في فيلم "ضربة في الرأس" لهشام العسري، يصاب العسكري بكسر في السّاق، ويطلب ممن حوله أن يضربوه على رأسه، حتى يُغمى عليه ويرتاح من الألم الذي لم تنفع معه جرعات الكحول "في غياب مستشفى، أو أي نوع من الأدوية في القرية". وبعد تجربة عدّة أشياء، لم تنجح سوى هراوته في إفقاده الوعي، في مشهد ساخر، يحيل على أبعاد متعدّدة، من قبيل "لا يفلّ الحديد إلا الحديد"، يحاول عبرها المخرج تلمّس خيوط علاقة شائكة تحيل على زمن لم ينته، على الرغم من حرص المخرج على تأطير فيلمه في زمن بعيد عائد إلى "سنوات الرصاص". فهل فعلاً لا ينفع مع العنف إلّا العنف؟ هل ينجح عنف الاحتجاج في لجم عنف الدولة، أو ينجحُ عنف الدولة في إطفاء عنف المحتجّين في المغرب؟
يذهب الوزراء، وسياسة الوزارة تبقى
ذهب البصري، وبقيت وزارته على عادتها القديمة في الضّبط الصارم لكل "شاذة". هكذا تصبح وزارة الداخلية في المغرب، بعبعاً غير قابل للانهزام. يذهب الوزراء، وتبقى الوزارة علامة فارقة، بالسّياسة نفسها، والعقلية ذاتها، على الرغم من تغير الظروف والزمن. صحيح أن العنف أصبح أقل حدّة، لكنه موجود ويمتد في أشكال جديدة. فقد اختير أن يكون الظهور الأول لوزير الداخلية من مدينة الحُسيمة (مدينة مغربية ساحلية وعاصمة إقليم يحمل الاسم نفسه، تقع في منتصف الشريط الساحلي على البحر المتوسط، وهي من أهم حواضر منطقة الريف الكبرى). هناك تشتد الحاجة إلى حضور الوزارة مادياً ومعنوياً لمواجهة الاحتجاجات المشتعلة في المدينة منذ واقعة مقتل محسن فكري سحقاً بشاحنة نفايات بعدما رمت الشرطة بأسماكه فيها.. ومن هناك وجه الوزير خطاباً قوي اللهجة للمحتجين، وما ذلك إلا استمرار للنّهج الأمني المتشدد.
فقد نقل بلاغ صادر عن وزارته قوله إن "الأهداف المشبوهة" لحراك الريف ("الريف" هو منطقة في شمال المغرب تمتلك تاريخياً خصوصيات لغوية وثقافية، وكان رمزها عبد الكريم الخطابي في فترة النضال من أجل استقلال المغرب عن الاستعمارين الإسباني والفرنسي) "لم يتم الاكتفاء بالتخطيط لها على مستوى الميدان، بل يتم التأطير لها سياسياً عبر التّرويج لعدد من الشعارات السياسية المتطرفة، ولخطاب الكراهية ضد المؤسسات، في مسعى خائب لكسب سند شعبي مفقود، أمام ساكنة مفعمة بالوطنية، ما فتئت تعبر عن تشبثها بأهداب العرش العلوي المجيد على مر تاريخ الدولة المغربية". وفي هذه الفقرة تبرز تهمتا التّخوين والبلطجة التي أُلصقت بالحراك السلمي، والتي قد تجد تبريراً لها في التجاوزات الخطابية لبعض قياداته. لكن الوزارة تقوم باتهام كل محتج بزعزعة أمن البلاد، وتحيله إلى أنه ليس موجهاً ضد مصالح معينة أو جهة إدارية في الدولة، بل ضد الملك نفسه. وهي إستراتجية قديمة تهدف إلى سحب الشّرعية من أي حراك شعبي، عبر جعله في مواجهة "مقدسات" الدولة وثوابتها الوطنية: "الإسلام، الملكية، الوحدة الترابية، الخيار الديمقراطي".
ووصف بلاغ الوزير الاحتجاج بالتصرّف اليائس: "هذه الخطابات والتصرفات اليائسة التي يلجأ إليها البعض"، وأكد على استمرار الدولة في نهجها المعتاد، ما يؤشر إلى عدم محاولة تحقيق ولو جزء من مطالب المحتجّين. ويبقى الوضع على ما هو عليه، على عادة الدولة في عدم دخول أي نوع من أنواع الحوار في حالات الاحتجاج لقطاعات مختلفة، إلا في حالات نادرة، وفقط بعد تّصعيد كبير، ووصول الأمور إلى حد ينذر بالخطر. آنذاك، ترضخ لمطلب الحوار، وتحاول احتواء الاحتجاج بتنفيذ جزء من مطالب المحتجين ولو إلى حين..
يبقى الوضع على ما هو عليه، على عادة الدولة في عدم دخول أي نوع من أنواع الحوار في حالات الاحتجاج لقطاعات مختلفة، إلا في حالات نادرة، وفقط بعد تّصعيد كبير، ووصول الأمور إلى حد ينذر بالخطر. آنذاك، ترضخ لمطلب الحوار، وتحاول احتواء الاحتجاج بتنفيذ جزء من مطالب المحتجين ولو إلى حين
إلّا إذا كان المتظاهرون أشدّ إصراراً على مطالبهم. حينها تلجأ الدولة إلى الاستجابة بشكل جزئي إلى المطالب، مثلما حدث هذا الأسبوع في الحُسيمة بعد أن فشلت مقاربة التخويف التي انتهجت عبر إرسال تعزيزات هائلة من قوات الأمن ومكافحة الشّغب إلى المدينة، وتوقيع أحزاب الحكومة لبلاغ ضد الحراك يشكل غطاء ملائماً لاستخدام العنف. فقط حينها، وبعد نجاح المظاهرة التي دعا إليها قادة الحراك، غيّرت الدولة مقاربتها، وبدأت يإرسال وزراء يجوبون شوارع المدينة، بدعوى الحوار المباشر مع المواطنين (لتفادي التّعامل مع قادة الحراك!). وأُعلن عن توفير أكبر عدد من الوظائف العمومية في تاريخ المدينة (أكثر من 900 وظيفة). وقد لعب نجاح الحراك مرة أخرى في تأمين سلمية المظاهرات، وتخفيف حدة الخطاب في الوصول إلى هذه النتيجة.
أيها الأوباش ادخلوا بيوتكم
المحتجون في الحُسيمة يسترجعون تاريخاً أسود مع السلطة، حين نعتهم الملك الحسن الثاني بـ"الأوباش"، لأنهم لم يكونوا على وفاق معه منذ أن قمع سنة 1958 انتفاضتهم بشكل عنيف لم يسبق له مثيل في مغرب ما بعد الاستقلال. تلك الانتفاضة التي تسببت بها عدة عوامل، منها عدم الرضا على الاستقلال المنقوص، والقبضة الحديدية للملك على البلاد، وسيطرة "حزب الاستقلال"، القوة الحزبية المهيمنة آنذاك، على مقاليد الشأن المحلي. أبناء "الريف" لم يتقبلوا آنذاك السيطرة الفاسية (نسبة إلى مدينة فاس التي كان حزب الاستقلال يضم نخبتها)، خاصة أن السّلطة الجديدة عملت على حلّ جيش التحرير، وتصفية بعض كوادره، وعلى اختطاف وتعذيب المعارضين وتحديداً المتعاطفين مع محمد بن عبد الكريم الخطابي والمرتبطين بأفكاره. وتم تعيين موظفين من خارج "الريف" لتولّي المهام الإدارية والأمنية والقضائية، استتبعه تهميش الثقافة المحلية، وعادات المنطقة وتقاليدها، وإقصاء للرّيفيين من المشاركة في تسيير شؤون منطقتهم، ومن المساهمة في حكم البلاد، فلم يُشرك أي مواطن من الريف في مختلف الحكومات التي تشكلت خلال سنوات 1955- 1958.. كما أنّ الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية كانت متردّية، لحرمان المنطقة من الاستفادة من برامج التنمية الاقتصادية ومن بناء المراكز الاجتماعية، ومن توفير البنى التحتية.
وبشأن تلك الانتفاضة، يقول زعيمها، محمد الحاج سلام أمزيان "لقد وجدنا أن كل الملابسات تدعونا إلى القيام بهذه الحركة لإنقاذ الوطن من الانهيار، وإلا فلن يرحمنا التاريخ والأجيال الصاعدة". اندلعت انتفاضة الريف يوم 7 تشرين الأول/ أكتوبر 1958 وانتهت يوم 13 آذار/ مارس 1959. وتمّ تقديم مطالبها ومن أهمها تشكيل حكومة شعبية ذات قاعدة عريضة، اختيار الموظفين المدنيين من السكان المحليين، إطلاق سراح جميع المعتقلين السياسيين، عودة محمد بن عبد الكريم الخطابي إلى المغرب، وضمان عدم الانتقام من المنتفضين، وإعادة هيكلة وزارة العدل، وإشراك الريفيين في الحكومة، تخفيض الضرائب، وبناء المدارس والثانويات. إنها مطالب قريبة في نوعيتها من التي يرفعها المحتجون حالياً، رغم اختلاف الزمن ومرور حوالي 60 سنة على الانتفاضة.
ما حدث هذا الأسبوع في "الحُسيمة"، بعد أن فشلت مقاربة التخويف التي انتهجت عبر إرسال تعزيزات هائلة من قوات الأمن ومكافحة الشّغب إلى المدينة، وتوقيع أحزاب الحكومة لبلاغ ضد الحراك يشكل غطاء ملائماً لاستخدام العنف..
وكانت تلك الانتفاضة في البداية عبارة عن عصيان مدني، فصعد الناس إلى الجبل ورفضوا العمل والتّعامل مع السلطة والإدارة. وعلى الرغم من بعض الاشتباكات المتفرقة هنا وهناك بين المنتفضين وقوات الأمن، غير أنّ نهج الانتفاضة ظل سلمياً. الفرق أن اللجنة الملكية الموفدة إلى الرّيف آنذاك، اعتبرت مطالب المحتجين عادلة، وطالبت بالتّدخل السريع لإنقاذ المنطقة من الفقر والحيف. لكن القصر والحكومة لم يستجيبا لتلك المطالب. وبدلاً من ذلك أرسل إليها أكثر من 20 ألف عسكري وعتاد حربي.
خلال شهر شباط/ فبراير 1959، وأمام المقاومة التي أبداها المنتفضون، شرعت الطائرات التي كان يقودها طيارون فرنسيون في قصف قرى الريف، ودام ذلك لمدة 10 أيام. بعد ذلك تمكنت القوات المسلحة من محاصرة المنطقة، وارتكبت أبشع الجرائم في حق المنتفضين وغيرهم من ممن كان حظهم سيئاً فوقعوا في قبضة قوات الأمن. ويذكر الأمير الخطابي في إحدى رسائله أن "عدد المعتقلين إبان انتفاضة الريف بلغ 8420 بينهم 110 امرأة، أطلق سراح 5431 منهم بينهم 95 امرأة، وحكم على 323، فيما ظل الآخرون، أي 2664، دون محاكمة ولا إطلاق سراح، وتمّ نفي 542 مواطناً...". بعد إخماد الانتفاضة، فرض على المنطقة طوقاً عسكرياً استمر عدة سنوات، وفرض عليها حصاراً اقتصادياً ما زالت آثاره قائمة إلى الآن.
من يستفزّ المحتجون؟
في الاحتجاج الحالي والمستمر منذ أشهر في الحسيمة، وقعت تجاوزات من قادته، رغم أن الحراك بقي سلمياً على الأرض. فناصر الزفزافي قائد الحراك، استعمل كلمات أثارت حفيظة الكثيرين وأساءت إلى الحراك. كلمات تحمل عنفاً كبيراً: "العلوج"، "لعنهم الله"... وعلى الرغم من فصاحته، وإلمامه بمطالب المحتجين بشكل يجعل منه شخصية قيادية بالفطرة، وعلى الرغم من الكتب الكثيرة التي تقف خلفه وهو يتكلم في فيديو عن مطالب المحتجين، والتي تشي بثقافة غير هيّنة، إلّا أن خطابه العنيف لم يخدم مصلحة الاحتجاج، ولم يخدمه هو كشخصية. ومن خلاله يمكن أن نعرف لماذا لم تتمكن الكثير من الشخصيات التي قادت الاحتجاجات في المغرب من البقاء في الضّوء ومن تشكيل نخب سياسية بديلة. خطاباته تنهل من الخطابات القوية لقادة الانتفاضة في 1958، لكن في ظروف مختلفة وبنبرة أشد عنفاً، وأكثر تأثراً بالمحيط الإقليمي وثوراته. فهو مثلاً يكتب في صفحته الفيسبوكية رداً على تدخل عنيف لقوّات الأمن: "الدولة المغربية الإرهابية القمعية الوحشية"، "الدولة المغربية الديكتاتورية"، وفي منشور آخر "إنّ الريف العظيم، للأحرار والحرائر ولأحفاد الصنديد مولاي موحند وليس لشبيحة الأسد".
وبالمقابل، لم يلقَ القبض على الزفزافي على الرغم من عنف خطابه، لتفادي تفاقم الاحتجاجات وإثارة سخط غير المحتجين. وبدلاً من ذلك، كانت الدولة تقوم بعنف غير مباشر أحياناً لمحاصرة واحتواء الاحتجاجات بطرق ملتوية. فحين دعت قيادة الاحتجاج إلى الخروج إلى ساحة المدينة يوم 19 شباط/ فبراير بالتزامن مع ذكرى حركة "20 فبراير" (التي بدأت في 2011 بالتزامن مع حراكات تونس ومصر)، أسرعت السلطة الى إقامة معرض في الساحة بمشاركة جمعيات أهلية لأجل منع المحتجين من الوصول إليها بطريقة قانونية، رغم أن المعرض لم يكن مدرجاً في الأجندة الثقافية للمدينة بل أقيم في ليلة واحدة! وخاصة أن الدعوة إلى النزول كانت "تخليداً لذكرى شهداء 20 فبراير"، وهم الشباب الخمسة الذين احترقوا في وكالة بنكية، وتذهب عدة دلائل إلى أنهم عُذّبوا وقتلوا خارج الوكالة، ولم يكن الحريق إلا تغطية على ذلك...