البيت هادئ. تحاول الأم فتح الباب لكنّه موصدٌ من الداخل، تصرخ، تعالجه بضربات قوية علّه يفتح، تنادي على ابنتها، لكن أحداً لا يجيب. تتصل بالأب، لا بدّ من أنّ مكروهاً أصاب مَن في الداخل، إبنتها ذات الأعوام الخمسة وخادمتها. حدسها أصاب، الخادمة ذبحت الطفلة من الوريد إلى الوريد.
لم تكن تلك الحادثة هي الأولى التي تحصل فيها جريمة مروعة على يد الخادمة. فالمملكة التّي يستخدم 88 في المئة من عائلاتها عاملةً أجنبية (واحدة على الاقل) تخدمهم، تعاني في الفترة الأخيرة من عنفٍ أشبه برد فعلٍ تمارسه عاملات المنازل على سكانها. تأتي الأخبار من مختلف مناطق المملكة، من يُنبع والرياض والمنطقة الشرقية... عن خادمة خنقت طفلًا رضيعاً، وأخرى كوت وجه صبيٍ فأحدثت فيه حروقاً بالغة، وثالثة قتلت زوجة كفيلها بالساطور، ورابعة أحرقت منزل مخدوميها.
لماذا تحدث كلّ هذه الجرائم المروعة في البلد، رغم أنّ السعودية ليست الدولة الوحيدة التي تحتوي بيوتها على الخادمات. ماذا يحدث خلف أسوار البيت حتى يصل الأمر الى هذا الحد من العنف. من يتحمل مسؤولية تدهور العلاقات التي تربط الخادمة بمخدوميها؟
تعاني العمالة الأجنبية في السعودية من نظرة عنصرية يمارسها أهل البلاد، وتلاحق افرادها. لا علاقة طبيعية تجمع العامل إلى رب العمل أو الكفيل. غالباً ما تقع هذه الجرائم بهدف الانتقام من سوء معاملة. فمختلف الخادمات صرَّحن أنّ أفعالهن كانت ردّة فعل على معاملة سيئة لهن من أصحاب العمل. السعوديون يرفضون الاعتراف بهذه التبريرات ويرونها غير منطقية، أو غير كافية لارتكاب جرائم غالبا ما يكون ضحاياها أطفالٌ صغار أو اشخاص طاعنون في السن.
آخر خادمة تمّ إعدامها بحدّ السيف هي السريلانكية ريزانا نافيك في التاسع من هذا الشهر. صدر الحكم عام 2007 بعد اتهامها بخنق طفلة رضيعة. أهلها وحكومتها لم يعرفوا بالأمر إلّا قبل أيام قليلة. في اثر تنفيذ الحكم، أعلنت سريلانكا أنها ستوقف تدريجاً تصدير اليد العاملة إلى السعودية، على أن تحصر التوقيف بادئ الأمر بالفتيات ممن هن بين سن العشرين والخامسة والعشرين. يبلغ عدد العمال السريلانكيين في السعودية حوالي مليوني انسان، يعملون بشكل أساسي في خدمة المنازل، وتشكّل تحويلات العمالة من الخارج مصدراً رئيساً لاقتصاد البلاد ومورداً أساسياً لعيش سكّانها.
سبقتها اندونيسيا إلى ذلك، التي يمثل عدد العاملين منها في الخدمة المنزلية في السعودية حوالي المليون ونصف مليون عاملة. وقد جاء قرارها ذاك بعد إعدام الخادمة الإندونيسية التي ارتكبت جريمة مروعة بحقّ الطفلة تالا الشهري، التي كانت تبلغ الخامسة من العمر. أحدثت الجريمة هزّة في المجتمع السعودي المعتمد لحدّ الارتخاء على المساعدة المنزلية.
معاملةٌ الخادمة أشبه بالعبودية. يُرفض تسليمها الراتب، يرفض إعطاءها الإذن بالعودة إلى موطنها، تعاني إساءات لفظيةٌ أو جسدية، تعمل بلا توقف، لا تملك حقوقاً مقابل واجباتها. وهكذا تنفجر «العلاقة» على شكل ارتكاب فعل عنفي رهيب.
تنال الخادمة الإعدام بحدّ السيف على ارتكابها الفعل ولو لم تعترف به. لا أحد يهتم بحقوق الخادمات، ولا أحد يطالب بأجسادهن بعد تنفيذ الحكم، الذي دوماً ما يكون مطلباً ملحًّا لأهل الضحية. لا تأخذ الدولة ادعاءاتهن على محمل الجد، لا تنظر إلى المجرم /الضحية، لا تنظر إلى ما قد يكون مرّ على الخادمة حتّى ترتكب فعلاً شنيعاً يتكرر كلّ فترة، مع تغيّر في السيناريو والمكان والأشخاص. حكم الإعدام ينزل على الخادمة رغم كل الانتقادات التي تطال المملكة من هيئات حقوق الإنسان، بعد الكشف عن أنّ معظم العاملات الآتيات إلى المملكة يُزوّر تاريخ ميلادهن على جوازات سفرهن حتّى يتمكنَّ من نيل فرصة العمل.
هنالك مشكلة. على العائلات السعودية أن تعترف بذلك. لا يمكن أن تكون كلّ الخادمات مختلات عقلياً أو صاحبات سجل مليء بالإجرام. هناك شيءٌ ما يحدث ولا يُفصح عنه. صراعاتٌ خفية، اعتداءات متراكمة، ضغطٌ هائل لعائلة موسعة على جسد نحيل.
تتشكّل في السعودية بمدنها ومناطقها ظاهرةٌ جديدة صارت تُعرف بظاهرة جرائم الخادمات. ألقيت المسؤولية كلّها على عاتق العاملات الآتيات من بلاد الفقر بحثًا عن لقمة خبزٍ في بلاد الأغنياء. يقول البعض انّ الحسد هو ما يدفعهن إلى ارتكاب جرائم كهذه، حسدٌ لمظاهر الحياة المرفهة، والأوضاع المالية المتينة. لكن لا أحد يتحدّث عن النظرة الدونية التي ترمقهن بها كلّ العائلة، ولا عن الأوامر المتسلطة التّي يصدرها الجميع ،من الكبير إلى الصغير، ولا حتّى عن الاعتداءات التّي قد تتجاوز حدود الكلام لتطال الجسد.
التجاوز على الخادمات ليس خاصية سعودية، فهن يعاملن بسوء في بلدان أخرى، اشتهرت منها الاردن ولبنان، التي كثيرا ما تدينها لهذه الجهة تقارير الهيئات المختصة بحقوق الانسان. ولكن الفارق بين هذه البلدان وغيرها، وبين المملكة العربية السعودية هو في القصاص الرسمي الذي يقع على الخادمات عند ارتكابهن جرائم: في طبيعة القصاص نفسه من جهة، والاهم في السياق الذي يوصل إليه، أي غياب المحاكمات وحق المتهم بالادلاء بروايته عما جرى.
دولةٌ بعد أخرى تمتنع عن إرسال العمالة إلى السعودية، وتحذر مواطنيها من ابتعاث بناتهم إلى أحضان المملكة. سريلانكا واندونيسيا والفيلبين. لا تضمن تلك الدول سلامة فتياتها هناك. حدّ السيف ينتظرهن في بلادٍ يستحيل فيها الدفاع عنهن أمام أرباب عملهن. وبالمقابل صارت السعودية تعاني رهاب الخادمة.
الخوف على الطفل أو الكبير من الخادمات لم يحسِّن من ظروف العمل بقدر ما شدّد من أساليب الرقابة وجعل أصحاب العمل أشدّ وطأةً وتسلطًا. حلقة مفرغة، لا حل لها بهذه الوسائل، ولا تمثل «العبرة» المرتجاة من القصاص حماية كافية للضحايا الممكنين، ولا ردعاً للجريمة. لا سيما أن القصاص ذاك لا يأتي كنتيجة لمحاكمات عادلة وعلنية يمكن أن تكشف مكامن العطب. لا بد من تغيير العلاقة برمتها، ولا بد من وسيط بين الطرفين، هو القانون، وشرعة عمل لائقة، وهيئات تتولى الرقابة على التطبيق...