يتعامل السياسيون مع العولمة كأنها حتمية منْزلة، بل وكأنها دليل رقي وحضارة. العولمة ليست إرادة إلهية ولم تكن يوماً من الأيام حتمية. ونشوؤها بمفهومها الحديث لا يتعدى عمره الـ40 عاماً. والولايات المتحدة الأميركية هي التي صنعت العولمة الليبرالية وفرضتها على العالم من خلال 3 محطات أساسية.
أولى محطات العولمة هي التخلي عام 1972 عن اتفاقيات «بريتون وودز» ( Bretton Woods) الموقعة عام 1944 مباشرة بعد الحرب العالمية الثانية، وفصل الذهب عن الدولار، ما أدى إلى ربط كل عملات الكرة الأرضية بالدولار، بشكل مباشر أو غير مباشر. وهكذا حل الدولار محل الذهب كمعيار. أما السبب للقيام بذلك فهو حاجة الولايات المتحدة لتغطية عجز الميزانية الأميركية الناتج عن نفقات حرب فيتنام الهائلة. هكذا استطاع البنك المركزي الأميركي طبع كمية من النقود لتمويل هذا العجز، من دون الاهتمام بمقابلتها بكمية ما هو متوفر لديه من الذهب. ولم يقف ريغان عند هذا، إذ اضطر بعد 10 سنوات إلى تمويل «حرب النجوم» التي أسقطت الاتحاد السوفياتي، ففتحت أميركا وانكلترا حدودهما للرساميل الأجنبية، وخلقت نموذجاً مصرفيا جديداً قوامه مصارف كبيرة جداً لجهة حجم ميزانيتها وحجم انتشارها على الكرة الأرضية. وهي امتصت كل الادخار العالمي. أما المحطة الثالثة للعولمة فترافقت مع سقوط الاتحاد السوفياتي، إذ اعتمدت شلة من الاقتصاديين الأميركيين في أوائل التسعينيات «إنجيلا اقتصاديا» (أُسمي «توافق واشنطن» Washington Consensus) أصبح بمثابة معيار معتمد من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ووزارة الخزينة الاميركية لكيفية انهاء الازمات الاقتصادية في البلدان ذات المديونية العالية (وبالأخص وقتها بلدان أميركا اللاتينية). وهو مؤلف من «10 وصايا» أهمها: الخصخصة، وفتح الحدود للرساميل والبضائع، ورفع الدعم عن المواد، وتحرير الفوائد. راحت هذه الوصايا تطبق في كل الدول، حتى وصلت الليبرالية الاقتصادية إلى أقاصي المعمورة. فاكتشفت هذه، أكانت صناعية أم متخلفة، «مزايا» الخصخصة والانفتاح الاقتصادي. وتسارعت الحركة بعد عام 2000، وطالت دولاً كفرنسا، التي تطبق تقليدياً أنظمة رعائية متقدمة على المستوى الاجتماعي وحيث الدولة تدخلية الى حد بعيد، والصين الشيوعية، وتونس وسوريا ومصر والفيلبين وتايلندا الخ... إلا ان سرعة اللبرلة وحجمها كانا متفاوتين ، فكانت سريعة في تونس مثلاً وبطيئة في سوريا، والمقصود من ناحية فتح حدود البلاد على المصارف الأجنبية أو على الاستثمارات. والتبرير الرسمي لتطبيق هذه الوصايا كان ولا يزال جعل الدول أكثر عقلانية ومنافسة على الصعيد الدولي.
هذه العولمة الليبرالية أوصلت العالم إلى الوضع الحالي الذي نستطيع أن نلخصه بالنقاط الخمس التالية:
1ـ ازدياد العجز العام في كل الدول المتطورة، إذ يتراوح بين 90 في المئة في فرنسا، وأكثر من 200 في المئة في اليابان، مروراً بـ110 في المئة من الدخل القومي في الولايات المتحدة الأميركية. وترافق هذا العجز العام أكثر الأحيان مع عجز كبير في الميزان التجاري، يصل إلى 6 أو 7 في المئة من الدخل القومي في انكلترا وفرنسا وأميركا واسبانيا إلخ... أما المقرِضون، فهم إلى حد كبير دول في طور النمو كالصين والبرازيل، أو دول في أزمة دائمة كاليابان، أو دول نفطية كبلدان الخليج. وهذا الوضع استثنائي تاريخياً إلى حد كبير. فهذه أول مرة يصل الدين إلى هذا الحجم من دون حرب عالمية، وأول مرة يستدين «الأغنياء» من «الفقراء»! أضف إلى كل ذلك أن هناك شبه استحالة عملية لرد الديون عند ما يتجاوز الدين العام الدخل القومي إلى هذا الحد الكبير. وهكذا يُفهم اننا مقبلون على وضع عالمي صعب جداً.
2 ـ «دولرة»العالم: يضاهي حجم الدولارات الموجودة خارج الولايات المتحدة حجمها في داخلها. وتشكل هذه الدولارات المخزون السادس لأغلب البنوك المركزية في العالم: الصين، المانيا، روسيا، الدول النفطية الخ... يترتب على ذلك أن السياسة المالية للبنك المركزي الأميركي ليست فقط سياسة داخلية، انما تطال أيضاً بشكل مباشر أكثر دول العالم.
3 ـ أدت الخصخصة وانخفاض تدخل الحكومات إلى خلق ثروات فردية فاحشة، وذلك بسرعة مذهلة، في الكثير من دول أميركا اللاتينية، وروسيا والأقطار العربية. وفي موازاة ذلك، ازدادت سيطرة الشركات متعددة الجنسيات وأهميتها على حساب الحكومات، حتى في الدول المتطورة. أصبحت بعض المصارف أهم من دولها، إذ فاقت ميزانيتها ميزانية الدولة، كما في بلجيكا وسويسرا على سبيل المثال. لذلك، لم يكن غريباً أن تأتي قيادات جديدة في التسعينيات في البلدان النامية (وحتى غير النامية )، تستلم السلطة عبر أموالها: تايلندا، المكسيك، لبنان، أو تحصل على أموالها عبر السلطة: تونس، الأرجنتين الخ... فالنموذج الليبرالي الحديث خلق تواطؤاً جديداً بين حلقتي المال والسلطة.
4 ـ 30 عاماً من الليبرالية والعولمة أدت إلى إيجاد تفاوت اقتصادي غير معهود داخل الدول، أكانت متطورة أو نامية. فعلى سبيل المثال، وصلت المعاشات إلى أدنى حد لها بالنسبة للأرباح وللدخل القومي في الولايات المتحدة، وفي تركيا وصل التفاوت المعيشي إلى أعلى حدّ له في تاريخ تركيا المعاصر، والأمثلة هنا عديدة وتطال حتى دولاً كفرنسا وايطاليا.
5ـ انتقلت الدول المتطورة من دول صناعية إلى دول يعتمد اقتصادها بشكل أساسي على القطاع المالي والقطاع الاستهلاكي، باستثناء ألمانيا وكذلك اليابان، بالرغم من ديون القطاع العام الكبيرة. أدى هذا التحول الاقتصادي إلى ازدياد وتيرة الأزمات المالية والاقتصادية العالمية وتعمقها، حتى انها وصلت إلى أزمة كل 3 سنوات تقريباً، تطال الكرة الأرضية كلها وتهدد تقريباً في كل مرة بانهيار المنظومة الاقتصادية العالمية.
لقد وصلت الليبرالية الاقتصادية بشكلها الحالي إلى طريق مسدود. وهي لا تستطيع التمدد بعد ذلك في بعض البلدان النامية أو التي تعاني من أزمة (كاليونان وتركيا ومصر) إلا بصعوبة كبيرة. ولا بد للغرب من ان يتعامل مع المعطيات الجديدة، فيعمد في المستقبل القريب الى تغيير بعض سياساته الاقتصادية والاستراتيجية. وخطاب أوباما في يوم تنصيبه بعد انتخابه للمرة الثانية أكبر برهان على ذلك. وتتمحور تلك السياسة الجديدة حول:
ـ تخفيض الدين العام، وتخفيض قروض المصارف، ما سيؤدي إلى نمو منخفض لفترة طويلة من الزمن، خاصة أن ذلك يترافق مع شيخوخة ديموغرافية في الدول الغربية، وفي روسيا والصين أيضاً.
ـ سلطات أكثر تدخلاً في الغرب وأقل ليبرالية: تأميم مصارف في انكلترا، تدخل الدولة في قطاع السيارات والمصارف في الولايات المتحدة على حساب اتفاقات التجارة العالمية الخ... وفي موازاة ذلك يجري الدفع، عبر صندوق النقد الدولي، إلى ليبرالية اقتصادية أكثر في البلدان النامية.
ـ إعادة تصنيع البلدان الغربية، حتى ان إدارة أوباما تريد ان تضاعف الصادرات خلال السنوات المقبلة، وفرنسا أسست بنكاً صناعياً حكومياً، ضاربة عرض الحائط بكل أيديولوجية الخصخصة.
ـ سياسة جديدة في الطاقة تعتمد فيها الولايات المتحدة أكثر فأكثر على الغاز على حساب النفط، للتخفيف من اعتمادها على بترول الشرق الأوسط.
ـ انخفاض ميزانيات الدفاع، وقد بدأت فعلاً تنخفض في انكلترا وفرنسا، وبدأت إدارة أوباما مفاوضة الكونغرس على تخفيض النفقات العسكرية.
يعني كل ذلك أن العالم أمام منعطف جديد، وان الليبرالية كما عهدناها تتحول وتتغير، مع تحول استراتيجية الولايات المتحدة الأميركية مرة أخرى. ونستطيع استشفاف بعض ملامح هذا التغير من الجملة التي قالها اوباما: «ان الولايات المتحدة تخرج من 10 سنين من الحروب، وقد آن الأوان لأن نهتم بإعادة اعمارها»... ونسي أن يضيف ان ذلك لا يمكن إتمامه إلا باقناع العالم ان بلاده تستطيع رد الديون، وإقناع الكونغرس بضرورة تخفيض ميزانية الدفاع... وفعلا تجنب الدخول في حروب جديدة.
مواضيع
العولمة... اليوم
مقالات من العالم
من أمام "وول ستريت": "توقفوا عن التربّح من الإبادة!"
"غزّة تُقصَف، "وول ستريت" تزدهر. ارتفعت أسعار أسهم شركات تصنيع الأسلحة بشكل كبير هذا العام. يزداد أعضاء الكونغرس البالغ عددهم أكثر من 50، الذين يستثمرون في شركات الأسلحة، ثراءً كل...
جوليان أسانج حرّ
فعل أسانج المحظور الأكبر في هذا العالم. كشف اللثام عن أكبر أكاذيب العالم وأكثر أساليب الدول وحشية، وفضح تلك البرودة الفظيعة التي يتمتع بها الجميع خلف الكواليس، وتلك السهولة الرهيبة...
عودة إلى فانون: عن فلسطين وسيكولوجيا الاضطهاد والتحرّر
لا يمكننا التكلم عن فانون دون التطرق لتحليله للعنف وسايكولوجيا الاضطهاد، خصوصاً خلال الحقبة الحالية التي يطبعها الدمار والموت. ماذا كان فانون ليقول عن الإبادة الاستعمارية و"سيل القتل" اللذين يحدثان...
للكاتب نفسه
سبعة اسئلة ملحة للبنان المنكوب
ماذا يعني وضع لبنان تحت قبضة صندوق النقد الدولي الخانقة؟ أين الاحتياطي الرسمي من الذهب، وما هي قيمته الفعلية اليوم؟ من عطّل التنقيب عن الغاز بانتظار استكمال إسرائيل لمد شبكات...
"أميركا أولاً": قوانين لعبة جديدة
أعضاء إدارة ترامب مناهضون للمؤسسات القائمة، ولا يمثلون الأفكار المسيطرة في مختلف الدوائر المالية والنفطية والعسكرية وحتى الدينية. وإجمالا يسعى كل رئيس جمهوري لتعديل ميزان القوى العالمي.
من العولمة الليبرالية إلى القومية الحمائية
من المرجَّح أن يطبّق ترامب استراتيجية قائمة على "انعزالية/ مافياوية أكبر، وعلى حماية اقتصادية أقوى"، بعدما فشل أوباما بتحسين الميزان التجاري والدين العام الأميركي. مهمّة ترامب هذه ليست أسهل من...