عرفت تونس عقب ثورة 2011 تسارعاً ملحوظاً في عدد الجمعيات الأهلية التي تجاوزت اليوم العشرين ألفاً. ومن خلال نشاطاتها المختلفة، سعت هذه المنظمات أو الهياكل إلى استقطاب العنصر الشبابي وإدماجه في الحياة الاجتماعية والسياسية. لكن العديد من نقاط الاستفهام بقيت عالقة حول قدرة هذه الجمعيات على تحفيز رغبة الشباب في النشاط المدني، وخصوصاً في المناطق الدّاخلية التي عانت على مدى عقود من التهميش الممنهج ودفعت ضريبة سياسات قاصرة.
"عين دراهم" من بين أبرز الأمثلة على هذا القصور الممنهج. جنّة الشمال التونسي. منطقة غنية بمواردها الطبيعية والبشرية والثقافية. للربيع فيها طعم البنفسج والأغنيات، نبات الريحان في كل أرض، وتتفتح رائحة الندى الصباحي فوق تلالها كانساً أي ضباب. لكن هل كنّس "الربيع العربي" عن "عين دراهم" غبار السياسات القديمة، وهل للمجتمع المدني المحلي اليوم القدرة على دمج الطاقات الشبابية من أجل تغيير واقع المنطقة؟
كغيرها من الجهات، عرف النسيج الجمعياتي لمدينة "عين دراهم" خلال الفترة الأخيرة ازدهاراً نسبياً، على الرغم مما تعانيه من سوء في استغلال الموارد وغياب استراتيجية تنمية محلية ناجعة. هذه المدينة التابعة لولاية "جندوبة" في الشمال الغربي للبلاد تتميز، كغيرها من مدن الداخل التونسي، بارتفاع نسبة الشباب العاطلين عن العمل، كما يلاحظ فيها عزوف كبير عن ممارسة النشاط السياسي والمدني.
تضم "عين دراهم" حوالي 28 جمعية أغلبها تندرج ضمن صنف الجمعيات التنموية، بالإضافة إلى بعض الجمعيات الثقافية والرياضية التي تتوزع بين عين دراهم المدينة وضواحيها الريفية. لكن المثير في نشاط هذه الجمعيات أنها تركز بالأساس على الأعمال الخيرية من خلال توزيع مساعدات عينية وتلبية احتياجات ظرفية للمحتاجين من أهالي المنطقة. أدى هذا المنهج بدوره إلى بروز مجموعة من الظواهر المنحرفة، أهمها تكريس ثقافة التواكل بدل التوجه نحو التحفيز على إيجاد حلول جدّية من خلال التعويل على الموارد الذاتية وعلى تطوير مشاريع تضامنية مدنية ذات أهداف اجتماعية تخدم المصلحة العامة. تفاقم ظاهرة المحسوبية وبروز نوع من التبعية تجاه هذه الجمعيات وهو ما يفتح الباب أمام الاستغلال السياسي لهذه القاعدة. من ناحية أخرى، عمّق هذا المنهج الخيري في عزل المنطقة التنموي، إذ تنفّس هذه الأنشطة ما يتعارف على تسميته بخزان الرفض الاجتماعي، وهو ما يعطل سيرورة الحركات الاجتماعية التي تطالب بمنظومة تنمية محلية أكثر عدلاً وتلاءماً مع الخصوصيات الطبيعية والحضارية للمنطقة.
أدى منهج الجمعيات الاهلية القائمة إلى بروز مجموعة من الظواهر المنحرفة، أهمها تكريس ثقافة التواكل بدل التوجه نحو التحفيز على إيجاد حلول جدّية بالتعويل على الموارد الذاتية
سياسات الجمعيات الخيرية تلك ليست سوى معالجات فردية تُشتت الاحتقان الشعبي بدل أن تأطره وتوجهه نحو المساهمة في تطوير مشاريع للجهة ومناصرتها والضغط من أجل إلحاقها بأجندات الدولة.
ميدانياً ووفق الملاحظة العيانية، فإن أهم النقاط التي تخلق حاجزاً أمام نفاذ الشباب إلى العمل الجمعياتي وانخراطه في النشاط المدني هما غياب الثقة أولاً، إذْ يرى جزء كبير من شباب المنطقة أن الجمعيات حادت عن أهدافها وليست سوى واجهة سياسية، والبطالة ثانياً، إذ يعتبر أغلب الشباب أن أولوياتهم اليوم هي البحث عن الشغل. وفي حوارات مع الشباب المنخرط في العمل المدني، يلاحظ أن الهدف الأول للانخراط فيها وللنشاط هو البحث عن الشغل وكسب الرزق وضمان نوع من الاستقلالية والاعتراف الاجتماعي. فالنشاط المدني يمثل مصدر رزق لبعضهم، فيما يمثل للبعض الآخر فرصة لتوسيع شبكة علاقاته التي يأمل أن تمكنه من الولوج إلى سوق التوظيف أو العمل، في ظل منظومة تشغيل تعاني عجزاً متفاقماً وفساداً مستشرياً... بينما كانت أولى الشعارات التي رفعت منذ إندلاع الشرارة الأولى للثورة هي "التشغيل استحقاق".