عن موقع حبر
ريما العيسى
ما أن اقتحمت العصابات اليهودية أحياء غربي القدس حتى بدأت عمليات السلب والنهب للبيوت والممتلكات؛ تلك العمليات التي أسهم فيها مدنيون وعسكريون حتى من كبار الضباط. شهد حي القطمون، الذي كان شاهدًا على الحداثة الفلسطينية التي كانت في مستهلها بعماراته وبيوته ذات الطابع الكولونيالي المميز والمترف، من السلب والنهب ما لم يشهده مكان آخر، حتى رُوي أن حلقات الأبواب لم تسلم من أيديهم.
لكن أهم حدث يُذكر في موجة السلب هذه هي المكتبات التي نهبت والتي تقدر بآلاف الكتب من أحياء القطمون والمصرارة والبقعة والمستعمرة الألمانية. فبناء على رواية المعماري إيال وايزمن، فقد جمع موظفو مكتبة الجامعة العبرية ما يقرب من ثلاثين ألف كتاب ومخطوط ومجلة وجريدة تركها سكان غربي القدس خلفهم في الفترة ما بين أيار 1948 وشباط 1949. يصف موظفو المكتبة ما جرى وكأنه عملية إنقاذ للكتب، إذ لولاها لضاعت واندثرت. فبالنسبة لمن لا يدري بما جرى عام 1948، فإنه سيظن بأن الفلسطينيين قد تركوها خلفهم بكامل رضاهم، وعليه يتوجب شكر الجهود التي بذلتها المكتبة، بحسب ما يروي غيش عميت. ويذهب عميت أبعد من ذلك بالقول إن هؤلاء الموظفين حاولوا الإيهام بأن الكتب كانت بلا أصحاب، وكأنها وجدت ملقاة على قارعة الطريق.
تعود بعض هذه الكتب لشخصيات من النخب الفلسطينية آنذاك، من أمثال نقولا فراج من المصرارة، وخليل السكاكيني من القطمون، وهاغوب ملكيان من الطالبية، ويوسف هيكل من القطمون، وعجاج نويهض وجورج سعيد من البقعة، وكثر غيرهم. كان سكان غربي القدس من الطبقة المتوسطة والعليا، وأغلبهم ينتمون إلى مذاهب مسيحية متعددة، قدموا إلى منطقة القطمون من القدس القديمة أو من قرى مسيحية مجاورة. كما سكنها بعض اليهود واليونان والإنكليز. وقد اعتبرت غربي القدس في غالبها منطقة عمران حضري بمستوى معيشي مترف. حيث دلت المنازل وحتى الشقق على هذا التعقيد والثراء، وتمكن قراءة ذلك من خلال النظر إلى الحجارة المستخدمة وبعض التفاصيل المعمارية والواجهات الحجرية فضلًا عن الحدائق الأنيقة المحيطة بها.
احتلال المكان المتخيل
بعد النكبة، اكتظت أحياء القدس بالمستوطنين اليهود الذين تشكلوا عبر التجديد كجزء من عملية اختراع الذات القومية، تمامًا كما المنازل الفلسطينية التي احتلوها وأعادوا «تجديدها» بإضافات تنافت مع الطابع المعماري لها. ولكن التحول في القطمون من حي فلسطيني إلى حي يهودي إسرائيلي اكتمل عند ظهور الكنس الصغيرة على شوارعها، فيما تحولت الكنيسة الكاثوليكية إلى عيادة طبية. وفي إضافة رمزية محمّلة بالمعاني، أُعطي الحي اسمه العبري الجديد غونين كما باقي أحياء غربي القدس وشوارعها. یوضح عالم الاجتماع الفرنسي ھنري لوفیفر أن امتلاك المكان المتخیّل یكون عبر الغرق في التاریخ ورموزه. في هذه الحالة تم استخراج غالبية التسميات الجديدة من التوراة، ذلك أن خلع الاسم العربي عن المكان، بمثابة خلعٍ لساكن المكان ولتاريخه وفضائه؛ وإلباسه اسمًا جديدًا إنما هو إخضاع للمكان وامتلاك له.
اقرأ أيضاً: القدس.. كيف تُبنى العاصمة الإسرائيليّة؟
وهكذا، بعد أن تم طرد وتهجير سكان غربي القدس -الذين يعيش العديد منهم الآن في شرقي القدس على بعد كيلومترات من بيوتهم السابقة التي احتلها المستوطنون اليهود- تسارعت عمليات السيطرة على المشهد والفضاء الفلسطيني، وتمثل ذلك في عنصرين أساسيين: عنصر قانوني يعيد تعريف حقوق الملكية، ويفرض بنية هيكلية مختلفة من السيادة على الأرض من خلال إعادة سن أنظمة الملكية والاستخدام والتداول والانتشار على الأرض؛ وعناصر معمارية تعيد فرض قوانين الملكية الجديدة وتعيد صياغة وتوزيع المحيط المادي للأرض. ويمكن إضافة عنصر ثالث لا يستهان به وهو رسم الخرائط الذي يعاد من خلاله تشكيل وتنظيم الأرض إلى جانب إعادة تسميتها. إذ عملت دولة الاحتلال على إعادة إنتاج المكان ماديًا وإدراكيًا من خلال الاستيلاء والتخطيط والممارسات الجيوسياسية.
الفجاجة البصرية الاستيطانية
كان المعماريون الإسرائيليون من أهم الأدوات التي استخدمت في السيطرة على الفضاء. فمثلًا، في محاولة من المكان الجديد لمحو أثر المكان القديم، شُيّد في القدس مبنى متحف «ياد فاشيم» المكرّس لذكرى من قضوا من اليهود في الهولوكوست، إلا أن المفارقة تكمن في أنه على بعد مسافة ميل مرئي من مبنى هذا المتحف الضخم بنصبه التذكارية وأروقته المتعددة، يقبع شهداء دير ياسين بلا قبور معلومة أو شواهد أو نصب تشير إليهم، والأدهى من ذلك أن المتحف يقع على أراضي قرية دير ياسين ذاتها، وكذلك المقبرة اليهودية غربي القدس.
حاول جيل المعماريين الإسرائيليين الجدد أن يبعث الروح في العمارة الإسرائيلية من خلال إدخال الصبغة المحلّية، التي مثّلتها العمارة الفلسطينية باعتبارها عمارة سياقية لصيقة بمكانها. وفي المقابل قطعت الطريق إلى الحداثة أمام «الأقلية» الفلسطينية في غربي القدس لأنها افتقدت السقف الاقتصادي-السياسي. «فالقدرة على بناء الفضاء هي مصدر للسلطة لا يستهان به سواء من جانب الجماعات المسيطرة أو التابعة». لذلك نجم عن احتلال غربي القدس تغيير دراماتيكي في تشكيلها عبر عمليتين، تمثلت الأولى في تقليص المدينة بإبقائها ضمن أحيائها الأصلية التي لم تتوسع؛ وتوسيع فضائها الريفي الغربي الذي ضُمّ إلى المدينة وذلك بتطوير أحياء سكنية كثيفة ومستوطنات لاستيعاب المستوطنين اليهود الجدد على أنقاض القرى الفلسطينية المصادرة.
أما بالنسبة لشرقي القدس، فقد بدأت عملية تهويدها منذ لحظات احتلالها بعد حرب 1967. حيث أقيمت المستوطنات المحيطة بالمدينة ضاربة عرض الحائط بعمارتها وعمرانها، ومشكّلة ضائقة بصرية للسكان بصورة فجّة. وكما يشير جدعون ليفي، «يمكنك أن ترى المستوطنة من أي مكان، وهي تلوح مهددة في أعالي التلال وكولونيالية بشكل مروع»9. كما قامت ببناء حلقة موسعة حول الأحياء اليهودية التي تحوي حاليًا نصف عدد السكان اليهود في المدينة، بحيث تحوّل الوجود اليهودي في البلدة القديمة إلى منطقة محصنة وغيتو مغلق ومنعزل وغريب ومزيف عن بيئته، ولا يخرج الواحد منهم إلا بحراسة تحيط به. وكذلك نجد البؤر الاستيطانية، أو البيوت المبنیّة في قلب البیوت الفلسطینیّة، كنوع من المستوطنات المصغّرة داخل النسیج المدني، مما یؤجج الاحتكاك إلى أضعاف ما ھو علیه.
اقرأ أيضاً: فلسطين.. منطق الدولة المتخيّلة
لقد اعتمدت دولة الاحتلال سياسة الإغلاق التي تعتمد بدورها على عناصر العمارة والمعمار بشكل كبير من أجل إرساء المحو، والهدم، وتشظية المشهد، مستغلة ثلاثة عناصر معمارية: الحواجز والمستوطنات والجدار، بحيث تعيق الحركة داخل وعبر الفضاء، فتصادر الفضاء، وتدمر النشاط الاقتصادي وتخلق مناطق اقتصادية ميتة.
فبرج المراقبة وجدار الفصل الذي بات يلف المدينة -بوصفهما يكرّسان التجزئة والفصل الديمغرافي- هما من بين المشاهد التي تعيد إلى الأذهان تلك البدايات التي استبدلت فيها عمارة فترة التأسيس للدولة العبرية -متمثلة بالعمارة الحداثية قبل الإعلان عن قيامها سنة 1948- بالعمارة الهندسية العسكرية فور الاعتراف بها دوليًا. وبذلك وضعت الحيّز الفلسطيني تحت رقابتها وسيطرتها. ويعلق المعماري شارون روتبارد بأنّ العمارة «الإسرائيلية» تفتقد النقدية والنظرة الشمولية لفحص ذاتها، وتتحرّك بفعل أيديولوجيات سياسية حيث تطعّم الإسمنت المسلّح (الخرسانة) بالحقائق التي هي سياسية بماهيتها ولكنها تفتقد الوعي السياسي الذاتي.
أعلنت دولة الاحتلال ضم شرقي القدس رسميًا في 30 تموز 1980. ويعتبر بعض الإسرائيليين أن القدس «الموحدة» بشطريها الغربي والشرقي هي فضاء عمراني ثابت، ودليل على السيادة، متجاهلين أن المدينة قد صنعت عبر الممارسات الجيو-سياسية بما فيها الاحتلال العسكري والتخطيط والهندسة الديموغرافية والجغرافيا المتخيلة. فبالنسبة ليوسف جبارين أن التخطيط الذي يجري في القدس حاليا قد بني على الاستراتيجيات الجيوسياسية التي تهدف إلى السيطرة الديموغرافية وتوسيع سلطات المدينة عبر مصادرة أراضي الفلسطينيين واستثنائهم من أي تخطيط استراتيجي للمدينة. ويشير رافي سيغال وإيال وايزمان في كتاب «احتلال مدني: سياسات العمارة الإسرائيلية»، إلى أن خبرات المهندسين والمخططين والمعماريين، إنما تخدم أهداف وسياسات الاستيطان الإسرائيلية، ولا تنبع من الاعتبارات الاقتصادية أو البيئية؛ وتسعى إلى محو المشهد المفتوح، والمحيط العمراني. وهكذا بقيت سياسات التخطيط في القدس برغم الادعاء البلاغي على أنها موحدة، نموذجًا لمدينة كولونيالية، تتولد فيها الفضاءات الرمادية التي تبقى خارج التطوير والتخطيط الحضري والعمراني للدولة في ظل قوى اقتصادٍ نيوليبراليٍ ميهمن.
هندسة النسيج الاجتماعي
تعتبر أسوار القدس القديمة عنصرًا أساسيًا في بناء مشهد القدس وهو الذي يشكل حدودها المادية. ويبلغ ارتفاع أسوارها 17 مترًا في بعض المناطق وعرضها مترين في أغلب الأماكن يتخللها 34 برجًا و11 بوابة، أربع منها مغلقة. تعود أغلب الأبنية في القدس القديمة إلى العهد الأيوبي والمملوكي والعثماني. ولم يجرِ أي تعديل على نسيجها العمراني إلا بعد الاحتلال عام 1967، وذلك عندما استُحدث الحي اليهودي على أنقاض حيي المغاربة والشرف، مما نجم عنه توسيع المنطقة اليهودية في القدس القديمة إلى ما يزيد عن 120 دونمًا، أي ستة أضعاف السابق، فضلًا عن الحفريات الجارية بتسارع أسفل المسجد الأقصى، بحيث يعكس هذا التوسع والتغيير سلطة «إسرائيل» على المدينة كما وقد غير نسيجها الاجتماعي بحيث تم تقسيمها عبر خطوط دينية وإثنية بعكس تطورها العضوي المختلط عبر القرون. فقد كانت القدس القديمة تشكل جزءًا من نسيج محيطها الحضري العمراني، حيث تطور قسم من المحيط بالتوازي مع المدينة، فيما تطور القسم الآخر لاحقًا وأصبح جزء منها وظيفيًا ورمزيًا.
وقد تطورت أحياء مثل شعفاط والشيخ جراح وبيت حنينا ووادي الجوز شمالًا، وجبل الطور وسلوان وراس العامود والشياح والعيزرية شرقًا، بينما تحوّل العمران المديني في أطراف شرقي القدس إلى ضواحي، حيث غادر العديد من سكان القدس المدينة إلى الأطراف لعدم قدرتهم على تحمل تكاليف وأعباء الحياة التي فرضها الاحتلال، والقوانين التي بات يطبقها على هذه الضواحي.
وهكذا يصبح الفضاء، بناء على رؤية هنري لوفيفر، «جائزة في الصراعات بين الجماعات والأيديولوجيات، والوسيط الذي تسعى من خلاله لأن ترسي وتثبت نفسها»، يحظى بها من يفوز في هذا الصراع. فالفضاء المعاش هو حيث يفاوض الناس المعاني المجرّدة للفضاء المتخيل والوقائع المادية للفضاء المدرك في الوقت ذاته. «فمتى تشرّبت الجماعات الحديثة ذات الطموحات الإقليمية بالرؤيا المتخيلة للانتماء والأحقية بالأرض، فإنها تستخدم آليات الإغلاق القانونية والمعمارية لفرض أنظمة جديدة من السيادة على الأرض وكسر الأنماط القائمة للملكية والاستخدام والعلاقات الاجتماعية-الاقتصادية على المشهد».