نُشر النص الأصلي لهذا الموضوع في موقع "مدى مصر"، وهو منصة إلكترونية تأسست في مصر، ونعيد نشره هنا بالاتفاق مع الموقع. في إطار حملتها المستمرة للتضييق على الصحافة، حجبت السلطات المصرية "مدى مصر"، ضمن مواقع أخرى. والتزمًا منا بمبدأ حرية الصحافة واستقلاليتها، يقوم "السفير العربي" بإعادة نشر نصوص ينتجها "مدى مصر" لمساعدة الموقع في التغلب على إجراءات الحجب والوصول إلى القراء داخل مصر.
ريم بن رجب
تنويه هام قبل البدء: نودّ التنبيه الى أنّ كلمة زنجي عند الجغرافيين العرب لا تطلق إلا على أهل منطقة الساحل الشرقي لافريقيا وسكانها السّود، ولا يقصد بها السب ولا العنصرية اذ أنّها ليست لفظة عنصرية بل مصطلح للتعريف كما الفرس والروم والحبشة.مفهوم الزنوج توسّع لاحقا ليشمل أي شخص أسود البشرة وأصبح يستخدم، عند شرائح مختلفة، استخدامًا عنصريًا.
انطلقت الحكاية مع سيدي سعد، ذلك الوليّ الصالح الذي ارتبط اسمه بملحمة عنوانها الشجاعة. هو زنجي أصيل بورنو (شمال شرق نيجيريا) أتى من اسطنبول إلى تونس إبّان القرون الوسطى وتحديدا في القرن الثالث عشر، عندما بلغت العبودية ذروتها نتيجة نظام إقطاعيّ منح الأثرياء السلطة المطلقة على الأراضي وعلى ضعاف الحال. سيدي سعد هو، في الآن ذاته، ذلك الوليّ الصالح الذي ارتبط اسمه أيضا بموسيقى الزنوج في تونس، مثلما ارتبطت موسيقى الديوان في الجزائر بسيدي بلال.
السطمبالي .. زنوج تونس بِعَبَق افريقيا
تتجمع العديد من الفرق الزنجية في تونس حول سيدي سعد الذي يقع ضريحه جنوب العاصمة في سهل مرناق. ويروي أنصاره ومُريدُوهُ أنّه كان الأوّل من بين رفاقه الثلاثة (سيدي فرج وسيدي حلاب وسيدي بوسعيد) خلال اختبار الإيمان الذي فرضته قوّة خارقة عليهم حيث قبِلَ الموتَ وارتقى الى مرتبة الأولياء الصالحين، بحسب ما تذكره هاجر الزحزاح في بحثها الجامعي حول “الثقافة الزنجية في تونس: دراسة حالة السطمبالي” (1989).
جاء ميلاد السطمبالي -وفق هيكل الحزقي المهتمّ بموسيقى الزنوج- تطهيراً روحياً من قرقعة سلاسل العبودية التي رافقت رحلة السود والأحباش القادمين من جنوب شرق إفريقيا وبحيرة التشاد إلى أسواق النخاسة. كان هؤلاء يطرقون سلاسل الحديد ويرافقون الإيقاع بهمهمات تكتنز ألماً وغضباً.
يضيف الحزقي في هذا السياق، في دراسته المُعَنوَنَة “السطمبالي التونسي : سجع السلاسل ورنين الأصفاد” والمنشورة في موقع “معازف” شارحا الجذور التاريخية لهذه الموسيقى:
“المكوّن التاريخي لتوطين هذه الموسيقى في تونس لا يعود فقط إلى جذور استعبادية، بل استقر جزءٌ منها نتيجة التجارة وأغراضها بين القوافل العابرة لصحارى إفريقيا وبلدان المغرب، والتي ازدهرت في تونس خاصة بعد إلغاء الرق رسمياً سنة 1846.” هيكل الحزقي.
نُسبت موسيقى السطمبالي، وفق المصدر ذاته، خطأً إلى الباشا آغا السطمبولي الذي ينحدر من مدينة إسطنبول التركية، بينما تعود طرق العزف التي نراها في السطمبالي التونسي إلى جماعة سعد الشوشان أو بوسعدية، والذي يعتبر أحد الأولياء الصالحين.
ويذهب الحزقي الى تثبيت الوازع الصوفي الذي طغى على إرهاصات هذه الموسيقى في بداياتها، إلا أنه يعتقد أنّها انفتحت فيما بعد على عوالم الطبيعة وتجاوزت “لاَزِمةَ التصوّف ومعالجة الأرواح”.
لم يعد السطمبالي، ذو الأصول الإفريقية، في تونس حكرا على الزنوج منذ منع العبودية ومنذ أن خرج عدد من شيوخ الإسلام برأي دغمائيّ مفاده أن هذه الموسيقى “إشراك بالله وكفر به” شأنه شأن الاحتفاء بالزوايا ومقامات الصالحين والتبرّك ب”كرماتهم” وفق ما يتداوله عدد من مريدي موسيقى السطمبالي.
تحريم موسيقى الزنوج كان سببا مباشرا في تقلّص عدد المنتمين إلى فرق السطمبالي، في وقت ما، ولكنّه لم يحدّ من انتشار هذا النمط الموسيقيّ الذي كان ومازال، ولو نسبيا، يضطلع بدور علاجيّ من خلال حالة التخميرة التي تنتاب المُنتشين والراغبين في طرد الأرواح الشريرة. موسيقى القناوة في المغرب ذات الأصول المالية، قالوا عنها أيضا انّها “موسيقى الشيطان” لممارسة روّادها طقوسا روحانية تبدو للبعض غريبة.
بوسعدية .. سفير موسيقى السطمبالي وأيقونتها
هذا الكمّ الهائل من الأحكام المُسقطة على موسيقى الزنوج وثقافتهم جعلتهم ينغمسون وسط المهمّشين والمنسيّين. في تونس، لا يعرف الناس الكثير عن السطمبالي غير بعض الإيقاعات الحادّة التي تصدرها الشقاشق (صفائح معدنية). ولا نعرف من شخوصهم وعالمهم المُترع بالطلاسم والحكايات، غير شخصية بوسعديّة، غريب المظهر والأطوار.
ارتسم بوسعدية في مخيالنا الشعبيّ على شاكلة ذلك الرجل المخيف الذي يجوب أنحاء المدن باحثا عن شيء مفقود، ابنته المخطوفة والتي بيعت في سوق النخاسة. كان بوسعدية “السلاح” الرمزيّ لجميع الأمّهات، يُخرجنه لإخماد شيطنة أطفالهنّ وقت القيلولة، “اصمت أو آتيك ببوسعدية”. نفس الجملة كرّرنها على مرّ سنوات طويلة. كنّا نخاف بوسعدية المُخيف ولكننّا لم نكن نعرف حكايته التي تختزل معاناة الزنوج في إفريقيا.
بوسعدية، الراقص الزنجيّ على موسيقى السطمبالي، اختطف تجار الرقيق في تونس ابنته سعدية، فقرّر أن يتنكّر ويجوب شوارع المدينة بحثا عنها. يرتدي بوسعدية جلود الماعز والخرفان المرصّعة بالأصداف، ويُخفي وجهه أحيانا بقناع ملوّن ويضع فوق رأسه جمجمة طير أو رأس جمل. أصبح بوسعدية، الهائم على وجهه، من أهمّ الشخوص المكوّنة لموسيقى السطمبالي إلى جانب “العريفة” التي لم يعد لها وجود يذكر، اليوم، في هذا العالم الموسيقيّ.
يقول الفنان المسرحي ربيع ابراهيم الذي جسّد شخصية بوسعدية في العرض الموسيقي الفرجوي “حليب الغولة”، متحدّثا لموقع “انكيفادا” عن خصوصية تلك الشخصية:
“بوسعدية بلباسه الغريب ولكنته الافريقية ورقصاته وطقوسه وكل ما يلفّه من غموض كان وما يزال نقطة الالتقاء بين الجانب الافريقي والجانب العربي/التونسي فينا. عندما تقمّصتُ هذه الشخصية أحسست أنّ بداخلي افريقيّا زنجيّا أسود البشرة يبحث عن ذاته في هذا العالم اللامتناهي”.
وحسب ربيع ابراهيم فانّ “ادماج موسيقى السطمبالي ضمن باقة من الموسيقى العصرية ذات الايقاع السريع لن يقتل أصالة السطمبالي بقدر ما سيتيح لها مجالا فسيحا لتُعرّف الناس عليها في كل مكان على اعتبار أنها موسيقى ترتقي الى مستوى الكونية وتعانق وجع الانسانية (العبودية، العنصرية، الحروب، الفَقْد الخ) في كل مكان”.
ولئن تتألّف مجموعات السطمبالي من عديد العناصر على غرار عازفي الشقاشق والمغنّين و”العرايف” الخ، فانّ الشخصية المحورية تظلّ “الينّا” yenna بلا منازع. فاليَنّا هو عازف القمبري (آلة وترية) الذي يرث موهبة العزف ولا يتعلّمها. بمعنى أنّه يقع الاختيار عليه منذ الولادة ليصبح “ينَّا”. فمن يختاره ؟ أهُما الوالدان أم شيخ القبيلة أم قوى خارقة أخرى لا مردّ لخياراتها؟
يجيب الينّا صالح الورغلي نازعا الغموض عن هذه الشخصية :
“أنا ينَّا، لم أختر ذلك ولكنني أشعر بشرف ونخوة لما أنا عليه. منذ طفولتي أدركتُ كما أدرك جميع من حولي أنني سأصبح ينّا. هَوَسي وغرامي منذ نشأتي بالعزف على آلة القمبري كانا السمة الأساسية لذلك. فالعزف على القمبري لا يمكن تعلّمه ( حتى وان تمّ تعلّمه نسبيا) بل هو عطاء أو هبة توهب من الأولياء الصالحين لشخص يتمّ اختياره. وأنا تمّ اختياري من قبلهم منذ ولادتي كي أكون ينّا، حيث شاهدني بعض العارفين خلال صغري وأنا شغوف بالقمبري فصارحوا عائلتي بأنني سأكون ينّا”.
الينّا صالح الورغلي، وهو من روّاد السطمبالي في تونس، حدّثنا كذلك عن شخصية “العريفة” وجملة الطقوس التي تقوم بها أثناء “التخميرة”، وعن الجانب الروحاني العلاجي في موسيقى السطمبالي :
” يتمّ ذبح دجاجات أو تيْس وترك دمها يسيل فوق قصعة كبيرة مملوءة بماء البحر وسط إيقاعات مكثّفة بالطبلة. انّ الهدف الوحيد من القيام بمثل هذه الطقوس القديمة هو الحصول على الراحة النفسية لا غير، في المقابل فقد تمّ حصر موسيقى السطمبالي في التعاويذ والغيبيّات والأرواح وهو ما أضرّ بها رغم ما تكتنزه من ألحان وإيقاعات تعانق الكونيّ وتتجرّد من الخصوصيّ على أهميّته”.
القمبري .. رحلة بين الأوتار وأرواح الأجداد
يحتلّ القمبري في موسيقى السطمبالي مكانة لا غنى عنها على اعتبار أنّه آلة لا يطال العزف عليها الّا “الينّا” بكلّ ما يحتوي عليه من قداسة ورمزية روحانية.
وبحسب ما ذكره الصادق الرزقي في كتابه “الأغاني التونسية” الذي يعدّ مرجعا مهمّا يؤرّخ لعادات وتقاليد التونسيّين في الفن والغناء فانّ :
“القمبري نوعان : نوع اشتهر استعماله عند برابرة المغرب الأقصى، صغير الحجم يحتوي على وتريْن، و نوع كبير الحجم بوترين أيضا وهو القوقي يستعمله السودانيّون في مدائحهم وأغانيهم، وهذه الآلة (أي القمبري بنوعيه) أصلها من دواخل الصين”.
وحول آلة القمبري تكثر الروايات اذ تستعمل هذه الآلة أساسا في شمال افريقيا ومالي حيث أتى بها العبيد من غينيا. كما يستعملها التوارڤ والبربر وفق رواية مجموعات السطمبالي في تونس.
ويُعتقد أن هذه الآلة نُقلت عن آلة النقوني الإفريقية. ويعزف المعلّم (الينّا) على القمبري يرافقه عازف “الشقاشق” الحديدية بالاضافة الى طبل كبير لإشباع الأنصار بالانتشاء خلال الطقوس الليلية التي تدعى “ليلا”، وهي خليط من الاحتفال والتداوي حيث يفترض أنها تسمح بتفريغ الهموم التي يعاني منها الأنصار.
عندما يتجانس الروح مع الموسيقى
تُسمّى احتفاليات الزنوج بـ”الميدان”، وتحتوي على عناصر مهمّة من بينها “العريفة” رجلا كان أم امرأة، ترقص على نغمات السطمبالي (رقصة الامتلاك)، وتتخمّر لتغيب عن الوعي وتهذي بكلام لا تفهمه إلاّ “الكاشكا” وهي امرأة وظيفتها الأساسية الاهتمام بالعريفة ورعايتها، إلى جانب ذبح التيس والدجاج أو ما يُسمى بـ”الكرامات” والاجتماع فيما بعد لذكر خصوصيات ومناقب الوليّ الصالح سيدي سعد.
ومن أهم معتقدات الزنوج التي ذكرها الصادق الرزقي في كتابه، حُلولُ أرواح بعض الصالحين وسلاطين الجان في رؤوس الآدميّين وبعض الحيوانات. ومن أسماء الجنّ عندهم : بابا يا ريما، وبابا سركي، وبابا جاطّو، وأمّي ينّة. وقد جعلوا لهؤلاء الجان مقامات يزورونها ويقدّمون لها النذور ويسمّون كل مقام منها “دار كوفا” تُشرف عليها “العريفة” التي لا ترتقي إلى هذه المرتبة إلاّ بعد أكل “الجنقلا” وهي عبارة عن قطعة لحم متعفنة.
وكان لعادات الزنوج الروحانية تأثير على بعض المسلمين واليهود في تونس الذين لم يتردّدوا في أخذ مرضاهم إلى “دار كوفا” للاستماع إلى نوبات السطمبالي والعلاج وفق بعض الشهادات المتقاطعة لعدد من روّاد ال”دار كوفا” في تونس.
كان روّاد “دار كوفا” الزنوج منبوذين لارتباط احتفاليّاتهم بطقوس رمزية “غريبة”، رغم أنّ حالة التخميرة والكرامات والأذكار والموسيقى المتباينة المصاحبة لها، لا تختلف عمّا يقوم به روّاد الطرق الصوفية، “أحباب الله” أو “الفُقرة” كما يُسمّون أنفسهم والذين يتّخذون من الزوايا مكانا لإقامة احتفاليّاتهم.
السطمبالي اليوم، صار بعيدا عن أجواء الزوايا ودماء الدجاج والعريفة، ولكنه حافظ على روحه الاحتفالية من خلال رقصات بوسعدية وصوت القمبري الذي بدأ يخفت تدريجيا بسبب عدم إقبال الشباب على تعلّمه.
يقول بلحسن ميهوب ابن الينّا المعروف عبد المجيد ميهوب في تصريح لموقع انكيفادا، إن “السطمبالي في طريقه نحو الاندثار في تونس”، مضيفا أن “المشكل الحقيقي يكمن في عدم اهتمام الدولة مُمثّلة في وزارة الثقافة بهذا الموروث الموسيقيّ المُهمل والمنسيّ على غرار العلوية”.
ويشاطر صالح الورغلي، بلحسن نفس الرأي، حيث أكد لنا أن :
“الحفاظ على موسيقى السطمبالي هو حفاظ على الذاكرة الجماعية ولن يتمّ ذلك إلاّ من خلال إحداث مهرجان خاصّ بهذا النمط الموسيقيّ مثل مهرجان “قناوة وموسيقى العالم” الذي يُعقد سنويا بمدينة الصويرة المغربية منذ سنة 1998، وهو من أهمّ المهرجانات التي يُقبل عليها السيّاح من كل أنحاء العالم”.
من ينقذ السطمبالي من الاندثار ؟
ظلّ السطمبالي في تونس يتخبّط دون ينّاته (معلّميه الكبار)،،، فقد توفيّ أغلب أعلام هذه الموسيقى مثل حافظ حداد وعبد المجيد ميهوب ومحمد بيدالي والحبيب الجويني، ولم يبق في الساحة سوى الينّا صالح الورغلي الذي تتلمذ على يد كبار عازفي القمبري من دار بورنو.
وفي محاولة لإنعاش هذه الموسيقى، قامت جمعية “ثقافة السطمبالي في تونس: سيدي علي لسمر” في 17 ديسمبر بتنظيم ما يُسمى بـ”المولدية” وهي من العادات التونسية القديمة للاحتفال بالمولد النبويّ. ويقوم هذا الاحتفال أساسا على “الخرجة” من زاوية سيدي محرز إلى زاوية سيدي بن عروس في المدينة العتيقة.
والخرجة عموما هي عبارة عن خروج “فُقرة” الزاوية بالذكر والمديح والأعلام لزيارة زاوية أخرى. وكان السطمبالي حاضرا بقوة على اعتبار انتماء أقلية من الزنوج لزاويتي سيدي محرز وسيدي بن عروس ولكن ليس بالدرجة التي ينتمون إليها لزاوية سيدي سعد الشوشان وسيدي فرج وسيدي علي الأسمر.
رغبة زنوج تونس في التحرّر والانعتاق جعلتهم يلتفّون حول هذا الوليّ الصالح أو ذاك، وتطهير أرواحهم بإيقاعات تعبّر عن رحلة معاناتهم، فجاءت موسيقى السطمبالي والديوان والقناوة قادمة من الزوايا والصحارى، مثلما جاءت موسيقى البلوز والجاز قادمة من الكنائس وحقول القطن الواسعة.