في العام 1940، تبرّع زهدي أبو الجبين، أحد أثرياء يافا، بمبلغ كبير لتمويل مبنى مكوّن من سبعة طوابق أقيم بين بيارات البرتقال المحيطة بالرملة. المبنى الضخم ووفق ما قاله الحاج أمين الحسيني يوم الافتتاح سيخصّص لرعاية وتدريس أبناء المجاهدين الذين سقطوا في إضراب 36، وسيحمل اسم "ملجأ الرجاء".
أبو الجبين قدّم هذا التبرّع السخي جبّاً للعار الذي طال سمعته، والتفافاً على النبذ الذي قابلته به أسرته بعد أن علم أهالي يافا أنه باع أراضيه لليهود. لكن الفرصة لم تتح للمبنى أن يكون كما أراد الحاج أمين، فقد استولّت عليه الحكومة الإنجليزية فور إتمامه، لتتخذ منه مقراً ومركز تدريب لجيشها.
في العام 1947 أخلت القوات الإنجليزية ملجأ الرجاء وفقاً لخطة إعادة الانتشار الممهّدة للانسحاب الكلي، فاستولى عليه المقاوم حسن سلامة واتخذه مركزاً لقيادة القطاع الغربي من المنطقة الوسطى.
في صرفند العمار بدأ الجنود الإنجليز بالاستعداد للعودة إلى بلادهم.
جوازات الجنود الإنجليز تحمل أختام دخولهم لفلسطين، لكنهم لن يخرجوا منها، بل سيخرجون من بلد لم يدخلوه قط "إسرائيل".
الجندي الاسكتلندي جاك، قرّر أن يكون على النقيض مع كل عقل سلبي، قرر أن يرفض الخروج من بلد لم يدخلها، ففرّ إلى الرملة ليبقى مع أصحاب البلد التي دخلها.
أقام جاك في ملجأ الرجاء مع المجاهدين من أبناء البلاد، والمتطوّعين الألمان واليوغسلاف تحت إمرة حسن سلامة.
كثيراً ما حاول اليهود مهاجمة الملجأ، وكانت وسيلتهم الوحيدة للاقتراب هي المصفحات محلية الصنع.
وقد كانت المصفحات تلك شديدة الفاعلية في وقتها، وشكلت أحد أهم عوامل التفوق اليهودي.
في مثل هذه الأيام من العام 1948 تمكّن جاك وحيداً، ومتسلّحاً برشاش برن من قتل 6 مهاجمين وغنم أول مصفحة، سلّمت حينها إلى حِرفيي الخراطة والحدادة في اللد، والذين تمكّنوا بالفعل من تصفيح الشاحنات والجرارات العربية على النحو نفسه.
ولم تكن هذه المرة الوحيدة التي يغنم فيها جاك مصفحات وأسلحة من اليهود، فقد فعلها مرتين بعد ذلك.
ساد الاعتقاد أن اليهود قد يأسوا من إمكانية مهاجمة الملجأ. لكن جاك أقنع حسن سلامة أنهم لن يتعايشوا مع الملجأ لكونه يشرف على ثلاثة حصون مجاورة، وسيعيدون الكرة، لكن متسلّلين. ولذلك تجب إزالة بيارات البرتقال المحيطة بالملجأ.
اجتمع حسن سلامة مع أهل المدينة في الجامع الأبيض محاولاً إقناعهم بضرورة إزالة البيارات، لكن لم يوافق أحد على ذلك، معللين رفضهم بأنه لن يجرؤا على التسلل ليلاً إلى الملجأ.
بعد أسبوع، وفي 5 نيسان، تسلّلت مجموعة من المقاتلين اليهود محمّلين بكمية ضخمة من الألغام، وقاموا بتفخيخ الملجأ بعد أن ذبحوا الحراس وعلّقوا رؤوسهم على سور المبنى الخارجي.
تفجير الملجأ كان من القوة، بحيث حطّم جميع نوافذ بيوت الرملة، فخرج الجميع ليشاهدوا طوابق المبنى السبعة وقد تداعت فوق بعضها البعض. جاك أصيب بحالة هستيرية وشوهد هو ومتطوّع آخر، فوق ركام الطابق السابع، ممسكاً برشاش البرن، ويصرخ باكياً: كان عليكم السماح لنا بإزالة البيارات.
في 12 تموز 1948 وبعد سقوط القطاع الغربي من وسط البلاد، دخلت القوات اليهودية تتصدّرها عربة مصفحة ذات برج ومدفع من عيار رطلين، غنمها اليهود من الجيش الأردني، أسموها فيما بعد "أوم نمر" النمر المرعب. جالت "أوم نمر" شوارع الرملة متقدمةً القوات اليهودية ومطلقةً نيرانها في كل الاتجاهات لتثير الرعب في نفوس من تبقى في المدينة.
أُسر جاك مع الرجال الذين تبقوا في المدينة، ونقل مع الشباب العرب من اللد والرملة إلى معسكر لتجميع الأسرى في عتليت.
احتجز الأسرى في عتليت داخل حظائر وأقفاص، ولم يقدم لهم الماء والطعام لمدة ثلاثة أيام، وفي اليوم الرابع فتحت إدارة السجن الماء عبر القنوات المخصصة لشرب الحيوانات. الجنود اليهود المنتشرون خلف الأسرى قاموا بضرب كل الذين امتنعوا عن شرب الماء، وكان جاك من بين الممتنعين، ومع مناشدة أصدقائه العرب له بأن يشرب كباقي الأسرى انكشفت هويته أمام الجنود.
سجن عتليت كان آخر محطة لجاك مع الفلسطينيين، فقد نقل ثانيةً إلى سجن صرفند للتحقيق معه والتأكد من كونه الشخص الذي أُدرج اسمه في قائمة المطلوبين.
قيل فيما بعد أنه سلم إلى الإنجليز في مفاوضات الهدنة في رودس سنة 1949.
لم أوفق في كل محاولاتي لتعقب المحطات التي تلت رودس من حياة جاك، رغم أنه لم يسبق أن تاقت نفسي لمعرفة مصير أحد على هذا النحو. لقد أفلتَ مني جاك، بعد أن أفلت من الجيش، ومن الإمبراطورية، بل وحتى من نفسه، فقد كان جاك إفلاتاً بحتاً.
لقد أفلت مني جاك قبل أن أعرف بأي لغة تكلّم مع نفسه لما حيل بينه وبين رغبته الدائمة بالإفلات؟
كأني به عائد إلى بلاده يتجاوز البلاد التي أحب، يناجي نفسه:
"إذا حيل بين المرء وبين أن يبذل حبه، فلا أحرى من ثمالة لا تعقبها إفاقة".
سيصفه بنو قومه بأنه كان عاطفياً حد التطرف، تعوزه الحصانة الثقافية. وسيصفه زملاؤه الجنود بأنه ميّال للإفلات، غير منضبط. وسيأخذ عليه الفلسطينيون ولعه الشديد بالخمر. لكن لن يستطيع أحد وصفه بالرديء. فقد امتلك مقلتي نسر، وساقَي فهد، وذراعين صلبين بما يكفي لحمل رشاش برن.
من صفحة اسماعيل أبو شميس على فايسبوك