لم يلتهم "الكيان الاسرائيلي" فلسطين دفعة واحدة..
بدأ الالتهام ببناء مجموعة من المستوطنات، وتعزيز سكانها بالسلاح، الفردي بداية، ثم بقليل من المصفحات والرشاشات الثقيلة، ومحاولة إغراء بعض المزارعين العرب ببيع أملاكهم، التي ستُصادر على أي حال.
بعد الثورة الشعبية العارمة في 1936، وإرتفاع وتيرة العنف، ارتكبت عصابات "شتيرن" و"هاغانا" سلسلة من المذابح المنظمة لإلقاء الرعب في قلوب الفلسطينيين الذين وجدوا انفسهم بلا سند الا من أناشيد الحماسة "يا فلسطين جينالك .. جينا وجينا جينالك.. جينا لنشيل احمالك".. أما في الحرب الفلسطينية الأولى، في العام 1948، فقد شارك من الجنود والضباط العرب، مصريين وسوريين واردنيين ولبنانيين (عند نقطة الحدود) وكذلك من المتطوعين العرب مغاربة وتوانسة ويمنيين، مئات من الذين جاءت بهم "نخوتهم" وايمانهم بعروبة فلسطين وبضرورة حماية المقدسات الإسلامية والمسيحية وحتى اليهودية، فيها.
احتل الاسرائيليون معظم أرض فلسطين، ولكنهم حرصواــ بناء على اتفاقات سرية ــ على ترك الضفة الشرقية لنهر الاردن لتكون تحت حماية العرش الهاشمي، قبل أن تصير جزءا من المملكة الاردنية الهاشمية.. متكاملة مع اسرائيل في الأرض والوظيفة.
وهكذا، على سبيل المثال لا الحصر، لم يتمكن أعضاء في المجلس الوطني الفلسطيني الذين اختيروا بناء على جدارتهم وكفاءاتهم ودورهم في خدمة قضيتهم، من المشاركة في أعمال هذا المجلس، وأعيدوا من مطار القدس (الشهيد غسان كنفاني مثلاً).. كانت الضفة في يد "السلطة" شكلاً، و"السلطة" في أيدي الانظمة العربية بعنوان المملكة الاردنية الهاشمية..
***
وفي 5 حزيران/ يونيو 1967، دخلت قوات الاحتلال الاسرائيلي القدس الشرقية مكملة السيطرة على فلسطين، ومعها هضبة الجولان وبحيرة طبريا وتلال شبعا على الحدود اللبنانية ــ السورية.
ستبدأ، حينذاك، مرحلة جديدة من العمل الوطني الفلسطيني باعتماد الكفاح المسلح والعمليات الفدائية داخل الأرض المحتلة أو عبر الحدود. وجاءت معركة "الكرامة" في الاغوار لترفع معنويات الثورة وتقدم الكفاح المسلح على العمل السياسي السلمي.. مُيسِّرة أمام الراحل ياسر عرفات التقدم لوضع اليد على منظمة التحرير، جامعاً من خلال موقعه على رأس سلطتها التنفيذية بين "الرئيس" و"قائد الثورة".
صار "ابو عمار" الكل في واحد: رئيس "الدولة"، رئيس "الحكومة" قائد القوات المسلحة، قائد الـ17 (أي الشرطة)، وزير الخارجية، مدير المخابرات الخ..
وحاول الرجل أن يعوض خسارة فلسطين بعمان وجرش وسائر المناطق المطلة على فلسطين، عبر جنوب لبنان، مع التمدد إلى العاصمة الساحرة بيروت، حيث يمكن أن يطل على الدنيا جميعاً..
وأذكر انني خلال رحلة إلى الصين، بناء على دعوة من اتحاد عموم الصحافيين الصينيين، قد فوجئت بصبية ساحرة الجمال تتلفع بالعلم ذي النجمة السداسية الزرقاء، في نهاية الممر الاجباري إلى قسم الاستعلامات.. ومع نهاية الزيارة جاء رئيس الاتحاد العام لعموم الصحافيين الصينيين، مع لفيف من زملائه، يريدون أن يسمعوا منا الملاحظات السلبية، "اما الايجابية فنحن نعرفها".. امتدحنا كرم الضيافة وحسن التنظيم وشكرنا وحمدنا، فقال الرئيس بوجهه الضخم: السلبيات يا رفيق.. لم نجد مفراً من أن نذكر حكاية العلم الاسرائيلي، يستقبلنا في أول أيام وصولنا إلى البلاد الصديقة العظيمة، الصين، بالحزب الشيوعي العريق وتاريخه النضالي المجيد..
حدق فينا المسؤول الصيني طويلاً قبل أن يقول: هل تعرفون من طلب الينا إعادة العلاقات مع اسرائيل؟ انه السيد عرفات. كان يسعى لتمرير صفقة: تعترف دول عدم الانحياز بإسرائيل مقابل اعتراف اسرائيل بمنظمة التحرير..
كنا مبهوتين لهذه الصراحة الجارحة.. ولقد أيقظنا مضيفنا وهو يعود إلى الكلام قائلاً: وكما تعرفون، يا رفاق، فان اسرائيل متقدمة جداً بمسألة الري بالتنقيط... ثم أن اسرائيل تنتج انواعاً من الرشاشات الصغيرة جداً، ونحن بحاجة اليها.. وطالما أن السيد ياسر عرفات لا مانع لديه من التبادل التجاري مع اسرائيل، فلماذا لا نستورد منها ما نحن بحاجة اليه، خصوصا وان ذلك لا يضر بالقضية المقدسة.. ثم انه قد يفتح الباب أمام حلول غير متوقعة وغير منظورة..
قمنا نجر أذيال الخيبة، وفي الخلف النجمة السداسية تلتمع زهواً بأنها قد احتلت مكان الصدارة في بلد الصديق الاخطر للعرب: الصين.
***
أليس طبيعياً أن تستخدم واشنطن حق النقض (الفيتو) في مجلس الامن الدولي لحماية كرامة رئيسها، وكرامة حليفها الاسرائيلي، وأزلامها من قادة العرب الذين خرجوا من ميدان الصراع حول فلسطين، ولن يعودوا اليه!