هذه "هناء"، ربيعتي. هكذا قدّمها "رائد" إلى أصدقائه في دير الزور شمال سوريا. أردف "سائد" ضاحكاً مذّكِراً بوجوده: وأنا ربيعهما!
في مشهد لا يُشبه غيره: كان ليل البادية الآسر يهبط على الجسر المعلّق الذي تهتّز عوارضه الخشبية تحت أقدامهم فتكاد تُفقدهم توازنهم. يُرافقه صوت نهر الفرات الطاغي ورذاذه المتطاير عبر فراغات العوارض ومن جانبي الجسر المسوّرين بحبال متباعدة. وكان بحوزة الثلاثة، هناء ورائد وسائد، تلك المفردة العجيبة: ربيعي.
سائد ورائد هما أبناء عمّ. أما هناء فهي قريبتهما التي وصلت لأول مرة إلى دير الزور بعد وفاة والدها الشاميّ. كان الأخير قد ترك لأمها "ثروة" صغيرة ووصيّة حارّة بأن ترسل ابنتهما لتتعلم خارج سورية. وهكذا قرّرت الأم أن تُمضي هناء عطلة الصيف في الدير لتتعرف على أهلها وأقربائها. كانت تريد أن تبني لها جسراً هناك، فربما تُغريها فكرة العودة يوماً.
ربيعان وربيعة، هذه العبارة هي أكثر ما يصف علاقتهم التي مزجت الصداقة والرفقة مع القرابة المتشوّقة للمضيّ أبعد من صلة الدم والعائلة عبر إعلان الشابان بأن هناء هي ربيعتهما. وهما بذلك إلى جانب التباهي بها أمام معارفهما، يعمدان إلى اعلان مسؤوليتهما عن حمايتها من الألسنة والتحرشات الشائعة على الجسر الذي يعبره كثيرون: تجار، مهربون، عشاق، سياح، سباحون، مثقفون، شعراء، متسولون، حيارى، متروكون، عرسان يكملون طقوس زواجهم، مخبرين، عمال مقاهي ومطاعم، خراف، فواكه ورعاة...
غالباً ما كان ينتهي بهم مشوار الجسر في مقهى "الجرداق". هناك، ومع كؤوس الشاي التي لا تٌعّد، كانت تمتدّ سهراتهم العامرة بفيضانات المشاعر والأفكار والأحلام. يحدث أن تتساءل هناء عن سرّ الحرارة والحزن والسحر في أغاني البادية، فيجيب رائد بحُرقة: هذه أرض حضارات بلاد الرافدين وقد تحوّلت إلى أنقاض على أيادي الغزاة والطامعين، ألا تستحق البكاء؟.. وهل الأعداء الخارجيون هم فقط من يدّمرون؟
يعترض سائد، ليتشعّب الحديث ويصل إلى واقعهم وحياتهم وكيف يتعارض بناء الأوطان مع حريّات الانسان.. كانوا يتناهبون الأحاديث. بذرةٌ في هذا القلب تجد نفسها ثمرةً عند الآخر، نبتة برّية هنا تورق وتعرّش في فضاء الثاني.
تعبر فكرة في رأس رائد: يجب أن أعمل لأصرف من تعبي. يوافقه سائد فوراً. في اليوم التالي تمّد هناء "مقدارها": إسوارتها الذهبية الثقيلة، وتقول "سأشارك معكما في مشروع تأجير الدراجات". هم يعملون وهي تعاني في تعليمهم الفرنسية. كانوا يقولون لها: سنتعلم الفرنسية كرمى لعيونك وعيون الفرنسيين الذين بنوا الجسر المعلّق. وهكذا أصبح لهم مفرداتهم، ايماءاتهم، ضحكاتهم، صمتهم، معنا، لنا وعلينا..
***
"يمّا يا خد السمرا
سكّر حليب الناقة"
تصدح أغنية "دياب مشهور" فوق الجسر. تسري في أوصالهم فتفيض طمأنينة ورضىً عن صداقة حلوة مثل حليب الناقة، موجوداً ومبذولاً غذاء وعافية لمن يشاء.
في العرف الاجتماعي غير المكتوب، هناك تقدير كبير للصداقة، لكنه تقدير مشروط بكونها علاقة مدرّة للمنافع والخدمات، للتسلية وتمضية الوقت. فالصداقة علاقة خارجية بالنسبة للفرد لا يترتّب عليها التزامات ولا مسؤوليات. دع الناس تستفيد وتتسلّى وتجرّب على حساب الصداقة المكتوبة على "قالب البوظ/ الثلج"، كما يُقال هناك.
***
"الحبّابة"
كانوا قد اجتمعوا في الغرفة الكبيرة عند الحبّابّة. ومن تكون الأخيرة؟ هي الجدة الطيّبة وكثيرة الحب. يترقّب الكل وصول هناء لترى بنفسها "المعجزة" التي أخبروها عنها: سيقسمون البطيخة الحمراء الكبيرة إلى نصفين وسيضعونها تحت أشعة شمس الظهيرة اللاهبة لتبرُد. فيتمتعون بمذاق لا يُنسى! كانت تردّد هناء في سرّها: يا الله ما أطيب هذه البلاد وناسها.
انزلق سؤالٌ من لسان هناء عن مسلسل "ساري" المأخوذ عن قصة واقعية مفادها أن أحد وجهاء العشائر أصيب بداء الجدريّ، فتركته عشيرته وحيداً مع كلبه وبعض المؤونة تجنّباً لنقل العدوى إلى البقية. تساءلت هناء متوجّهةً إلى الجدة: حبّابة قوليلي الصدق، ألم يكن لدى ساري ربيعاً أو ربيعة كي يبقى إلى جانبه؟ أم أنهم تركوه لسبب آخر غير المرض؟
لكنّ الحبّابّة كان قد أرهقها الاسراف من ذخيرتها اللغوية العذبة الوفيرة وهي تحاول استعادة هؤلاء "الجهّال" (أي الشباب) من فضاء ربيعهم إلى "حظيرة" الصداقة المتعارف عليها، تحوّلت فجأة إلى السبّابّة الشتّامة واللّوامة: أنتِ اللي مو معروف قرعة أبوكِ من وين تريدين تعلّمين علينا، أنت اللي أهلك رموكِ علينا وجاية تضحكين على شبابنا وولادنا وتقوديهم إلى السجون والكفر، وآخرتها تسخرين من تاريخنا وتقاليدنا..
***
أين تقع الصداقة؟
يا بعد عُمري
لا عاش قلبي
فدوى قهرك أنا
سأحضر الحبابة لتطيّب خاطرك
هذه عبارات رائد الحارّ الجسور، الذي طالما أشار إلى قلبه ثم إلى الفرات. الصداقة هنا في النفوس ولا سلطة لأحد عليها ولا حدود إلا الصدق والضمير الحرّ.
"يا ربيعتي، سنعيش صداقتنا ونغذيها ونعتني بها. سنعمل على تشريعها واعلاء قيمتها في نصوص تُضاف إلى حقوق الإنسان، ألم نتفق على كتابة عهد للصداقة يحفظ ما تفتّح منها ويبشّر بالأجمل؟ لن يكون طريقنا سهلاً فصداقتنا مختلفة".
ليس من عادة سائد أن يتحدث بهذه الخطابيّة الرنانة. لكنه خشي فعلاً من حقيقة أنه لا حقوق للصديق، بل ويستطيع أيّ كان أن يهدر كرامته تحت أية ذريعة. استدرك سائد محاولاً بلسمة جرح هناء بطريقته المحببة بالكلام: ثم أن الصداقة لا تقع في مكان، إنها مثلك تحب الطيران.
كانت هذه كلمات هناء: أشعر أني طائر بجناحين أحدهما رائد والآخر سائد.
تقول "الحبّابّة" وهي تودع هناء: يعني يا بنتي الصداقة وربيعي وهالشغلات هذه سوالف العجيان (الأولاد) والعجائز والناس العطاليّن البطاليّن، أنتم شباب ادرسوا وتزوجوا، ابحثوا عن مصالحكم، لا تزعلي مني، الله يرحم أبوكِ، سافري وعندما تعودين ستجدين كل شيء على حاله وربعك موجودين ومصير الحيّ يتلاقى!
***
انقضىت أكثر من عشرين عاماً. لم يلتقِ الأصدقاء إلا عبوراً في باريس أو أوروبا خلال رحلات عمل أو زيارات عائلية نادرة. اختاروا مُكرهين أن يلتزموا بطهرانية مبالغة في علاقاتهم. ألم يكونوا هم من فوّضوا أنفسهم بوضع شرائع للصداقة وأسسها ونصوصها؟
لم يمّر حديث بينهم من دون أن يحلفوا بحياة "المعلّق" أو بحق الفرات والدير، متعاهدين على تجديد لقائهم على الجسر الذي علّق فيما بينهم وعلّقهم بالحياة
ربما الغياب هو من حمى علاقتهم من تقلبات الفصول وروتين اليوميات وتراكمات الصغائر. وهكذا بقيت أقوى حضوراً على الرغم من البعد. كل واحد منهم كان يعيش بقلوبٍ ثلاثة، ثلاثة عقول وارادات وضمائر.
تردّد سائد كثيراً قبل أن يقترح اسماً لابنته. لم يكن ليختار على ذوقه وحده، كان يفكر إن كان الاسم سيُعجب هناء؟ وماذا سيقول عنه رائد؟
كانا يؤنبان رائد على تبذيره وتهورّه في تجارته، بعد أن يرسلا له أكثر من المبلغ المطلوب لتسديد ديونه. يرّد عليهما مغتبطاً: بوجودكما أنا الأمير السعيد الذي يُجاب من دون أن يَطلُب.
أما هناء التي عانت من التهكّم من لهجتها الديرية حين كانت في الشام إذ قالوا لها: احكي معنا مثل الأودام، لا تحكي معنا بالنحوي (ينطق الديريون كل أحرف العربية نطقاً سليماً في كلامهم اليومي). أصبحت اليوم تسمع تهكماً ألطف من الفرنسيين: لديك لكنة جميلة!
في الحالتين كانت تشعر برفض الآخرين. لهذا اعتادت أن تقتصد في كلامها وتواصلها معهم. كانت تجد سلامها وتوازنها بالحديث الواقعي أو المتخيّل مع ربيعَيها. كانا يشاركانها الحيرة والقلق في تربية ابنها، يسخران ممّن يزعجها، ويُباركان كلّ محاولاتها.
لم يمّر حديث بينهم من دون أن يحلفوا بحياة المعلّق أو بحق الفرات والدير، متعاهدين على تجديد لقائهم على الجسر الذي علّق فيما بينهم وعلّقهم بالحياة.
***
انهار الجسر المعلّق. قذيفة حرب قصفت عمره الذي لم يبلغ المئة عام. الجسر الذي كان معلّقاً في قلب المدينة والذي شهد على حياتها ونبضها، لم يكن مُراقِباً فحسب، بل غيّر مصائر وأقدار، أشعل خيالات وآمال وحفظ عهوداً وأسرار.
لم يزل الفرات يجري متصبّراً على فَقد جسره الأحبّ، يتلو حكايات من عبروا...