زياد دويري إلى الأوسكار؟

فيلم زياد دويري الجديد، المرشح من قبل لبنان للأوسكار، كما السابق المصوَّر والمنتَج في إسرائيل، يشتركان في تسويق بروباغندا واحدة وإنْ مُغلّفة بلغة سينمائية وبإدعاء الرغبة في "تفهم الآخر"
2018-02-25

صباح جلّول

كاتبة صحافية وباحثة في الانتربولوجيا البصرية من لبنان


شارك
زياد دويري متوسطا الممثل الفلسطيني علي سليمان والممثلة الإسرائيلية ريموند عمسالم خلال تصوير فيلم "الصدمة"

في أيلول/ سبتمبر 2017 بدأت مسألة عرض فيلم "القضية رقم 23" للمخرج اللبناني زياد دويري بالتفاعل في لبنان، بالتزامن مع العروض الأولى له في بيروت. دويري، في كلمته المقتضبة قبل العرض الخاص بالصحافيين، أسرّ للحاضرين أنّ كثراً قالوا له أن عليه أن يفرح بالدعاية التي حصل عليها منتجه الجديد بسبب استدعائه للمحكمة العسكرية في اليوم السابق (على خلفية زيارته أراضي العدو الإسرائيلي عامي 2010-2011). "شو بيقولوا؟ ما في دعاية سلبية، في دعاية وبس".. أكّد أنه لا يحتاج دعاية من هذا النوع وأنه علينا "ألّا نفرح بهكذا أمور تضرّ بالسينما اللبنانية". دويري إذاً يعتبر أنه سفيرٌ للسينما اللبنانية، وهو الذي اكتسب مكانة في أذهان المشاهدين بعد فيلمه الأول "بيروت الغربية" (1998). لكن ماذا تغير في الرجل منذ باكورته تلك التي تعرض بحميمية حياة مراهقين في بيروت أثناء معارك الحرب الأهلية اللبنانية، حتى وصل إلى "القضية رقم 23"؟

 

ما حصل بين ياسر وطوني

 

نبدأ من الفيلم الأحدث لنراجع ما سبقه. "القضية رقم 23" فيلم جذّاب تقنياً، وهو ككثير من أفلام المحاكمات التي تعتمد على المنعطفات في الحبكة (plot twists)، يبني لحظات الشحن العاطفي حتى تصل ذروتها في سرد كلاسيكي يذكّرنا بأن دويري تعلّم الحرفة في هوليوود.
في القصة، ياسر الفلسطيني يعمل لدى الشركة المتعهّدة إصلاح المخالفات في حيّ فسّوح في الأشرفية، يحاول إصلاح مزراب مياه مُخالِف يصدف أنه لطوني، المناصر الوفيّ للقوات اللبنانية، صاحب كاراج لتصليح سيارات. يقوم طوني بتكسير المزراب الذي أصلحه ياسر، فيرد ياسر بشتمه، وحين يطلب طوني اعتذاراً واضحاً ينصاع ياسر ثمّ يتردد بنطق الاعتذار بسبب خطاب تحقيري للفلسطينيين لبشير الجميّل مسموع في خلفية المشهد! عندها ينطق طوني بجملته التي ستغيّر كل شيء "إنتو أصلاً شعب بلا أصل، يا ريت شارون محاكُن عن بكرة أبيكن"، ليقوم ياسر بلكم طوني فتتحول المسألة إلى القضاء وتعيد نكأ جراح الماضي، حتى لتكاد تجدد الحرب الأهلية بمشهد مصوّر في ساحة الشهداء تشتعل فيه النيران والاشتباكات.

 

ماذا يحاول فيلم "القضية رقم 23" أن يقول؟ ليس كل الفلسطينيين مخرّبين؟ يمكننا الاستفادة من خبراتهم في العمل إذا كانوا "شغّيلين" والسماح لهم بالعيش بيننا؟ لكن هناك قائمة شروط: نريد فلسطينياً شغّيلاً ذا صوت خفيض، لا يكثر الكلام ولا يحب المشاكل ومن المفضّل ألا يدافع عن نفسه أساساً..

 

يلجأ دويري مجدداً (بعد فيلم "الصدمة" المصوَّر في الأراضي المحتلّة)، لوضع متضادَين واضحَين مقابل بعضهما البعض، ثمّ إشراكهما في رحلة بحث لتفهّم الآخر وتحريره من الشيطنة وأحاديّة البُعد وبالتالي رؤيته بعين جديدة، نداً يشبه ندّه. أمّا الصراع نفسه، حيث الشيطان، فبالإمكان ملاحظة كيف يؤفلِم دويري الأجزاء المتعلّقة بماضي "القوّتجي" طوني، الذي نكتشف أنه نجا طِفلاً من مجزرة الدامور (1976)، فيعمد دويري إلى عرض مشاهد حيّة للمجزرة والمدنيين الهاربين وجثث الضحايا من جِهة، وإلى تصوير مشاهد استعاديّة (فلاشباك) لطفولة طوني في حقول الموز التي كان يعتني بها والده أو للحظة هروبه طفلاً خائفاً مع والدته من المسلّحين. وأمّا الأجزاء المتعلّقة بماضي "الفلسطيني" فتُسرد بالاستعادة اللفظية فقط، بالكلام عنها، دون اللجوء للصورة والموسيقى التي يكون غرضها استدرار العاطفة ووضع المشاهد أمام حالة تماهي مع المأساة، كما تُحكى قصص الفلسطيني ياسر بالربط دائماً مع موضوع انتقال الفدائيين من مكان لآخر، حتى لنشعر أن الشرّ كله كان منصباً في جانب دون آخر. يستخدم دويري أدواته بانتقائية خلّاقة، تذكّر بفيلمه "الصدمة" المصوَّر في الأراضي المحتلة.

 

عربي نظيف آخر

 

شخصية ياسر الفلسطيني قصة أخرى، وتعيدنا للربط بفيلم "الصدمة" كذلك، كونها هنا لفلسطيني آخر "نظيف" (كان بطل الصدمة جرّاحاً بارعاً يسكن في تل أبيب ويقطع علاقاته بأهله في نابلس ويصير كل أصدقائه من الإسرائيليين). ياسر هنا لاجئ في لبنان بالبطاقة الزرقاء، يقطن في مخيم مار الياس، متزوّج من لبنانية مسيحية، يعمل مشرفاً على عمّال شركة التعهّدات (مخالِفاً القانون الذي لا يجيز توظيفه)، كماليّ في العمل يأتي باكراً ويرحل متأخراً وينجز كل أعماله بأمانة ودقّة. هو شديد الهدوء ولا يكثر الكلام (حواراته محدودة جداً). يخرج جانبه الانفعالي في لحظات نادرة كتلك التي اختبرها في حادثة طوني المشؤومة. ياسر لا يريد الدفاع عن نفسه في المحكمة، حتى أنه يعترف للقاضي أنه مذنب ويرفض الإفصاح عن سبب انفعاله تجاه طوني بشكل عنيد يثير الاستغراب.

 

قامت الدولة اللبنانية بتقديم فيلمه الأحدث، "القضية رقم 23"، إلى الترشيحات الرسمية لجوائز الأوسكار، وقامت لجنة الأوسكار بقبول الفيلم بدورها واختياره ضمن اللائحة القصيرة مع 4 أفلام أخرى من حول العالم، للتنافس على جائزة أفضل فيلم أجنبي لعام 2017 (النتائج تعلن في آذار 2018)

 

نفترض أنّ ياسر هو من الشخصيات التي يمكن للمشاهد أينما كان أن يتعاطف مع خطئها، بينما ليست هذه حالة طوني الذي نتعاطف معه رغم أنه "مشرّاني" وهجومي صلف. عظيم، لكن ماذا يحاول الفيلم أن يقول؟ ليس كل الفلسطينيين مخرّبين؟ يمكننا الاستفادة من خبراتهم في العمل إذا كانوا "شغّيلين" والسماح لهم بالعيش بيننا؟ لكن هناك قائمة شروط: نريد فلسطينياً شغّيلاً ذا صوت خفيض، لا يكثر الكلام ولا يحب المشاكل ومن المفضّل ألا يدافع عن نفسه أساساً..
الطرح يزداد إثارة للريبة حين ينتبه المشاهِد أن الفيلم لا يذكر أي مجزرة طالت المدنيين الفلسطينيين في لبنان، ويقوم بتبييض صفحة سمير جعجع، رئيس حزب القوات اللبنانية، أحد أمراء الحرب ومجرميها الموصوفين، عبر دور "الحكيم" الذي يسعى للسلام في الفيلم، ثمّ عبر توجيه التحية له صراحة وبشكل مباشر في شارة النهاية، وإقرار المخرج بأنه استقى روايته "التاريخية" من قصص "الحكيم" نفسه.

 

عودة إلى "الصدمة"

 

صوّر دويري فيلماً في الأراضي الفلسطينية المحتلّة لعدّة شهور بين عامي 2010 و2011. مُنع ذلك الفيلم المُسمّى "الصدمة" من العرض في لبنان آنذاك، ومرّت مسألة إقامة دويري في "إسرائيل" وعمله فيها من دون محاسبة برغم الخرق الصريح للقانون اللبناني. مرّت ست سنوات مذّاك عاد خلالها دويري إلى بيروت مرات عدة، ولم يتم توقيفه مرّة في المطار. صور خلال تلك الفترة فيلمه "القضية رقم 23". عندما أوقف دويري أواخر عام 2017 من قبل الأمن العام اللبناني، أخلي سبيله بعد ساعات قليلة. قال محاميه إنّ زياد استُدعي بناء على إخبار وأخلي سبيله "ولم تُوجَّه له أي تهمة" وأنّ من تقدّم بإخبار ضدّ دويري هُم أشخاص "يغارون من زياد ومن إبداعاته"، كأن مسألة عمله في الأراضي المحتلّة مع إسرائيليين ليست القضية، بل هي مسألة غيرة و"ضيقة عين"، في تسطيحٍ شديد للمسألة وحرفها عن سؤال التطبيع، مع الإشارة لغرابة انزعاج دويري من كلمة "تطبيع".
هذا في الوقت الذي يجاهر فيه المخرج المولود في إسرائيل (والذي يسمّيه الصهاينة "الإسرائيلي السابق") إيال سيفان بمقاطعة الدولة المحتلّة ثقافياً لأنّ "حروب إسرائيل تُخاض على الجبهة الثقافية كذلك" (كما يقول بيان الفنانين الذين وقّع عليه سيفان وأكثر من 600 آخرين في العام 2015)، فيما لا يلقى دويري بالاً لمفاهيم المقاطعة التي تقع بعيداً خارج دائرة اهتمامه.

 

الشركة المنتجة التي يتعامل معها زياد دويري، "كوهين ميديا غروب"، مُنِح رئيسها التنفيذي تشارلز كوهين وسام السلام من إسرائيل عام 2002 تكريماً له لتبرعه بمبلغ 52.4 مليون دولار لسندات دولة إسرائيل..

خرج دويري إذاَ معلناً مفهوماً مختَرَعاً جديداً، مطالِباً بـ"حصانة للفنان" متجاوزاً مسألة مخالَفة القانون. هناك مواطن لبناني، صودف أنه مخرج مشهور، أقام في إسرائيل لمدة 11 شهراً وأتى بممثلين إسرائيليين ومنتج إسرائيلي وتعاون مع الأجهزة الأمنية الإسرائيلية ودفع ضرائب للدولة الصهيونية، لكن حصوله على جائزة هنا ونقد جيّد هناك كفيلان على ما يبدو بأن يشفعا له لأن أحداً ما قرر أنّ هذا الرجل هو وجه لبنان الحقيقي، هو لبنان كما ينبغي له أن يكون، لبنان كما يحبّه "جيرانه"، لبنان الذي لا يصنع مشاكل ولا يوجِع الرأس ويتقبّل "الآخر" أيّاً كان، في خطابٍ تستسيغه الآذان الغربية وتشجّع عليه. بل أكثر من ذلك، قامت الدولة اللبنانية بتقديم فيلمه الأحدث "القضية رقم 23" إلى الترشيحات الرسمية لجوائز الأوسكار، وقامت لجنة الأوسكار بقبول الفيلم بدورها واختياره ضمن اللائحة القصيرة مع 4 أفلام أخرى من حول العالم، للتنافس على جائزة أفضل فيلم أجنبي لعام 2017 (النتائج تعلن في آذار 2018). ربما يكمن العطب الرئيسي في هذا الانعدام للمعايير من المسؤولين عن تطبيق القانون وصون البلاد أصلاً.

 

"إسرائيل تفصيل"؟

 

هي فرصة ليعيد ديري معزوفته المفضلة حول "تقبّل الآخر". وهو إن كان في فيلم "القضية رقم 23" لبنانياً ينتمي إلى القوات اللبنانية أو فلسطينياً لاجئاً (وهذا طرح مشروع وجدّي في سؤال الانتقال إلى مرحلة الشفاء من الحرب بغض النظر عن مقاربته في الفيلم)، فإن هذا "الآخر" كان بالأمس القريب إسرائيلياً في فيلم "الصدمة". في الفيلم المبني على رواية الجزائري ياسمينا خضرا، مأساة الفلسطيني في صورة دويري وسردياته هي تلّة من الركام نراها آخر الفيلم، وهي تشظّي هويّة يقاسيها بطل الفيلم من خلال تغريبه عن أصله الفلسطيني مرة وعن مجتمعه الإسرائيلي مرة وعن زوجته (المغرّر بها لتنفّذ عملية انتحارية، حسب القصة) مرة أخرى. أمّا مأساة الإسرائيلي فهي لقطة مقرّبة على وجه طفلة إسرائيلية تغطّي الدماء وجهها (بعد أن كانت تجلس مع رفاقها في حفلة عيد ميلاد، بالطبع، إمعاناً في ابتزاز المشاهِد عاطفياً). لا يخطر لدويري مدى الأذى الذي يتسبب به فيلم ترحّب به إسرائيل وتسهّل صناعته، لمئات الآلاف من اللبنانيين والفلسطينيين الذين كانوا وما زالوا يقاسون عذابات الاحتلال، ولا يخطر له أن أسئلتهم تختلف أيّما اختلاف عن أسئلته هو وخضرا تجاه القضية.

 

دويري يعلن مفهوما مختَرَعاً جديداً: "حصانة الفنان"، بما يتجاوز مسألة مخالَفة القانون. هنا مواطن لبناني، صودف أنه مخرج مشهور، أقام في إسرائيل لمدة 11 شهراً وأتى بممثلين إسرائيليين ومُنتِج إسرائيلي وتعاون مع الأجهزة الأمنية الإسرائيلية ودفع ضرائب للدولة الصهيونية. "أحدٌ ما" قرر أنّ هذا الرجل هو وجه لبنان الحقيقي، لبنان كما ينبغي له أن يكون..

 

أما أن يُقال "محاكمة الفنّ المبدِع" مثلاً بدلاً من قول "محاكمة المواطن اللبناني زياد دويري في قضية زيارته لدولة العدو" فهي استراتيجية فيها من الخبث والمكر ما لا يُغفَلُ عنه. تفكيك المسائل إلى جذورها تمرين جيّد كي لا يستفحل التشتيت والإلهاء عمّا هو أساسي. بالنسبة لهؤلاء، كلّ من يطالب بالمحاسبة صار "مطاوعاً"، خصوصاً إن كانت أعمال صاحبنا ذات طبيعة احترافية جيدة وحائزة على تقدير في الخارج وذاهبة للأوسكار برعاية الدولة.. على سبيل المثال، فيلم "وِلادة أمّة" للمخرج الأميركي د. و. غريفيث تحفة إبداعية تُعتَبَر "معلَماً" سينمائياً رياديّاً، لكنه فيلم عنصري يحتقر السود ويصوّرهم ككائنات أقل ذكاء، فهل نغفر خطايا غريفيث لأنه مبدع خلّاق؟ أو هل نغفر للبروباغندا النازية لأنها متقنة فنياً؟ هل نحن بحاجة لأن نقول أن في قضيّة كهذه فإن جودة الفيلم وبراعته، وحتى ترشيحه لجائزة أوسكار، هي أمور حقاً غير ذات صِلة؟
.. هذا على فرض النزاهة في هذا الاعجاب باتقان العمل وهذا المديح لرهافته، وأن دافعهما هو فحسب "تقدير الفن"، بينما يُهمس بعكس ذلك بصوت خفيض، وبضرورة التغاضي عن المستوى المتواضع للعمل (بالمقاييس العالمية) بسبب أهمية الترويج لرسالته!   
أخيراً، ورد في مقال "فايس" حول "القضية رقم 23" أنّ زياد دويري أقرّ أنه يرى إسرائيل "كتفصيل، إنها ليست القضية". كما أنه أشار في أكثر من مناسبة لانزعاجه الشديد من حركة المقاطعة BDS، التي يقول أنه يسعى "لفضح فسادها الداخلي"، في ما يبدو أنه اتجاه ممنهج لدى المخرج في التقرّب من إسرائيل بأية طريقة. كما يشير المقال لحقيقة أن الشركة المنتجة التي يتعامل معها دويري "كوهين ميديا غروب" مُنِح رئيسها التنفيذي تشارلز كوهين وسام السلام من إسرائيل عام 2002 تكريماً له لتبرعه بمبلغ 52.4 مليون دولار لسندات دولة إسرائيل.


اقرأ أيضاً: حركة المقاطعة جنّنت إسرائيل!


مقالات من فلسطين

خالدة جرار مسجونة في قبر!

2024-11-21

"أنا أموت كل يوم، الزنزانة أشبه بصندوق صغير محكم الإغلاق، لا يدخله الهواء. لا يوجد في الزنزانة إلا دورة مياه ونافذة صغيرة فوقه أغلقوها بعد يوم من نقلي إلى هنا...

للكاتب نفسه

كلّ ما يتحدّى اكتمال الإبادة..

صباح جلّول 2024-11-10

شبعت أعين العالم أكلاً في مأساة غزّة. لن تغيِّر صور الموت ما لم يغيّره الموت نفسه. لذلك، فهذه هنا صور لقلبٍ ما زال ينبض، لملمناها من صور شاركها الصحافي يوسف...

أجمل من خيال

صباح جلّول 2023-07-06

إنها أجمل من الخيال والأفلام، هذه الحكاية، والناس في حكاياتنا أجمل من الأبطال الخارقين أيضاً وأكثر إبهاراً. ننظر إلى المشهد مرة أخرى، فنتفاجأ بشبان عاديين، عاديين تماماً، ولكن قادرين تماماً...