عن موقع حبر
هذا المقال هو الأول ضمن سلسلة من المواد التي تتناول موضوع العلمانية والدين، والتي ستنشرها حبر كل يوم إثنين على مدار شهر ونصف.
أسامة غاوجي
«العنف ينتج عن الغضب (…) حين يُنتقص إحساسنا بالعدالة» حنّة أرندت.
إن الدين هو المسبّب الأبرز للعنف عبر التاريخ، كيف لا، والأديان تزوّد معتقديها بحقائق مطلقة تقنعهم بأن الله في صفّهم، وتُصوّر لهم الآخرين كشياطين وكفار موعودين بالنار والجحيم، فيما تعِدُ أتباعها بجنة أبدية يصبحُ الموت في سبيلها رخيصًا ومطلوبًا. وصحيحٌ أن الدول القومية العلمانية الحديثة تُمارس العنف، إلا أن هذا العنف مشروعٌ ومختلف عن نظيره الديني، فهو عنفٌ عقلانيّ ومضبوط وموجّه لغايات دنيويّة، وهو عنفٌ ضروري يُمارسه فاعلوه وهم آسفون لاضطرارهم إليه، في حين أن العنف الديني لا عقلانيّ متعصّب قادرٌ على الإبادة وغاياته النهائية أخرويّة لا تقيّدها المصالح ولا تقبل بالمساومات بل تسعى لمحو الآخر من الوجود.
تُمثّل الفقرة السابقة خلاصة «أسطورة العنف الديني» كما يدعوها وليام كافانو، وهي أسطورة لا نعثر عليها في الكتب والمؤتمرات العلميّة ومقولات المستشرقين القدامى والجدد وحسب، بل نجدها تتردّد في الإذاعات والمحطات التلفزيونية وتتمشّى أحيانا في الشوارع وعلى ألسنة من نقابلهم. وإذا كانت الدلالة الأولى التي تتبادر إلى الذهن حين نستعمل مفردة «أسطورة» هي دلالة الزيف والبطلان، فإن الأسطورة تشمل دلالات أوسع من ذلك، فهي سرديّة تفسيرية تبسيطيّة تسند نفسها بمجموعة من الحقائق والشواهد التاريخية والتصوّرات النمطيّة عن الواقع، وتسمح لنفسها بدرجة من المرونة التي تجعلها تنثني أمام الشواهد والحجج التي تخالفها دون أن تنكسر. على أنّ الأسطورة، وكلّ خطاب، لا يستمدّ شيوعه وقوّته من عناصره الذاتيّة فحسب، بل من دوره في لعبة السلطة، التي لا تقوم دون خطاب يسندها، كما لا يقوم الخطاب دون سلطة يُضمرها كما يُعلّمنا فوكو.
اقرأ أيضاً: الاسلام السياسيّ العربيّ.. مربّعات العنف وثنائيّة الاختزال
ولدت أسطورة العنف الديني في الفضاء الأوروبي مع نهاية حقبة «الحروب الدينيّة» (وهو مصطلح مُضلّل كما سيتبيّن)، بحيث بدا لجمهرة من الفلاسفة والمفكّرين والسياسيين بأنّ المخرج الوحيد من أتون هذه الحروب هو التمسّك بالتسامح الليبرالي وحصر الولاءات الدينيّة في الحيّز الشخصي، بحيث يكون المجال العمومي حرًّا من الالتزامات الدينيّة ومُحتكرًا للفاعلين السياسيين في أفق دولة القوميّة، التي كانت في طور نشأتها وولادتها. على أنّ حضور أسطورة العنف الديني آخذٌ في الرّواج في العالم العربي بصورةٍ أكثر تشويهًا واختزالًا وتسييسًا. بحيث تحوّلت هذه الأسطورة إلى أساس تنهض عليه شرعيّة الأنظمة الاستبداديّة التي حرصت على خلق ثنائيّة «الاستبداد أو الإرهاب»، بعد أن أجهضت مسارات التحوّل الديمقراطي الوليدة، لتُقنع الغربيين، ثم شعوبها، بأن المنجى الوحيد من فوضى العنف الديني هو الاستعصام بحبل السلطويّة.
تعتاش السلطات العربية على زيادة الاستقطاب الهويّاتي «الإسلامي/ العلماني».
وإذا كان فعل الفكر يقتضي محاولة التفهّم العميق للظواهر وبواعثها واستكشاف أسباب ظهورها، فإن أسطورة العنف الديني قد وفّرت مقولات أيديولوجية سهلة لتفسير الواقع العربي، بل ولتشكيله بما يوافق هوى السلطان، وظهرت على إثر ذلك مجموعة من المشاريع التي تعمل على «إدارة الاعتقاد» لتطهير التراث الديني من مقولات الكراهية والتعصّب، في جهل أو تجاهل للطبيعة السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة لظواهر «العنف الديني»، وفي تعامٍ متعمّد عن البحث في الأسباب الموضوعيّة لولادتها. وقد ساهم ذلك كلّه، أوّلا، في زيادة الاستقطاب الهويّاتي «الإسلامي/ العلماني» والذي تعتاش السلطات العربية عليه بحيث تُصبح دومًا «بيضة القبّان» (المنطقة الوسطى من الميزان ذو الكفّتين)، فإن علت كفّة وتصاعد صوتها قمعتها بإسناد من الأخرى أو بسكوت منها. أما ثانيًا، فقد أفقدتنا هذه الخطابات المُسيّسة الجاهزة والاستشراقيّة، في تصوّرها عن ذواتنا، الفرصة الثمينة لاستكشاف الحدث العربي وفهمه والاستماع لصوته. فإذا كانت وظيفة الفيلسوف كما يقول آلان باديو هي الوفاء للحدث الخلّاق، فإن وظيفة مثقّف السلطة هي قتله في مهده.
كلّ ذلك يُضفي أهميّة راهنة لنقد «أسطورة العنف الديني» وإبراز هشاشتها العلميّة وطبيعتها الأيديولوجيّة، وهو ما سنباشره في هذه المادّة اعتمادًا على كتابي «وليام كافانو، أسطورة العنف الديني» و«كارين آرمسترونغ، حقول الدم: الدين وتاريخ العنف»، واللذين يشكّلان معًا مادة يتكامل بها النقد النظري مع النقد التاريخي؛ وهي مزاوجة ضروريّة، فالأسطورة لا تنهار بسهولة كما يُذكّرنا كافانو، بل لا بد من إعمال معاول النقد جمعاء في جسدها، وقد لا يكفي ذلك كله دون إعادة ترتيب بيت السلطة الذي يُغذّي الأسطورة ويمنحها سبب وجودها.
سيتناول النقد مجموعة من الأسس التي تقوم عليها هذه الأسطورة، بدءًا من نقد إمكانيّة التمييز النظري بين «الديني» و«العلماني»، ثمّ تفنيد الأسس التاريخية التي تمنح لهذه الأسطورة مشروعيّتها، ثم تبيين الطابع الأيديولوجي لأسطورة العنف الديني ووظيفتها السياسية.
الغرب «يخترع» الأديان
تقوم أسطورة العنف الديني على إمكانيّة التمييز نظريا بين ظواهر دينيّة وأخرى علمانية، فالصلاة شأن ديني بامتياز، أما الذهاب لحضور مباراة كرة قدم فهذا شأن علماني/ دُنيوي لا علاقة له بالدين، على أن تعريف الدين وتحديد نطاقه مسألة شديدة التعقيد، وكما يُخبرنا طلال أسد، فإنّ تحديد ما هو الديني لا ينفصل عن تحديد ما هو العلماني، فهما أشبه بتوأم سياميّ وُلدا كمفهومين يُمثّل كل واحد منهما شرطًا لولادة الآخر.
لم تكن العبادات منفصلة عن الشؤون المعاشيّة والسياسية، بل تعبيرًا رمزيًا عنها، وكان الدين متغلغلًا في كافّة الأنشطة الدنيويّة، اجتماعيا وسياسيا.
في حقل الدراسات الدينية، يمكن أن نلحظ ثلاث سمات يوصف بها «الدين Religion»، وهي أولًا أنه شأن شخصيّ ينبع من باعث داخلي (ومن ثم فإنه شأن غير عقلاني وغير طبيعي). ثانيًا، أنه منفصل عن بقية جوانب الحياة الإنسانية على المستوى المفهومي على الأقل إن لم يكن الواقعي. وثالثًا، أنه مقولة كليّة لجنس عام عابرٍ للثقافة والتاريخ، أي أن الأديان الكبرى (المسيحيّة، الإسلام، البوذيّة، الهندوسيّة، إلخ) هي أنواع لهذا الجنس العام «الدّين»، ويمكن أن تُدرس جميعها تحت بند «الدين». على أنّ هذه السمات الثلاثة، كما ترى آرمسترونغ وكافانو لا تنطبق على أيّ من الأديان التاريخية، فالأديان الزراعية في حضارات ما بين النهرين، على سبيل المثال، كانت تُنصّب إلهًا راعيا لكل مدينة، وكان يتبع لمعبد المدينة مجموعة من الأراضي الزراعيّة، كما كانت الحبوب تُخزن في المعابد، ولم تكن العبادات والطقوس منفصلة عن الشؤون المعاشيّة والسياسية، بل تعبيرًا رمزيًا عنها، كما أننا لا نعثر في ما وصلَنا من وثائق على أية أدلة على وجود أشكال فرديّة من العبادات في تلك الحضارات، فالدين كان متغلغلًا في كافّة الأنشطة الدنيويّة وكان نشاطا اجتماعيًا وسياسيًا بامتياز. الأمر نفسه ينطبق على مفهوم الدارما الهندوسي (والذي تمّ اعتباره مرادفًا لمصطلح Religion الحديث)، فقد كان مفهوم الدارما يتضمّن مفاهيم الحفاظ على حق المُلكيّة، والقانون العمومي، والالتزام بنظام الطبقات (الفارنا)، جنبا إلى جنب مع أداء الطقوس في المعابد. بل إنّ (religio) اللاتينية (التي اشتُقت منها مقولة religion الإنجليزية الحديثة) كانت تعني الالتزام الجدّي تجاه أمرٍ ما وأداء واجباته، وكانت تشمل في دلالتها أداء الطقوس في المعابد للآلهة الرومانية كما كانت تشمل عدم الحنث باليمين والالتزام بالعهود المدنية وواجبات العائلة (وهي مسائل تُعتبر علمانيّة في تصوّرنا الحديث عن الدين)، بل إن شيشرون للمفارقة كان كاهنًا في مجلس كهنة الجمهورية رُغم أنه يُنكر الآلهة ويرى بأنها نبعت من أصول سيكولوجيّة وطبيعية، أي إنه كان متديّنا دون أن يُؤمن بالآلهة. ينطبق ذلك، بشيء من التفصيل، على المسيحية وعلى مفهوم «الدين» في الإسلام، ولمن يرغب في الاستزادة أن يعود إلى الكتابين.
اقرأ أيضاً: هل فهمنا داعش.. عن قتل الأب والبحث عن "الشهادة"
بناء على ذلك، انتبه ويلفريد كانتويل سميث في عمله الفارق «معنى الدين وغايته» إلى أن «الدين كمقولة متمايزة لنشاط إنساني منفصل ومستقل عن الثقافة والسياسة وبقية مناحي الحياة الإنسانيّة هو اختراع غربيّ حداثي». ولا ينطبق مفهوم الدين بالسمات آنفة الذكر إلّا على البروتستانتيّة التي تمثّل نتاجا حديثًا هي الأخرى. ولهذا يجد سميث نفسه مضطرًا للاستنتاج بأنّه، خارج نطاق الغرب الحديث، «لا يوجد أي مفهوم مهم يكافئ ما نعنيه حين نفكّر اليوم بالدين». وقد اقترح سميث الاستغناء عن مصطلح الدين (religion) برمّته بسبب التشويش المفهومي الذي يلفّه.
والسؤال الذي تطرحه آرمسترونغ هنا هو: حين نقول بأنّ الدين هو المسبب الأكبر للعنف عبر التاريخ، فبأيّ شيء نقارنه هنا؟ هل نستطيع أن نقارن بين الدين والسياسة أو الاقتصاد؟ وكيف نفعل ذلك إذا لم يكن الدين منفصلا عنهما لا على المستوى المفهومي ولا على مستوى المؤسسات؟
على أنّ كافانو يتقدّم في تتبّع سيرورة «اختراع الدين»، ويقرن هذه السيرورة بظهور الدولة القومية، فعملية ظهور «الدين Religion» والتمييز بينه وبين المجال العلماني كانت تتضمّن مجموعة أخرى من التمييزات بين الحيّز الخاص والعام، وبين الكنيسة والدولة، وبين الدين والسياسية. ويُقدم كافانو مرافعة متقنة ليخلص إلى القول بأن ابتكار الدين وتعريفه كشأن شخصي كان ضروريًا لحصر الولاء العمومي للدولة القوميّة الناشئة، كما أن اعتبار الأديان المختلفة أنواعًا لجنس واحد كانت أداة استعماريّة ضرورية لتقديم الحكم الاستعماري على أنّه حكم عقلاني وطبيعي في مقابل أنظمة الحكم المحلية التي لم تتعلّم حكمة التمييز بين الدين والسياسة. ولنأخذ الهندوسيّة مثالا على عملية تعميم مقولة الدين في البلدان المستعمرة[1].
كانت السياسة الاستعماريّة للإنجليز في الهند قد خلقت نخبا ومؤسسات دينية هرميّة لسهولة ضبطها وضبط أتباع الأديان من خلالها.
لم يكن ثمّة دين يُطلق عليه «الهندوسيّة»، حتى عام 1829، فمصطلح «هندوسي» لم يكن معروفًا في الهند الكلاسيكية. وهو في أصله مصطلح فارسي استعمل للإشارة إلى الشعوب التي تقطن الجانب الآخر من نهر السند. واستعمل المسلمون هذا المصطلح للإشارة إلى جميع السكان الأصليين غير المسلمين في الهند، بما فيهم، من بتنا نقسّمهم اليوم إلى هندوس وجاينيين وبوذيين وسيخ وإرواحيين. فالهندوسية كانت مزيجًا معقدًا يشمل مجموعة مختلفة من الآلهة والأساطير والطقوس التي لا يشترك جميع «الهندوس» في الإيمان بها: أن تكون هندوسيًا يعني أن تكون هنديّا منتميًا إلى هذا المركّب الثقافي الاجتماعي الديني. في عام 1941، قام البريطانيون بعمل تعداد سكاني لإحصاء عدد الهندوس، لأنهم –على الرغم من إمكانيّة تمييزهم بسهولة عن المسلمين والمسيحيين– كان يصعب تمييزهم عن الإرواحيين. وقد أدّت هذه العملية إلى وعي أتباع الأديان بأنفسهم وبحجمهم وإلى الشعور بالتنافس فيما بينهم. كما إنّ السياسة الاستعماريّة للإنجليز في الهند قد عملت على خلق نخب ومؤسسات دينية هرميّة لسهولة ضبطها وضبط أتباع الأديان من خلالها، وعمدت إلى بناء تحالفاتها على أساس ديني، مع السيخ تارةً ومع الهندوس تارة ومع المسلمين تارة، وهكذا باتت الأديان المختلفة تتنافس لكسب حظوة المستعمر. لا يُمكن إذًا فصل سيرورة تعميم «الدين» وابتكار قائمة بأديان العالم عن سيرورة الاستعمار. ولعلّ تصنيف البوذية والكونفوشيّة كأديان يُظهر حجم المفارقة في أنظمة اجتماعية وطقوسيّة لا تؤمن بأيّ نوع من الآلهة المفارقة.
اقرأ أيضاً: عن فهم "داعش" والراديكالية
إذا كان «الدين religion» ابتكارًا حديثًا، بالمعاني الثلاثة التي ذكرناها سابقا أي بكونه شأنًا شخصيًا منفصلًا عن بقية الشؤون الحياتية وباعتباره مقولة كليّة تندرج تحتها قائمة «أديان العالم»، فإن كل الحديث عن ميل خاص للدين نحو العنف في التاريخ سيغدو بمثابة مفارقة تاريخية، أي إعادة قراءة للتاريخ بأثر رجعي، وإسقاط مفاهيم اليوم على الحالات السابقة التي لم تكن تتبنّى أو تتحرك وفق هذه المفاهيم. ولكن، حتّى لو قبلنا، لأغراض المماحكة والجدل، بوجود طريقة ما لتمييز ما هو ديني عمّا هو دنيوي/ علماني في التاريخ، فإن كارين آرمسترونغ تتفحّص في مجموعة من الفصول حالات العنف الديني التاريخية المختلفة (الحروب الصليبية، محاكم التفتيش، الحروب الدينية، الإرهاب الحديث.. إلخ) وتُبرِز طبيعة العوامل المركّبة (السياسية والاجتماعية والاقتصادية) الكامنة خلفها. وأبرز هذه الحالات هي «الحروب الدينية الأوروبية» التي مثّلت الأساس التاريخي للخطاب حول «العنف الديني». وللمفارقة فإنّ النصف الأخير من هذه الحروب كانت صراعا بين الهابسبورغ الكاثوليك والبوربون الكاثوليك أيضا، وقد تحالف الفرنسيون الكاثوليك في بدايات تلك الحروب مع السويد اللوثريّة، وهناك العديد من الشواهد التي يمكن تتبّعها في كتابها، مما يجعل وصف هذه الحروب بأنها «دينيّة» وصفًا مضطربًا وهشًّا.
هجرة المقدّس: من الدين إلى الدولة
إن المشكلة في القول بأن الدين يمتلك نزوعا خاصا نحو ممارسة العنف هي هشاشة تعريف الدين وعدم القدرة على تحديد نطاقه، فإذا أردنا اعتماد أحد المقاربات لتعريف الدين، فقلنا مع الجوهرانيين بأن الدين يتضمّن مقولات مثل الإيمان بكائن متعالٍ ومفارق والإيمان بشكل من الآخرة ووجود عقيدة أرثوذكسيّة ونبيّ مؤسّس، فإن العديد من «الأديان» تفتقر إلى هذه العناصر كالبوذية والكونفوشيّة، وإذا اعتمدنا مقاربة سيسيولوجيّة وظيفية (تُعرّف الدين بحكم وظيفته) أي بوصفه «نظاما موحّدا من الاعتقادات والممارسات المرتبطة بالأشياء المقدسة، أي الأشياء المتمايزة عن غيرها والمحاطة بالحرمة» كما يقول دوركهايم، فإنّنا سنجد بأن بعض الظواهر العلمانية الحديثة تمتلك هذه السمات التي تُعزى للدين وتؤدّي ذات الوظيفة التي يقوم بها الدين.
فقد وصف توكفيل ما حصل في أعقاب الثورة الفرنسيّة بالقول «ظهر هناك نوع جديد من الدين». فبعد عام 1791، تمّ قمع الكاثوليكية بشدّة، وبُذلت جهود عديدة لاستثمار البُنى والطقوس في غرس الإخلاص ذي الطابع الديني لفرنسا نفسها. نُصبت المعابد لأرض الآباء، كما نُقشت نسخ من الدستور الفرنسي وإعلان حقوق الإنسان على الحجر والحديد كموضوع للعبادة. وابتُكرت طقوس للتعميد المدني والجنازات المدنيّة. كما أُقرّ إعلان حقوق الإنسان كمادّة للتعليم الشفهي بشكل مماثل لوضع التعليم المسيحي السابق. وهذا ما يُطلقُ عليه جون بوسي «هجرة المقدّس» من الكنيسة إلى الدولة.
لقد بات الموت في سبيل العَلَم والأمّة هو المكافئ للشّهادة في دين القوميّة.
إن ما حدث في الحقبة الحديثة هو انحدار «الأديان» التقليدية من الحيّز العام، ولكن هذا الفراغ قد امتلأ بأشكال أخرى من الولاء «الديني» ذي الصبغة العلمانية، وأبرز هذه الولاءات هي القومية كما يرى كارلتون هايس في كتابه «القوميّة كدين»، حيث يشير هايس إلى سيرورة هجرة المقدّس وانتقاله من حيّز الأديان إلى حيّز الدولة بإظهار ملامح الدين الأمريكي؛ بقدّيسيه (الآباء المؤسسون)، ومعابده (قاعة الاستقلال)، وآثاره المقدّسة (جرس الحريّة)، ونصوصه المقدّسة (إعلان الاستقلال والدستور)، وشهدائه (لينكولن)، ومحاكم التفتيش الخاصّة به (المجالس المدرسيّة التي تعزز الوطنيّة لدى الطلاب)، وأعياده المقدّسة (الرابع من يوليو)، وقربانه المقدّس (يوم العلم).
إذا كان الدين هو ما يكون البشر مستعدّين للتضحية بأنفسهم في سبيله، فإنّ الموت في سبيل العَلَم والأمّة القوميّة قد بات هو المكافئ للشهادة في دين القوميّة بحسب مارفين وإنجل.
يستطرد كافانو في كتابه في تتبّع أشكال هجرة المقدّس في مجالات السوق والعلم والأيديولوجيات الخلاصيّة الكبرى من الماركسيّة إلى الليبرالية، ويتساءل عن وجاهة اعتبار ظواهر معيّنة، دون أخرى، ظواهر دينيّة، ويرى كافانو بأن تحديد ما هو الدين يتمّ وفقًا لاعتبارات السلطة لا وفقًا لأيّ مقولات نظريّة مطردة. إن الحروب الأمريكيّة التي تقسم العالم إلى «نحن» و«هم» وإلى أخيار وبرابرة لا تفترق في طبيعتها ورؤيتها الكونية الإطلاقيّة عن الحروب المقدسة وحروب الجهاد. إن رفض الظواهر العلمانية وصفَها بأنّها «دينيّة» يُسبغ عليها طابعا طبيعيا وعلميا وعقلانيا يُخفي ترتيبات السلطة الكامنة وراءها. تُقدم «أسطورة العنف الديني» مجموعة من الوظائف السياسيّة يضعها كافانو على النحو التالي: أولًا، شرعنة عنف الدولة في مقابل عنف الفاعلين الدينيين، بل وصرف الانتباه عن عنف الدولة. وثانيًا، إنّ اعتبار الدين شأنًا غير عقلانيّ يُلغي الحاجة إلى إدراك الأسباب والمبررات التي أدّت إلى ولادة هذا العنف. وثالثًا، توفّر أسطورة العنف الديني أرضيّة للاختيار الانتقائي للعنف الديني المرفوض. وجميع هذه الوظائف تتبدّى بوضوح في الحالة العربيّة اليوم.
«أنا أو الفوضى»
تبدأ القصّة في المنطقة العربية الإسلامية منذ فرض العلمانية السياسية في حقبة ما بعد الاستعمار، فبعد أن قام الاستعمار بتفكيك مكونات السلطنة العثمانية والأجسام التقليدية للمجتمع شبه الزراعي، وإجهاض مشاريع النهوض الذاتي كما حدث مع صناعة القطن المصريّة. ثمّ خلْق الاستعمار المشكلة الطائفيّة وتغذيتها (عيّن البريطانيّون حاكما سنّيا في العراق، وعيّن الفرنسيون حاكما مسيحيا في لبنان)، وتلى ذلك تصدير المشكلة اليهودية إلى المنطقة، ثم مرحلة دعم الديكتاتوريات العلمانية في منتصف القرن الماضي (الشاه في إيران، أتاتورك في تركيا.. إلخ). أدّى ذلك إلى شعور المسلمين بأن هويّتهم مهددة وبأن العلمانية والحداثة مقولات استعمارية وإمبريالية، وليست في مصلحتهم. كما إنّ الاستعمار الغربي قد قرن هذه المقولات بالتبعيّة له (كما يفعل مع الديمقراطية اليوم)، فخلق نُخبًا اقتصادية وسياسية تلقّت تعليمها في الغرب وارتبطت مصالحها بالغرب الاستعماري. بناء على ذلك، لم ينشأ التحديث من خلال سيرورة خاصة بالمجتمعات، بل قام الاستعمار بتفكيك الديناميكيات الخاصة للمجتمعات وفرض مؤسسات وقيم جديدة ، كما أنه لم يقم بتأهيل تلك الدول لتكون مستقلة، بل جعل شرط وجودها مرهونًا به (التغريب وليس التحديث)، الأمر الذي أعاق العودة إلى الحالة السابقة، كما أعاق القبول الكامل للحداثة كتطوّر اجتماعي (هذا ما يعرف بالحالة ما بعد الاستعمارية التي نقعي فيها إلى اليوم). لقد أدى الشعور بالخوف على الهويّة إلى حالة من النكوص عن سؤال العمل والنهضة إلى سؤال الهويّة ما أدّى إلى تصاعد النزعات الأصولية والإحيائيّة والسلفية وإلى تشويه مضاعفٍ لسمعة العلمانيّة في المنطقة[2].
يدور النقاش اليوم حول «العنف الديني» دون النظر إلى المبررات التي تقف خلفه؛ كالاستبداد والطائفية وفشل مشاريع التنمية.
إذا كانت لحظة الربيع العربي محاولة ممكنة للخلاص من هذه الخلفية التاريخيّة المتوترة للمسألة الدينية-العلمانيّة في العالم العربي الإسلامي، فإنّ موجة الثورات المضادة وإعادة استحكام قبضة الاستبداد، وإجهاض التجارب الديمقراطيّة والانقلاب عليها، مع تزايد فشل مشاريع التنمية، وغياب أيّ مشروع للتحديث، وتحوّل الدولة إلى مشروع سلطويّ وطائفي، واستمرار نهج التبعيّة.. إلخ، قد أدّى إلى استعادة التنظيمات الجهادية لجاذبيّتها (التي كانت آخذة بالأفول في بداية الربيع العربي)، والتي أخذت شكلها الداعشي الهويّاتي مع احتدام المسألة السنيّة في العراق وسوريا (لا ينبغي أن ننسى الدور الأمريكي في العراق والذي قام بمكافأة نخب الشيعة ومعاقبة السنّة على أساس الموقف من الغزو)، وتبنّت نهجا من التوحّش يُكافئ القمع والعنف المفرط الذي مارسه النظام السوري، والذي كان واعيا بلعبة «الاستبداد أو الإرهاب والفوضى» فأخرج قادة السلفيّة الجهاديّة من سجن صيدنايا (أبو عبد الله الحموي، أبو محمد الجولاني، زهران علوش) وسهّل عسكرة الثورة وأسلمتها. واليوم يدور النقاش حول هذا «العنف الديني» دون النظر إلى المبررات التي تقف خلفه، وبدلًا من ذلك يتمّ الحديث عن مصادر تراثيّة تيميّة وثقافة كراهية ورهاب الآخر، وكل هذا الهراء يتعامى جهلا أو تجاهلا عن الأسباب الحقيقية الكامنة وراء هذا العنف.
لم يحتج نمور التاميل (الحركة الانفصالية السيرلانكية) إلى فتاوى ابن تيميّة لتنفيذ 260 عمليّة انتحاريّة خلال عقدين من الزمن، مبتكرين بذلك هذا التكتيك من العنف الحديث. فالسياق السياسي والسيسيولوجي أكثر أهمّية في فهم هذه الظواهر من السياق اللاهوتيّ. وربما لو لم يكن ابن تيميّة قد ولد في القرن السابع الهجري، لولد الآن! هنا تكمن إحدى أبرز مثالب هذه الأسطورة/ الأيديولوجيا، إذ ينبني على العمى عن رؤية البواعث الحقيقية لتفجّر العنف الديني في المنطقة، سجالات رديئة عن ضرورة نقد التراث وإصلاح الخطاب الديني، وتطهير النشءِ من مخلّفات التطرف الفكري. لست أتحدث هنا عن صوابيّة هذه الاستراتيجيات بحدّ ذاتها أو خطأها، ولكنني أتحدّث عن سذاجة تصوير العنف الديني باعتباره ابنا للخطاب الديني والتراثي الكلاسيكي، أو تصوير سيكولوجيا العنف الديني باعتبارها شبَقا ساعيا إلى الظفر بالحور العين، فهذا إغفال خطرٌ للطبيعة السيسيولوجية والسياق السياسي للظاهرة.
اقرأ أيضاً: الأرضية الحالية لعنف (بعض) المسلمين
إنّ الدين ليس جوهرًا عابرًا للتاريخ والثقافة، ولا يمكن القول بأنّ الدين عنيف بطبعه ولا بأنّه داعٍ إلى السلام بطبعه. فالدين ظاهرة اجتماعية خاضعة للتحوّل بحسب الظروف التي يمرّ بها أتباعُه؛ وصعودُ التيارات الدينية السلميّة أو العنيفة لا يعتمد بالدرجة الأولى على النصوص والمحتوى العقائدي للأديان، بل على السياق الاجتماعي والسياسي والاقتصادي. فقد تظهر مخالب الأديان في لحظات شعورها بالخطر أو في لحظات تعصّبها ضد الآخر (مثلها في ذلك مثل الأيديولوجيات الكبرى المختلفة)، كما يمكن أن تتحول إلى قوة داعية للسلام أو للعدالة في سياق أكثر ازدهارا.
أختم هذه المادّة بتنبيهين اثنين: الأول، إنّ تفنيد أسطورة العنف الديني لا يعني تجاهل أشكال العنف المُقدّمة بخطابات دينية أو تجاهل امتدادات خطاباتها في مجتمعاتنا، ولكنّ مقاومة هذه الخطابات لا يمكن أن تتمّ دون التكافؤ في النظر إلى العنف بغضّ النظر عن فاعليه، أي النظر إليه في أفق سؤال العدالة. وهذا مفتاح الحلّ الأول، فدون علاج الجذور الموضوعية العميقة الولّادة لهذا العنف، فإن أفول داعش الجغرافي اليوم قد يعني امتدادها أيديولوجيا وابتكارها لتكتيكات جديدة من العنف، وظهور فاعلين جدد في ساحة التوحّش. إن ما تؤول إليه التوافقات السياسية الدولية والإقليمية حول استقرار نظام قتل من شعبه، دون تمييز، ما يقرب من نصف مليون، لا يُمكن أن يجعلنا متفائلين بحال المنطقة ومستقبلها، ولا يمكن أن يُقنع أو يُرضي من يمتلك ذرّة من ضمير العدالة.
ثانيًا، إن رفض التمييز بين ما هو ديني وما هو سياسي نظريًا لا يعني الوقوع في حالة من تهاوي الحدود بين المؤسسات المختلفة، بل يعني إدراك أنّ هذه الحدود هي حدود يتمّ التواضع والاتفاق عليها بقدر ما تكون نافعة ومفيدة لمجتمعاتها، وهي حدود اعتباطيّة وليست طبيعيّة، وهي حدود لا تنفصل عن ترتيبات السلطة. إن تحرير العلمانيّة من ثقلها الأيديولوجي ومن صيغتها الجاهزة يعني امتلاكنا لحقّنا في اختطاط مسارنا سياسيا وثقافيا نحو مجتمعات أكثر عدالة، وحقّنا في تبيئة تجارب الآخرين ونقدها والانخراط النشط في تعدّدية العالم الذي لا يجب أن يكفّ عن التواصل والنقد.
الهوامش:
[1] ثمّة مفارقة جديرة بالملاحظة هنا، وهي أنّ تقارير المستكشفين والغزاة الأوروبيين في بداية المرحلة الاستعماريّة قد تحدّثت مرارًا عن غياب أي شكل من أشكال الدين لدى الشعوب «البدائيّة» في إفريقيا ولدى السكان الأصليين في الأمريكتين، وكان ذلك بمثابة تأكيد على دونيّة هؤلاء البشر ومبرّرًا لاستعمارهم وإنكار حقوقهم وتبشيرهم بالدين الجديد. إلا أنّ الأمر اختلف مع قدوم المبشرين الذين رافقوا الرحلات الاستعماريّة فعمدوا إلى استكشاف أديان هذه الشعوب وتأطيرها في أنظمة اعتقاديّة مشابهة للمسيحيّة ليسهل بذلك مقارنتها بالنظام اللاهوتي المسيحي وإقناع تلك الشعوب بالدخول في المسيحيّة.
[2] بالمناسبة لا تقتصر هذه الظاهرة على العرب المسلمين، بل نجدها في خطابات اليابانيين إبان انفتاح ميجي، وفي صعود القوميّة الهندوسيّة بعد الاستقلال، وفي الخطابات الإيرانيّة التي استدخلت نقودات الفلسفة الغربيّة لمناهضة مشاريع «التغريب» في عهد الشاه. وعلى الرغم من أنّ هذه الحركات قد نشأت كردّ فعل هويّاتي إلا أنّها في الوقت نفسه حركات حديثة بامتياز من ناحية تنظيمها ومن ناحية استدخالها للبعد القومي داخل خطابها المدافع عن الخصوصيّة والأصالة والتحرّر من الهيمنة.
اقرأ أيضاً: الإسلاميون وداعش والحداثة
النص الأصلي على موقع حبر