يعتقد المحللون السياسيون الغربيون وزملاؤهم «المتغربون» من الشرقيين، أن المعيار الأساسي الذي يتعامل به الغرب مع الدول الأخرى هو الديموقراطية وحقوق الإنسان. فالدول التي لا تتبع «الأصول الديموقراطية» تتراوح بين المعادية جداً (كوريا الشمالية) وقليلاً (تايلندا)... إلا أن قراءة أكثر واقعية للعلاقات الخارجية لأكثر الدول الغربية تضع الشرخ في مكان آخر، أي في الحلقة الاقتصادية وليس في الحلقة السياسية. ففنزويلا بلد معادٍ للولايات المتحدة بالرغم من ديموقراطيته، لأنه أمّم صناعاته النفطية، أما المملكة السعودية والمغرب والملكيات بشكل عام، فهي تُعَدّ بلداناً صديقة رغم عدم ديموقراطيتها. ويكون بشار الأسد يوماً ضيف شرف فرنسا في عيدها الوطني، ويوماً آخر عدوّها. أما السلطة الجزائرية التي انتقدتها بقسوة كل جمعيات حقوق الإنسان في العالم، فيغضّ الغرب النظر عنها.
هناك أمثلة ساند فيها الغرب الديموقراطية بوجه الاستبداد، وأمثلة عديدة أخرى دعم فيها الاستبداد بوجه الديموقراطية أو بوجه استبداد آخر... المقاربة الوحيدة ربّما لفهم سياسة الغرب الحالية هي مدى انخراط الدول في العولمة والليبرالية الاقتصادية.
فتّش عن الاقتصاد
بعد ثلاثة عقود على «اتفاقات» ريغان وتاتشر، فرضت الليبرالية الاقتصادية نفسها بشكل متفاوت على أنظمة العالم برمّتها، سواء المتطورة أو تلك التي على طريق النمو. المسألة الأوكرانية الراهنة هي أوضح مثال على ذلك، إذ يحاول حلف الأطلسي توسيع حدوده باتجاه روسيا من دون اللجوء إلى أي حرب، وإنما من خلال اتفاقيات اقتصادية بين الدول الأوروبية وصندوق النقد الدولي من جهة، والسلطات الأوكرانية المؤقتة من جهة أخرى، بحيث تطبق أوكرانيا القوانين الاقتصادية الليبرالية من رفع الدعم والخصخصة الخ...
واستناداً إلى التجارب السابقة، سيؤدي هذا الاتفاق، الذي عرض على مجلس النواب الأوكراني في 21 نيسان / ابريل، إلى وضع البلاد تحت الوصاية مقابل 18 مليار دولار ستحصل عليها كقروض من الغرب وصندوق النقد الدولي. ويسعى الغرب الى ذلك ولو بطرق غير ديموقراطية ومن خلال الإطاحة بنظام منتخَب (عفناً كان أم لا). وتؤدي هذه السيطرة إلى إلغاء منطق العداوة، فيُنعَت حامل السلاح بالمجرم والمتخلّف حتى ولو دافع عن وطنه أو قبيلته، ويصبح «المجتمع الدولي» ـ المكوّن بشكل أساسي من الدول الغربية المنتقِدة ـ المؤهل الوحيد لاسترجاع الحق. فهو تارة يدعم الشعوب في حق تقرير مصيرها، كما حصل في السودان الجنوبي، وتارة أخرى يضرب بعرض الحائط المبدأ ذاته ويعطي الأولوية لوحدة الأراضي وسلامتها، كما في أوكرانيا.
لماذا يستطيع الغرب، أو بالأحرى لماذا تعتقد قياداته أنها تستطيع الانتصار في أوكرانيا وفنزويلا وتايلندا ومصر وإيران من دون اللجوء إلى الحرب، وبالرغم من كل مشاكل الدول الأوروبية الداخلية من بطالة ودَين ونمو، بالإضافة إلى المشاكل البنيوية الديموغرافية والاجتماعية؟
من الواضح أن الحروب لم تحقق أهدافها في السنين الأخيرة، إذ لم تؤد إلى السيطرة الفعلية على الدول المهزومة (العراق، أفغانستان، ليبيا، أفريقيا الوسطى...)، بالإضافة إلى أن ديون الدول الغربية أجبرتها على تخفيض ميزانيات الدفاع لديها بنسب وسرعة مذهلين. وهكذا، فما تبقى كرهان هو في المجال الاقتصادي، حيث يمتلك الغرب تفوقاً نوعياً.
تعاليم واشنطن العشرة
أدّت الليبرالية الاقتصادية إلى انخراط أكثر الدول في السوق العالمية، حتى لو متأخرة، كالصين سنة 2001 وروسيا سنة 2012... فتشابكت مصالح الدول مع بعضها، حتى أن منظمة التجارة العالمية تعتبر ذلك من أهم إنجازات السلام في العالم، إذ لا توجد مصلحة لأية دولة في أن تعادي عسكرياً الدول الأخرى، فيؤدي ذلك إلى انهيار مصالحها هي نفسها بمقدار مصالح الدولة «العدوة» أو «المنافسة»، إن لم يكن أكثر. أما كيف ولماذا يحصل هذا التشابك في المصالح، فيعود إلى جوهر تعاليم الليبرالية الاقتصادية وشروطها المطلوبة / المفروضة، كما حصل في أميركا اللاتينية، وكما هو مفروض أن يحصل في مصر وأوكرانيا. يترافق هذا التشابك مع كل التغييرات الاقتصادية البنيوية الداخلية والعالمية التي مهّدت له، نتيجة تطبيق تعاليم واشنطن العشرة. فمن المؤكد أنها:
ـ أضعفت الحكومات وخاصة إمكانية تأثيرها في السياسة الاقتصادية، نتيجة خصخصة أكثر شركات القطاع العام من كهرباء وهاتف ومياه وحتى الصحة والتعليم... وانخفاض مصاريف الدولة بعد خفض المساعدات عن المواد المدعومة كالطاقة والخبز والصحة... الخ.
ـ أصبحت تعتمد أكثر على الخارج وخاصة من ناحية الحاجة إلى الرساميل الأجنبية. فالتخصص في بعض القطاعات المصدرة يتطلب الكثير من الرساميل لرفع تنافسية البضاعة المصدَّرة إلى الأسواق العالمية، ويتم ذلك على حساب قطاعات أساسية أخرى (من غداء وصحة وطاقة...) يتم استيرادها وتؤدي إلى عجز كبير في الميزان التجاري، أي إلى اعتماد أكبر على الخارج.
إضعاف هذه الحكومات يسمح بنمو سريع جدا وغير مسبوق لرأسمالية خاصة وثروات فردية تقدر بالمليارات (أقل من عقدين).
ـ إضعاف وحدة الدولة من خلال «إقليمية» مبنية على معايير «موضوعية» من اثنية ودينية...، تستيقظ نتيجة عدم قدرة الحكومات على إعادة تدوير الرساميل من المناطق الغنية إلى المناطق الفقيرة. فأكثر ما تؤدي إليه الليبرالية هو ارتفاع عدم المساواة وتفتت الوحدة الوطنية.
في الواقع، فإن صعود أهمية الرأسمالية الخاصة في القرار السياسي المباشر، وإضعاف مكونات الدولة عبر «الأقلمة»، وإضعاف القطاع العام، كل ذلك يسمح للغرب / المجتمع الدولي بتحسين شروط علاقاته مع البلدان الأخرى وخاصة الاقتصادية منها. وهذا التدهور في شروط التعامل يقاس باحتساب قيمة السلع المصدرة بالنسبة للسلع المستوردة (عدد براميل نفط مقابل سيارة)، وبالتالي امتصاص قسم من الفائض المنتَج في تلك الدول.
يبقى أن كل ذلك بحد ذاته لا يمكّن الدول الصناعية من السيطرة على البلدان وأنظمتها، وكل ما يؤدي إليه عند حصول أزمة هو حظر التعامل مع تلك الدول من خلال فرض قيود على الاستيراد والتصدير، كما حصل مع العراق وإيران وكوبا... فالسيطرة الفعلية المباشرة، أو على القرار السياسي، لا يمكن أن تتم إلا من خلال الحلقة المالية، أي من خلال «تخصص» الغرب في القطاع المصرفي. فالمسيطرون على المصارف والعملات الصعبة يستطيعون تجميد أموال الحكومات (إيران، عراق صدام...) وإلغاء الاستثمارات الأجنبية في البلد (تركيا مؤخراً والبيرو وفنزويلا...). بل، وهذا هو ربما الأخطر سياسياً، يستطيع الغرب من خلال التجميد أو التهديد بتجميد أموال بعض السياسيين «الملياردية» السيطرة على القرار السياسي المباشر، كما حصل في أوكرانيا مؤخراً.
حتى ذلك ما كان ليؤثر كثيراً قبل العقدين الأخيرين، لولا دخول هؤلاء «الملياردية» (التي صنعتهم الليبرالية الاقتصادية نفسها) معترك الحياة السياسية وحصولهم على أعلى المناصب السياسية أو تشكيلهم كتل ضغط سياسية كبيرة (تركيا، لبنان، تايلندا، أوكرانيا، فرنسا، اليونان، المغرب العربي...). حتى أن ميتران قال: «سأكون آخر رؤساء الجمهورية الفعليين. فبعد وفاتي لن يكون هنالك إلا رجال مال وحسابات»، وإذا أضفنا إلى ذلك ظاهرة جديدة تنتشر، وتتعلق بإعطاء المناصب القيادية والاستشارية في وزارة الاقتصاد والبنك المركزي إلى موظفين سابقين في الشركات المالية الانغلوسكسونية، نفهم أن السيطرة ليست مالية فقط بل فكرية أيضاً.
العولمة ليست اقتصادية فقط بل طالت بشكل أساسي أيضاً عالمي الاتصال والتواصل الاجتماعي. وما فَضحه سنودن من تنصّت على القيادات في العالم (حتى على الأصدقاء) يظهر مدى سيطرة الولايات المتحدة الأميركية بالتحديد على وسائل الاتصالات في العالم وعلى مراكز القرار. ومن ناحية أخرى رأينا أهمية فايسبوك وتويتر وغوغل وأقرانهم في تحريك الشارع وضعضعة الأنظمة، سواء أكان ذلك في العالم العربي أو في تركيا أو في الصين.
باختصار، فإن الليبرالية الاقتصادية والعولمة أدت إلى غلبة قوانين السوق على حساب قرارات الحكومات، بل أصبح من الواجب والضرورة أن تتلازم قوانين الحكومات مع قوانين السوق، ما يعني اختفاء القرار الوطني الاقتصادي. وهذا، مدعوماً بالتجسس وعدم السيطرة على وسائل الإعلام، يسمح للغرب بالسيطرة على قرارات حكومات كثيرة. وإذا اضطر الأمر، بعد حصار اقتصادي ومالي طويل، الى قلب أنظمتها مستعينة بمثقفين من داخل السرايا. والحرب بالوكالة أكثر الأحيان ليست إلا الوسيلة الأخيرة بعد اهتراء النظام، لتفتيت الدولة وإخضاع أطرافها كافة.
خلاصة
أدت العولمة، من خلال الليبرالية الاقتصادية، إلى إضعاف الكثير من الدول وإخضاعها للسوق العالمي حتى باتت قرارات سيادية كثيرة تؤخذ من الخارج. إلا أن العولمة أصبحت أمراً واقعاً ولا يجب أن نرمي «الطفل مع ماء الغسيل»، كما يقول المثل الفرنسي، أي عدم التخلي عن بعض حسنات العولمة، بل أسوة ببعض الدول، أن نخلق القوانين والأطر التي تمنع الخارج من السيطرة على السياسة الاقتصادية وعلى الاقتصاديين... فمواقع القرار الأساسية المتعلقة بكرامة العيش («الحد الأدنى للأجور»)، والأكل والطاقة والصحة، لا يجب أن تكون خاضعة لقرارات صندوق النقد الدولي والمصارف، ولا يجب السماح للقطاعات الأساسية التي تمثّل المصلحة العامة أن تخرج عن سيطرتها. ويجب أن يعلن المرشحون للمناصب العليا عن ثرواتهم وأن لا يسمح بتضارب المصالح بين المنصب العام والشغل الخاص. ولا بد من إخضاع كل الشروط الاقتصادية المفروضة من الخارج لقرارات مجلس النواب أو للجنة خاصة تدرس مدى تلاؤم تلك القرارات مع السيادة الوطنية. لا ريب في أن كل ذلك سيحسّن من القرار السيادي، إلا أن تحصينه لا يمكن أن يتم في المنطقة العربية إلا من خلال سوق عربية مشتركة تمنع التفتيت.