همّ ألمانيا، كان منذ الأساس، هو إذلال حكومة تحالف سيريزا اليونانية وبالتالي إطاحتها. هذا ما قاله يانيس فاروفاكيس، وزير الاقتصاد اليوناني المستقيل، (في مقالة نشرها مؤخرا في شهرية الموند ديبلوماتيك) عن المفاوضات بين بلاده والدول الأوروبية، منذ انتخاب تحالف سيريزا في بداية العام الحالي. وهذا ما يحصل إجمالاً للدول التي تدخل عالم الليبرالية من خلال الأسواق المالية والدين العام، من دون ان تكون لها أسس اقتصادية صلبة، فلا تلبث أن تعاني من أزمات خانقة تسقط حكوماتها في أكثر الأحيان - بعد حصول أزمة مالية عالمية - كما رأينا في الأرجنتين وروسيا وتايلندا والمكسيك والبرازيل الخ.. في السبعينيات والثمانينيات من القرن الفائت.
خسر فاروفاكيس معركته بالضربة القاضية، فوزن الريشة لا يستطيع أن يهزم الوزن الثقيل مهما كانت شطارة الأول. لماذا إذاً الدفاع عن المهزوم؟ أليس المنتصر دائماً على حق؟ أو كما يقول الشاعر الفرنسي لافونتين: "قانون الأقوى هو دائماً الأفضل".
مصائب قوم عند قوم فوائد
هل من المنطقي (حتى في المنطق الرأسمالي) أن تطالب اليونان بإعفائها من قسم من ديونها، وتحاول تخفيف وطأة الانحسار الاقتصادي (ناقص 27 في المئة من الدخل القومي) خلال السنوات الخمس الأخيرة؟ للرد على ذلك، لا بد من الإجابة عن الأسئلة التالية:
* 1- من المسؤول عما آلت إليه اليونان؟ صحيح ان الحكومات اليونانية المتتالية (وليس آخرها، أي سيريزا) هي المسؤولة عن مراكمة الديون وتمويه الحسابات (بفضل بنك غولدمان ساكس)، لكن عموما، وباستثناء ألمانيا، فأكثر الدول المتطورة وصل دينها العام الحالي الى مستوى الدين العام اليوناني في بداية الأزمة: مجمل الديون السيادية لليونان سنة 2009 وصل الى 110 في المئة من الدخل القومي، أي أقل نسبياً من دين إيطاليا والبرتغال وانكلترا، وحتى من الدين الأميركي الحالي. هل يعني ذلك ان كل تلك الدول ذاهبة لا محالة إلى أزمة شبيهة بالأزمة اليونانية؟ ام أن تدهور الأوضاع السريع في اليونان كان سببه تطبيق الترويكا (صندوق النقد الدولي، المفوضية الأوروبية، البنك المركزي الأوروبي) لسياسات خاطئة أدت إلى ارتفاع الدين العام إلى 180 في المئة من الدخل القومي، والبطالة إلى 30 في المئة، على الرغم من اختفاء عجز الميزانية الحكومية الأولى (أي قبل دفع فوائد الديون). وقد اعترف بذلك تقرير للصندوق الدولي. بالإضافة، فإن "اللبرلة" المطلوبة من اليونان على حساب الدولة أدت إلى هروب الرساميل منها إلى الدول الأوروبية من دون ان يوقف ذلك الترويكا. فالمسؤولية الخارجية واضحة.
* 2- من المستفيد؟ من المؤكد ان ألمانيا استفادت كثيرا من ضعف اليورو بالنسبة للدولار نتيجة الأزمة اليونانية، فأضحت أكبر مصدِّر على الكرة الأرضية خلال السنوات الخمس الماضية، بفضل ازدياد صادراتها إلى الدول ذات العملات المرتكزة على الدولار، على الرغم من انخفاض صادراتها للدول الأوروبية. وإذا أضفنا إلى ذلك أن ألمانيا تحقق أيضاً أرباحاً من خلال إقراض اليونان، إذ إن فوائد القروض المعطاة لليونان أعلى بكثير من سعر الفائدة الذي تدفعه ألمانيا لاقتراض الأموال.
* 3- كيف تم حل الأزمات المشابهة لأزمة اليونان في التاريخ؟
الدول التي وصل دينها العام إلى مستوى الدين اليوناني في التاريخ كانت إما خارجة من حرب، وبالتالي عرفت نمواً كبيراً وتضخماً سمح لها بتسديد ديونها، أو كانت ديونها نتيجة سياسات خاطئة فأجبر المقرضون على إعفاء الحكومات من قسم منها (الارجنتين)، أو.. الاثنين معاً (ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية). وهكذا فأي عملية حسابية بسيطة تؤكد أن اليونان، إذا نفّذت كل ما طُلب منها، لن تستطيع أن تدفع الفوائد قبل 6 أو 7 سنوات، إذا توفرت الشروط الأخرى، أي نسبة نمو 2 في المئة، تمتصها كلها الدولة اليونانية من خلال رفع الضرائب.
بناء على المنطق والتاريخ، اعتقد فاروفاكيس أن نجاح سيريزا في الانتخابات سيجبر الألمان على تقديم تنازلات بما يتعلق بإلغاء قسم من الدين العام، خاصة أنه لا آلية لطرد دولة من أوروبا، بل هناك آلية لخروج دولة منها بإرادتها وبالاتفاق مع باقي الدول، بحسب اتفاقات لشبونة.
أين أخطأ الوزير؟
لم يأخذ فاروفاكيس بعين الاعتبار ثلاث مسائل لعبت الدور الأساسي بإحباط مشاريع حكومة تحالف سيريزا:
1ـ عنصر الوقت. الوقت لم يكن لمصلحة الحكومة اليونانية، إذ إن هناك تسديدات للديون قريبة، فماطلت ألمانيا حتى وصول موعد الاستحقاقات.
2- وهي لم توقف هروب الرساميل منذ أول يوم لانتخابها، كما فعل مثلا الرئيس الفرنسي ميتران غداة انتخابه. أدى ذلك الهروب إلى تعجيل نشاف السيولة من المصارف اليونانية، ما كشف العنصر الثالث الخاطئ في تحليل وزير الاقتصاد.
3 ـ دور البنك المركزي الأوروبي، الذي يفترض أن تكون لديه استقلالية عن الحكومات، ولكنه أوقف السيولة عن البنوك اليونانية لفترة من الوقت متحججاً بعدم تمكن الحكومة من تسديد استحقاق، خالطا بين السيولة (وظيفة البنك المركزي) والدين الحكومي (وهي مسألة متعلقة بالحكومات).
4 ـ موقف الدول الأوروبية الأخرى، أي العنصر السياسي. لم تلاقِ اليونان دولة واحدة تساندها باستثناء فرنسا.. لفظياً. يقول فاروفاكيس بهذا الصدد إن عيونه دمعت عندما رأى كيف رضخت فرنسا لألمانيا بعدما اعترضت بعض الشيء.
أما سبب ذلك كله فواضح جداً، إذ يكفي أن يسأل السؤال التالي: لماذا تريد حكومات ليبرالية، وخاصة ألمانيا، إعطاء حكومة أقصى يسار أوروبي هدية؟ هذه الهدية لن تعطى إلا لدولة ذات حكومة ليبرالية سواء أكانت يسارية أو يمينية!
خلاصة: تحاول ميركل أن تقنع أوروبا بأن "الليبرالية شر لا بد منه"، لأن "الليبرالية أفضل الأنظمة الموجودة". وهو ما يحاول الأميركيون فرضه على العالم منذ 1990 بل وحتى منذ 1982 (اتفاقات ريغن ــ تاتشر)، بحجة أن النمو في البلدان الليبرالية المنفتحة أكبر بكثير من الدول الأخرى. وهذا صحيح! في كل بلد فتح أسواقه التجارية والمالية ضعف قطاعه العام. إلا أن هذا لا يصح إلا لفترة من الزمن، ويؤدي بالضرورة إلى أزمة اقتصادية كبيرة تتم معالجتها بمزيد من الليبرالية في البلدان المتخلفة أو الضعيفة. والعكس صحيح. في البلدان المتطورة أو الكبيرة، كالصين وروسيا، وفي أكثر الأحيان الأخرى، يزداد دور الدولة في الاقتصاد لحل الأزمة، من خلال التأميم مثلا (تأميم المصارف في إنكلترا).
الليبرالية والعولمة تترافقان إجمالا مع ازدياد الديون، حكومية كانت أم سواها، بالإضافة (في أكثر الأحيان) إلى ازدياد العجز التجاري. فدين الحكومة الأميركية 18 تريليون دولار، ومجمل الدين الأوروبي هو بنفس الحجم تقريبا، أما الدين الياباني فيوازي 10 تريليونات دولار. الدول الغنية مديونة بحوالي 45 تريليون دولار. لماذا إذاً هذا "الاستشراس" على اليونان؟ وخاصة، لماذا دفْع اليونان إلى ليبرالية أكبر والتدخل بتفاصيل حياتها الاقتصادية (فتح المحال نهار الأحد هو واحد من الشروط المفروضة على الحكومة اليونانية).
أمن المنطق أن تداوي بالتي كانت هي الداء؟ من المؤكد أن ألمانيا ستضطر إلى إعفاء اليونان من قسم كبير من ديونها لاحقا، بعد أن تعاد الانتخابات وينتصر فيها اليسار أو اليمين الليبرالي..
فاروفاكيس حاول ولم ينجح، ولكنه ربما فتح الطريق! وكل ما استطاعه رئيس الوزراء، الكسيس تسيبراس، الذي تخلى عنه، هو إكساب اليونان بعض الوقت (3 سنوات)، وهو أفق الأزمة المقبلة.