نُشر النص الأصلي لهذا الموضوع في موقع "مدى مصر"، وهو منصة إلكترونية تأسست في مصر، ونعيد نشره هنا بالاتفاق مع الموقع. في إطار حملتها المستمرة للتضييق على الصحافة، حجبت السلطات المصرية "مدى مصر"، ضمن مواقع أخرى. والتزمًا منا بمبدأ حرية الصحافة واستقلاليتها، يقوم "السفير العربي" بإعادة نشر نصوص ينتجها "مدى مصر" لمساعدة الموقع في التغلب على إجراءات الحجب والوصول إلى القراء داخل مصر.
أحمد جمال زيادة
«كان معه هاتف لإجراء مكالمات هاتفية مع عائلته من داخل سجن القناطر، وكان الهاتف سببًا في إنهاء حياته بعد خروجه من زنزانة التأديب. صحته كانت جيدة جدًا، ولا توجد لديه أمراض مزمنة، وعندما رأيت جسده بعد موته لم أجد به أي علامات تعذيب»، هكذا قال لنا أحد أقارب عُمر عبد المجيد سعيد الباسل، وشهرته عمرو الباسل، الذي توفي داخل سجن القناطر رجال مطلع الشهر الجاري.
وأُلقي القبض على عمرو الباسل من مرسى مطروح، 36 سنة وحاصل على ثانوية أزهرية، متزوج ولديه ثلاثة أطفال، في يوليو 2016، لاتهامه بخطف مواطن للاستيلاء على سيارته، ولم يحكم عليه في القضية بعد. ووفق ما قاله أقاربه، كُتبْ في تقرير الوفاة الرسمي أنه مات بشكل طبيعي، ولم يتخذ الأهالي أي إجراء قانوني بعد وفاته.
التقينا بمجموعة من أقاربه في قرية ناهيا، إحدى القرى التابعة لمركز كرداسة في محافظة الجيزة، وحاولنا معرفة تفاصيل وفاته. قال أحدهم إن عمر كان محبوسًا في سجن القناطر «رجال 1»، الذي يبعد عن القاهرة نحو 25 كم، وأخبرهم أحد زملائه عن طريق هاتف تمّ تهريبه داخل السجن أنه «في ليلة وفاته قد شهد السجن استغاثات جماعية وصراخ وبكاء وطرق على أبواب الزنازين، لأن الباسل كان قد خرج من زنزانة التأديب التي ظل بها نحو 16 يومًا، وأصيب بعد خروجه بإعياء شديد واصفرار في الوجه، ولكن إدارة السجن لم تستجب لهذه الاستغاثات إلا بعد أن لفظ الباسل آخر أنفاسه».
يحكي أحد أقاربه، الذي رفض ذكر اسمه، أنه تلقى مكالمة من أحد المساجين يخبره بأن عمرو قد مات، ويضيف: «لا أعتقد أنه مات من التعذيب، ولكني أعتقد أن سوء حالته النفسية كانت سببًا في ذلك، فنحن تأخرنا عن زيارته كثيرًا بعد أن شغلتنا متاعب الحياة ومصاريف العائلة، بالإضافة إلى دخوله زنزانة التأديب وعدم خروجه منها نحو 16 يومًا، ولأنه كان دائمًا يشعر بأنه ثقيل علينا، ولكنه لم يكن كذلك».
إقرأ أيضا: التصفية الجسدية في مصر: مخاوف الدم و التزييف
يقول أحد المحتجزين في سجن القناطر، تمكن «مدى مصر» من التواصل معه: «دخل عمرو زنزانة التأديب هو و9 سجناء آخرين، بعد أن عثرت مباحث السجن على هواتف في زنزانتهم. لم نكن نتوقع أن يكون عمرو هو الضحية، فقد كنا نخشى على سجين يدعى مصطفى العراقي عنبة، وهو مريض بالقلب وقد دخل زنزانة التأديب، رغم أنه ممنوع دخول المرضى إلى التأديب، وهو ما جعلنا نعتقد أنه مات وليس عمرو». ويضيف: «لقد قاموا بحلق شعر رؤوسهم قبل دخولهم التأديب، ولم يسمحوا لهم بالدخول بأغطية الشتاء، كما ألبسوهم بدلة التحقيق فقط، وهي بدلة خفيفة جدًا لا تصلح للشتاء، وظلت زنازين التأديب مغلقة عليهم أكثر من 15 يومًا لم يروا الشمس خلالها، ولم يتوضؤوا أو ينظفوا أجسامهم بالمياه لأن إدارة السجن لا تسمح سوى بدخول زجاجة مياه واحدة طوال اليوم لكل سجين ورغيف خبز وقطعة جبن صغيرة، كما أن زنازين التأديب لا يوجد بها دورات مياه، ما يجعلها أشبه ببالوعات الصرف الصحي، والسجناء يقضون حاجتهم في جردل بلاستيك»، بحسب وصف السجين.
موت الباسل في تأديب السجن أو بسببه لم يكن الحالة الأولى في السجون المصرية. في 20 مايو 2016 طلبت إدارة سجن برج العرب الذي يعد أحد أكبر السجون المصرية، حيث يضم سجني ليمان برج العرب، وبرج العرب العمومي، من أسرة السجين بدر شحاتة، إحضار بطاقة الرقم القومي الخاصة به. وفي صباح اليوم التالي أبلغتهم إدارة السجن بوفاته ووجوده بإحدى ثلاجات مشرحة كوم الدكة.
أُلقي القبض على شحاتة، في 14 أغسطس 2013، من محيط مبنى محافظة البحيرة، ووضع داخل سجن الأبعدية، ثم رُحل إلى سجن برج العرب، وحوكم عسكريًا بتهمة الاعتداء على منشآت حكومية وأدين بالسجن لمدة 15 عامًا.
يقول أحمد، أحد أبناء شحاتة، إنه أثناء إحدى الزيارات، علمت الأسرة أن والدهم تمّ الزج به في زنزانة التأديب بعد الاعتداء عليه، وأنه ممنوع عنه الزيارة، لكنه لم يتحمل ما وصفه بالتعذيب، بالإضافة إلى قبح الزنزانة التي لا تصلح للحياة، مما أدى إلى وفاته، مضيفًا أن «التقرير الذي أصدرته وزارة الداخلية يفيد أن والده مات نتيجة هبوط حاد في الدورة الدموية»، وهو ما استنكره أحمد لأن والده لم يكن يعاني من أي مشاكل صحية سابقة، على حد قوله.
في التأديب قد تفعل أشياءً لا تصدق
«إنها زنزانة لا تكفي إلا لفرد واحد، ولكن رئيس المباحث تعمد أن يضع خمسة أفراد في زنزانة واحدة، كانوا لا يستطيعون النوم أبدًا، ومكثوا في الزنزانة أكثر من 15 يومًا، وقد دخلوا التأديب بعد أن اتهمتهم إدارة السجن بالتجارة في مواد مخدرة وهواتف محمولة داخل السجن، أخي دخل التأديب مرتين؛ في المرة الأولى أخبرني أنه يشعر بأنه قد فقد عقله، والمرة الثانية كانت طويلة جدًا، وقرروا الهروب من التأديب ودمروا شباك الزنزانة وحاولوا الفرار، لكن أخي مات غرقًا في ترعة الإسماعيلية بعد أن تخطى سور السجن في سبتمبر 2014». هذه شهادة شقيق «م أ ع»، 29 عامًا، وكان محكومًا عليه بالسجن خمس سنوات لاتهامه في قضية سرقة بالإكراه، وكان يقضي عقوبته في سجن أبو زعبل «ليمان 2».
اقرأ أيضاً: صيف "التصفية الجسدية" في مصر.. هل القادم أخطر؟
ويقول شقيق السجين المتوفي، الذي طلب عدم ذكر اسمه: «لم يخبرني أخي أنه سيحاول الهروب، ولكني شعرت أنه فقد عقله بعد دخوله التأديب في المرة الأولى، لذا كان من المتوقع أن يفعل أي شيء للخروج من التأديب».
وكان المجلس القومي لحقوق الإنسان قد اعترف في بيان رسمي، في مارس 2015، على لسان محمد فائق رئيس المجلس بأن «الظروف المعيشية داخل غرف التأديب غير ملائمة طبقًا للمعايير الدنيا في أماكن الاحتجاز». وكانت هذه المرة الأولى والأخيرة التي تطرق «القومي لحقوق الإنسان» لزنازين التأديب في تقاريره التي صدرت منذ عام 2013.
مرض الجرب والعيش مع الفئران
في سبتمبر 2015، اشتكى أحد المتهمين فيما يعرف بـ«خلية إمبابة» من إصابته بأمراض جلدية وحساسية وصفها بـ «الجرب» داخل زنزانة التأديب بسجن العقرب، وأنها تجعل جسده ينزف دمًا، وذلك بسبب عدم دخول الشمس للزنزانة وعدم وجود نظافة فيها، وطلب من المحكمة التي كان يرأسها المستشار محمد ناجي شحاتة، رؤية جسده للتأكد من صحة كلامه، ولكن شحاته سأله عن لجنة حقوق الإنسان التي ذهبت إلى سجن العقرب، وقالت لا يوجد بالسجن تجاوزات، وأن الوجبات المقدمة إلى جميع السجناء جيدة، فرد عليه السجين قائلًا: «أقسم بالله لم يأت أحد».
يتذكر «ع ع م»، طالب بكلية هندسة بجامعة الأزهر، وكان متهمًا في أعمال شغب بالجامعة، حيث قبض عليه في ديسمبر 2013 وأفرج عنه في مارس 2017 بعفو رئاسي، كيف كان يقضي أوقاته في زنزانة التأديب مع الفئران والصراصير وكيف اعتاد عليها، قائلًا: «كان وجودها أفضل مائة مرة من وجود ثلاثة أشخاص معك في نفس الزنزانة وفي فصل الصيف دون استحمام، وهي زنزانة متر في متر تقريبًا». داخل طالب الهندسة زنزانة التأديب ثلاث مرات، الأولى بعد أن حاول أحد أقاربه تهريب هاتف له داخل السجن، والثانية لعثور إدارة السجن على هاتف بحوزته، والثالثة كانت لوقوع اشتباكات بين قوات أمن السجن وبعض المساجين في سجن أبو زعبل، ودخل بعدها عدد كبير من السجناء زنازنين التأديب.
مطالبات حقوقية بإغلاق زنازين التأديب
«التأديب» هو الاسم الدارج الذي يطلقه السجناء على ما نصت عليه لائحة السجون بالحبس في «غرفة خاصة شديدة الحراسة تتوافر فيها الشروط الصحية» للتفرقة بينه وبين «الحبس الانفرادي» العادي الذي قد يطلبه السجين بأمواله كما يوضح عزت غنيم، المحامي الحقوقي ومدير «التنسيقية المصرية للحقوق والحريات».
يقول غنيم لـ «مدى مصر» إن «أعداد الوفيات داخل زنازين التأديب ليست كثيرة، ولكن ظروف الزنزانة غير مؤهلة للمعيشة، وأن هناك فرق بينها وبين الحبس الانفرادي، فالأخير غرفة خاصة قد يطلبها السجين بأمواله، أو يحبس بها لأسباب سياسية أو مرضية، أما زنزانة التأديب فمساحتها أضيق بشكل كبير جدًا من الزنزانة العادية، وليس بها أي منافذ تهوية تطل على الخارج، وتتسع لفرد واحد، ولا يوجد بها دورة مياه».
ويضيف غنيم: «تعديل قانون تنظيم السجون الأخير، أتاح لمأمور السجن أن يدخل من يشاء التأديب بأي صورة، وأن المدة القانونية السابقة للاحتجاز في زنزانة التأديب كانت لا تزيد عن 15 يومًا بعد الكشف على السجين والتأكد من سلامته صحيًا، وفي التعديل الأخير وصلت المدة المتاحة للحبس داخل التأديب 6 أشهر».
وأكد غنيم على أن «التنسيقية المصرية قد قدمت طعنًا على اللائحة الجديدة في مجلس الدولة على المواد المتعلقة بزنزانة التأديب لإلغائها، وبالتي إلغاء زنازين التأديب نهائيًا نظرًا لظروفها غير الآدمية»، مشيرًا إلى أنه «من المنتظر أن تكون جلسة النظر في الطعن 4 ديسمبر المقبل».
اقرأ أيضاً: هنا نفعل أشياء لا تصدّق
في فبراير الماضي، نشرت الجريدة الرسمية قرار وزير الداخلية رقم 344 لسنة 2017، بتعديل بعض مواد اللائحة الداخلية للسجون، وضمت التعديلات استبدال أربعة مواد من اللائحة، تتعلق بالحد الأقصى لحجز المحكوم عليهم في الغرف شديدة الحراسة، بالإضافة لتغيير المادة الخاصة بالحبس الانفرادي (التأديب) وتعميمها على كافة السجون بعد أن كان قاصرًا على الليمانات، وزيادة مدتها من 15 يومًا إلى 6 أشهر. ونصت المادة 82 على أن «يوقع على المحكوم عليه جزاء الوضع بغرفة خاصة شديدة الحراسة تتوافر فيها الشروط الصحية لمدة لا تزيد على ستة أشهر بقرار من مساعد الوزير لقطاع مصلحة السجون، بناءً على طلب مأمور السجن، وبعد أخذ رأي طبيب السجن، وتحرير أقوال المسجون وتحقيق دفاعه وشهادة الشهود».
وجاء في التعديل أن الحالات التي يجوز فيها فرض عقوبة التأديب هي: «إحراز أشياء يحتمل حصول أذى منها للغير أو لأمن السجن، سرقة مفاتيح السجن أو تقليدها، الهروب أو الشروع فيه، التعدي على أحد الموظفين الذين يدخلون السجن لأداء عمل يتعلق بوظيفتهم أو على أحد الزائرين، إتلاف سجلات السجن أو أوراق المسجونين عمدًا أو إحداث تغيير فيها، إتلاف شيء من محتويات السجن عمدًا، إشعال النار داخل غرف السجن، إحداث حريق عمدًا بالسجن أو مرافقه، ضرب مسجون إذا أحدث الضرب إصابة تحتاج إلى علاج، ارتكاب أي أفعال من شأنها الإخلال بأمن السجن».
حاول «مدى مصر» الاتصال بمساعد وزير الداخلية لمصلحة السجون للتعليق على شهادات السجناء حول أوضاع زنازين التأديب، ولم ننجح في الوصول إليه.