل تمضي بسياسة تفادي المشاكل رغم تفاقمها وعصيانها على الحل، وبالنتيجة ستخلّف المشكلة المائية اضراراً كبرى على مستقبل العراق.
وبالطبع، تختلف أوراق الضغط العراقية على إيران من تلك التي تخص تركيا. فإيران تتمتع بنفوذٍ واسع في العراق، وتتحكم بالمفاصل السياسية والاقتصادية والامنية فيه، ما يمنحها ما يشبه السلطة لإِبطال أي ضغط لبغداد عليها. تقمع طهران أي انتقاد رسمي واضح ومعلن من قبل بغداد لسياساتها والتجاوزات التي تقوم بها، الا بحدود الحفاظ على ماء وجه الكيان السياسي العراقي. وغالباً ما يحدث ذلك عبر مذكرات احتجاج، تبقى نادرة، لم تتجاوز أصابع اليد الواحدة، وهي ترسَل حين يقع ضغط أميركي على الحكومة العراقية.
وقد استغلت ايران صراعها مع النظام السابق لتبرر سياساتها المائية العدائية تجاه العراق، بعد ان ضمنت أن اتفاقية الجزائر (1975) باتت لاغيةً من قبل النظام الجديد، وهو ما اعلنه من طهران الرئيس السابق جلال طالباني خلال زيارته لايران في كانون الاول/ ديسمبر 2007.
وتتعامل إيران مع العراق كرئة اقتصادية لها. وفي الشأن المائي فعلت إيران ما فعلته تركيا في العراق. وبعد فترة الإحتلال الاميركي والوجود السياسي القوي لواشنطن في بغداد (2003 – 2006) قامت ايران بإحداث خرق مباشر يضمن لها استفادة منهجية من الوضع العراقي، ويؤرخ ذلك بتشكل أول حكومة دائمة وكاملة الولاية (نوري المالكي 2006 - 2014).
كشفت موجة الاحتجاجات الاخيرة في إيران عن اقتصادٍ منهك لولا الرئة العراقية المفتوحة التي تُعجل بسد ثغراته. فقد تضاعف التبادل التجاري مع العراق خلال العقد الاخير 17 مرة. ووفقاً للملحق التجاري الايراني في العراق، فان حجم التبادل التجاري بين البلدين بلغ 13 مليار دولار في العام 2017، من ضمنها 6 مليار و200 مليون دولار صادرات سلع غير نفطية ايرانية الى العراق. فيما يشير الرئيس العراقي لغرفة التجارة الايرانية العراقية المشتركة، الى إمكانية ارتفاع قيمة حجم التبادل التجاري بين إيران والعراق الى أكثر من 20 مليار دولار سنوياً.
أزمة المياه بين دول حوض الفرات
19-09-2012
في العام 2005، كانت الصادرات الايرانية الى العراق تبلغ 790 مليون دولار فقط، وفي عام 2006 بلغ حجم الصادرات مليار دولار، حيث لم يستجب السوق العراقي لمتطلبات التجارة مع إيران، لاسيما أن السلع والمنتجات المصدَّرة كانت رديئة، والانفتاح العراقي كان على الاستيراد من تركيا والاردن والسعودية والدول الخليجية.
مع حلول العام 2006 وبوصول نوري المالكي الى الحكم، تشكلت لجنة للتنمية الاقتصادية بين البلدين، ووقعت كذلك اتفاقية أمنية غامضة، فارتفع حجم الصادرات الى 4 مليار و439 مليون دولار في 2010، فضلاً عن التحويلات البنكية بالعملة الصعبة، وغسيل الاموال بدءاً من العام 2010 وحتى العام 2014 (الفترة الثانية لحكم المالكي) بحكم حاجة إيران الى الدولار بظل العقوبات الدولية عليها.
تُهيّمن إبران على خمسة مسارات تجارية بغطاء استخباري قوي عبر العراق، الاول يخص المنطقة الجنوبية عبر منفذ الشلامجة – البصرة، الثاني منفذ الشيب – العمارة، والثالث مهران – بدرة وجصان (الفرات الاوسط)، والرابع زرباطية – ديالى (أعالي بغداد باتجاه الحدود السورية – طريق الحرير)، والخامس عبر منافذ اقليم كردستان شمالاً. ومن خلال هذه الشبكة ترسم طهران خارطة اقتصادية متعددة التوظيفات. فعبر المجموعات المسلحة التي تدين لها بالولاء، والمنضوية في إطار الحشد الشعبي، تسعى طهران لقطع الطريق على الطموح السعودي بالاستثمار في الأنبار ولعرقلة مشروع الطريق الدولي غرب العراق لتنشيط التجارة مع الاردن والسعودية، والنقل البحري انطلاقاً من ميناء أم قصّر.
كما تخوض صراعاً مع تركيا للسيطرة على الطريق الصاعد من ديالى الى تلعفر ومنه الى العمق السوري. إذ ترى تركيا في تلّعفر عقدة المواصلات التي تقطع على طهران طريق دعم النظام السوري، وتحد من أية تغييرات ديموغرافية لصالحها.
فقد العراق واحدة من اوراق الضغط على طهران حين تواطئ معها لاخراج الجماعة الايرانية المعارضة "مجاهدي خلق" من أراضيه، ويُنسق معها أمنياً لاحتواء حزب "الحياة الحرة" الايراني ("بيجاك") فضلاً عن الجماعات الايرانية الاخرى المعارضة المنتشرة في شمال العراق. لم تدع بغداد لها قوة أمام طهران الا وتنازلت عنّها، فبقيّت مكشوفة أمام السياسات الايرانية المتسببة بالأضرار، ومنها في مشكلة المياه.
تعتبر إيران العراق رئة اقتصادية لها، وقد تضاعف التبادل التجاري بين البلدين خلال العقد الاخير 17 مرة، وبلغ 13 مليار دولار في العام 2017، وهو مرشح ليرتفع إلى أكثر من 20 مليار دولار سنوياً..
وأما مرجعية النجف المتصدية للشأن السياسي في العراق، فهي على الرغم من مكانتها الدينية العميقة لم تقترح اية وساطة لتخفيف التدخل الايراني، ولم تستخدم نفوذها القوي لترتيب العلاقة المائية بين العراق وإيران، بل ظلّ التدخل الايراني خارج اهتمام النجف التي قصرت اكتراثها على الصراع التقليدي مع مراكز القوى الدينية في قم ومع مكتب المرشد الايراني.
وعلى مقسم الازمة الكردية، فإن طهران، كما انقرة، تشعر بالهلع من فكرة اقامة الدولة الكردية. وحين قرر الكرد الاستفتاء على الانفصال في ايلول/ سبتمبر الماضي، دعمت طهران أحد اجنحة الاتحاد الوطني الكردستاني المُقرّب تاريخياً منها، فتمكن من انتزاع كركوك الغنية بالنفط. ثم ابرمت بعد مضي شهرين مع وزارة النفط (التي يرأسها وزير مقرّب من رئيس تيار الحكمة عمّار الحكيم)، اتفاقاً مريباً يقضي بمقايضة 60 ألف برميل يومياً من خام كركوك بنفط إيراني للتسليم في جنوب العراق، لكنها لم تغلق منافذها التجارية مع الاقليم الكردي حتى في عزّ الازمة.
ولإيران مرّوحة استفادة من النفط والغاز واسعة جداً، تتضمن شراء العراق لكميات كبيرة من الوقود الايراني والغاز يومياً لسد الحاجة المحلية، فضلاً عن خطوط النقل الكهربائي التي، إن تأخر العراق عن سداد اقساط الدفع، تقوم السلطات الايرانية بقطعها فوراً دون التفكير بحاجة العراق الماسة للكهرباء لا سيما بفصل الصيف.
وتعمل السلطات الايرانية بالعلاقة مع العراق على مبدأ فصل الملفات وتعدد مراكز القرار. بمعنى انها تُغرق بغداد بعدد كبير من الاتفاقات الثنائية الموقعة مع مفاصل صغيرة في الجسم الايراني، لقطع الطريق أمام أي محاولة عراقية لإلغائها أو تعديلها إذا ما ارتبطت بتأخر في الدفوعات المالية...
أزمة مياه العراق: موسم الهجرة الى الكارثة (1)
22-02-2018
إيران ومياه العراق: طرائق في الخنق (2)
05-03-2018
مشكلة مياه العراق: أوراق الضغط على تركيا (3)
18-03-2018