عن موقع حبر
سلمى جمال
لا أذكر كم كان عمري عندما سمعت من والدتي قصّة بنات عمّها وفجيعة فقدان شقيقهن الوحيد، ولا أذكر حتى الكثير من تفاصيلها، لكنني أذكر أنها كررتها أمامنا أكثر من مرّة، وأن القصة لازمتني في مراحل مختلفة من مراهقتي وسنين شبابي الأولى.
كنّ خمس أخوات وأخ. كانت إحداهن، ولنسمّها سلوى، عائدة من السوق سيرًا على الأقدام عندما تحرّش فيها شاب، فردّت عليه و«بهدلته» (ولنا أن نتخيّل ردود الفعل المحتملة من المتحرّش، والتي لا تتضمن بالتأكيد الخجل والسكوت أو الاعتذار). دخلت سلوى المنزل غاضبة ومحتدّة، وأخبرت شقيقها بما حدث، فما كان من الأخير سوى أن خرج ليعثر على ذلك المتحرّش في السوق ويلقّنه درسًا، لتنتهي القصة بطعن المتحرش لشقيق سلوى بسكّين وقتله.
رافقت الفجيعة والأسى الأخوات طيلة حياتهن، كيف لا وهنّ «السبب» في مقتل شقيقهن؟
لست في صدد تفكيك الطبقات المركّبة من المآسي التي تحملها تلك القصة والمسلّمات التي بُنيت عليها، لكن العبرة المرادة من سردها على مسمعي أنا وشقيقتي كانت «اعملي حالك مش سامعة» عندما تتعرّضين لأي تحرّش.
وهذا بلا شك ما فعلته لسنوات طويلة، عملت حالي مش سامعة أو شايفة أو حاسّة.
***
كنت في الرابعة عشر من عمري عندما فاز الأردن بذهبية كرة القدم في الدورة الرياضية العربية في تمّوز ١٩٩٧. شاهدنا المباراة أنا وشقيقتي في المنزل، وعندما انتهت، جاء خالي ليأخذنا في جولة بالسيارة للمشاركة في الاحتفالات التي عمّت الشوارع.
جلسنا على حواف شبابيك السيارة نهتف بينما خالي يقود في شوارع مزدحمة بالموسيقى والزوامير الاحتفالية. بين الحين والآخر كانت مجموعات من الشباب توقف السيارات المارّة وتنطلق في دبكة في منتصف الشارع. كنت مستمتعة بشعور غريب بالحرية يثيره الإحساس بالهواء على وجهي وشعري في فرصة نادرة لمشاركة آلاف الأشخاص مساحة عامة وفرحًا جماعيًا. لكن تلك النشوة لم تستمر طويلًا، إذ انتشلتني منها يدٌ امتدت من بين الأجساد المتدافعة حول السيارة وقرصتني في خاصرتي.
التقت عيني بعين شقيقتي ولم نحتجْ لكلمات حتى نفهم أن الأمر حدث مع كلتينا، لكننا قررنا «نطنّش وما نجيب سيرة».
عندما عدنا إلى المنزل، سأل والدي: «كيف كان الوضع؟ مش كتير سرسرية؟»، فرد خالي: «والله يا أبو سلمى شكله فعلًا الرياضة بتهذّب النفوس، احتفالات ولا أرقى من هيك». وكان الله بالسر عليمًا.
***
في سنتي الجامعية الأولى في الجامعة الأردنية، سمعت -وزميلاتي- الكثير من التحذيرات حول أحد الدكاترة، أنّه «نسونجي»، ويخترع أي ذريعة ليدعو الطالبات إلى مكتبه. في إحدى محاضراته، كنت جالسة إلى جانب صديقتي في الصف الخلفي من مدرّج الهندسة عندما همست إحدانا للأخرى بشيء ما، ليصرخَ الدكتور فجأة: «برّا! إنتِ وإياها برّا، وما ترجعوا تدخلوا المحاضرة من هون لآخر الفصل».
«بس دكتور…»
«برّا!»
خرجنا وانتظرناه على باب القاعة حتى نهاية المحاضرة لنعتذر منه، لكنّه رفض أن يستمع إلينا وقال: «تعالولي عالمكتب».
هذه هي اللعبة إذن. دارت مباحثات كثيرة بيننا وبعض أصدقائنا الشباب حول أنسب طريقة للتعامل مع الموضوع. اقترح أحدهم أن يأتي معنا إلى مكتب الدكتور، لكننا وجدنا أن هذا قد يستفزّه ويعرّض ثلاثتنا للرسوب. لا مفر إذًا، سنذهب أنا وهي ونعتذر عمّا بدرَ منّا. لا يمكنه التمادي طالما نحن اثنتين معًا.
عندما دخلنا مكتبه، تغيّرت ملامحه فجأة، وانفرج وجهه عن ابتسامة لزجة أشعر بالغثيان لمجرّد تذكّرها. تبدّدت العصبية التي واجهَنا بها في المحاضرة، وحل محلّها لطف زائد وعبارات من قبيل «هيك زعّلتوني منكم؟»، «خلص بسيطة سامحتكم»، «أي شي بدكم اياه تعالوا عندي عالمكتب».
كان صديقنا في نهاية الممر ينتظر خروجنا، وبالفعل، لم يستغرق الموضوع سوى دقائق قليلة، لكنّها بدت دهرًا في مكتبه. لم يحصل شيء، حسب تعريف الشيء الذي يمكن أن يحصل، لكنني خرجت وأنا أقاوم رغبة عنيفة بالبكاء.
هل كان يمكن أن أتصرّف بشكل مختلف؟ ماذا لو رفضت الذهاب إلى مكتبه؟ هل كان سيرسّبني في المادّة؟ وماذا لو رسبت؟ المشكلة أنْ لا أحد غيره يدرّس تلك المادّة. طيب؟ هل كنت سأتأخر في التخرج لتمسّكي بمبدأ ما؟ هل يستحق الموضوع هذا التعقيد؟
عندما سردت القصة على أحد أصدقائي أمس في سياق حديثنا عن حملة «وأنا كمان» التي اجتاحت مواقع التواصل الاجتماعي، قلت له أنني أتمنى لو أن بإمكاني كتابة اسم هذا الدكتور علنًا في هذا المقال، فقال لي أن هذا يُعدّ تشهيرًا. «إذا ارتكب أحدهم سرقة، هل يعتبر تشهيرًا أن أقول عنه حرامي؟» تساءلت.
صحيح، قال لي، ولكنك لا تستطيعين إثبات أي شيء ضد هذا الدكتور، ومجرد قوله «تعالي على المكتب» لا يعني شيئًا، في نهاية المطاف، «ما صار شي»، أليس كذلك؟
بلى، «صار شي». هنالك رجال يُشعِرون النساء بعدم الراحة، بنظراتهم، بابتساماتهم المريبة، بطريقة ممارستهم لسلطة ما، وتلك النشوة التي تعتلي وجوههم وهم يحشرونكِ كفأر في زاوية. كل امرأة مرّت بهذا الموقف تعلم تمامًا أنه ليس «ولا إشي».
***
قصة أخيرة، ليس لأنني لم أمر بغير هذه التجارب من التحرّش، لكن لأنها أوّل قصة تبادرت إلى ذهني عندما فكّرت أن أكتب على فيسبوك: «وأنا كمان».
ركنت سيّارتي على زاوية الشارع، على بعد أمتار قليلة من المركز الذي كنت أقصده لحضور ندوة. خطتي أن أعرّج على المنزل قبل الذهاب إلى الندوة، لأستبدل التنّورة التي كنت أرتديها ببنطال واسع، باءت بالفشل لضيق الوقت. كانت تنّورتي طويلة -نسبيًا- تنتهي قبل الكاحل بسنتيمترات قليلة. مهلًا، لماذا أصف ما كنت أرتديه بنبرة اعتذارية؟ لماذا أرى أن ملابسي كان لها علاقة بما حدث بعد ذلك؟
لم يكن في الشارع أحدٌ سوى رجل مسن جالس على مقعد أمام باب بيته. ما إن مشيت خطوات قليلة، حتى شعرت بصفعة مفاجئة على مؤخرتي، استدرت، لأرى ورائي طفلًا لا يتجاوز السابعة من عمره يحمل بيده فردة حذاء.
اقرأ أيضاً: من ملامح أزماتنا الجنسية
انعقد لساني ووقفت مذهولة لأجزاء من الثانية كانت كافية ليركض الطفل بسرعة في الاتجاه المعاكس. نهَره الرجل المسن بضجرٍ دون أن يحرّك أكثر من شفتيه: «عيب يا ولد».
استدرت وأسرعت الخطى باتجاه المركز، تتصارعني مشاعر متناقضة من الغضب العارم من جهة، ولوم الذات من جهة أخرى. لماذا لم أمسك بياقته وألكمه وألقنه درسًا لن ينساه؟ لكن هل هو حقا المُلام؟ إنه طفل في السابعة. وإن كان، إذا كان في السابعة يضرب امرأة في الشارع، ماذا سيفعل في السابعة عشر؟ لكن لماذا لم أذهب إلى المنزل لأغيّر ملابسي؟ ألم أكن أعلم أنني سآتي إلى حي «شعبي»؟ هل أنا مستشرقة ساذجة لا أحترم مجتمعي؟ لكن أي احترام هذا لمجتمع يستبيح المرأة لمجرّد أنها أنثى؟ هل يُعقل أن أصل لهذه الدرجة من التطبيع مع انتهاك كرامتي كامرأة وحقّي بالوجود في مساحة، عامّة كانت أو خاصّة، دون أن أشعر بتلك السلطة التي يفرضها الذكور على جسدي؟
***
احتاج العالم لفضيحة منتج هوليوود الشهير هارفي وينستين، الذي يواجه تهمًا عدّة بالتحرش والاعتداء الجنسي بعد أن نشرت صحيفة نيويورك تايمز تحقيقًا مطولًا عنه، حتى تنطلق حملة تضامن نسوية عالمية عابرة للحدود تشارك فيها النساء قصصهن وتجاربهن الشخصية مع التحرّش.
الحملة التي بدأت بدعوة بسيطة لكل امرأة تعرّضت لنوع من التحرّش الجنسي أن تستخدم وسم #MeToo، انتشرت بلغات عدّة منها العربية تحت وسم #وأنا_كمان و#وأنا_أيضًا. لكن، كما قالت الكاتبة جيسيكا فالينتي في مقال لها على صحيفة الغارديان، خطوة مهمة أن يتقدّم ضحايا التحرش ويكسروا حاجز الخوف من المشاركة، لكن ما يزال علينا الكشف عن المتحرّشين.
من ناحيتي، في الآونة الأخيرة، اتخذت قرارًا بالتوقف عن تطنيش المعاكسات والتحرش الذي أتعرّض له في الشارع، وصرت أهدد باللجوء إلى الشرطة، وأخبر المتحرش أن قانون العقوبات الأردني يتضمن مادّة تودي به إلى السجن بسبب التحرش اللفظي. لكنني لم أنفذ تهديدي لغاية الآن، ولا أعلم إن كنت سأنفذه. إذا لم يكن لدي الجرأة لأشارك قصة الطفل ذي السابعة على فيسبوك، ولا الجرأة لكتابة هذا المقال باسمي الحقيقي، هل حقًا سأجرؤ على وضع نفسي وكلماتي تحت المجهر في سبيل تلقين متحرّش درسًا وأحتم؟
مشكلة التحرش، كغيرها من مشاكل عدم المساواة وانتهاك الحريات والحقوق في العالم، ليست مشكلة فرديّة يمكن مواجهتها بقليلٍ من «التمكين» والثقة بالنفس، ولا هي حكرٌ على مجتمع بعينه، بل هي مشكلة مرتبطة ارتباطًا عضويًا ببنية الدولة الأبوية والمجتمع الذكوري. لكن مع ذلك، فإن مجموع معاركنا الشخصية كأفراد لا ينفصل عن حربنا ضد هذه المنظومة، ولا يمكن أن نقلل من أهمية محاولة استغلال كل الوسائل الممكنة لاستعادة المساحات الآمنة التي تمكننا من مواصلة النضال ضد بنية السلطة وعلاقات القوى التي تنتجها في المجتمع.
النص الأصلي على موقع حبر