بدأ مشروع سحق العراقي من محاولة شل ذاكرته التاريخية العامة، حرق كل ما يربطه بالماضي:
مكتبات، متاحف، آثار.. أي فقدان تسلسل الأحداث كي يضيع، والتسلسل حيوي لبقاء الإنسان يقظاً في الحاضر.
وبعد فقدان التسلسل تم تصنيع ذاكرة جديدة مشوهة: حرائق، قتل، انفجارات، صراعات مسلحة تتناسل، نهب ثروات... وعندما يُحشر أي إنسان في العالم تحت عنف مستمر وشرس ووجودي، يبدأ العقل يدور في حلقة مفرغة، وتشتغل دوامات الضياع. لكن شل الذاكرة وحده لا يكفي، لأن بقاء عناصر أخرى جوهرية قد تساعد على الثبات والتشبث والعودة إلى الاستمرارية والتواصل مع الجذور. لذلك يجب زعزعة كل الثوابت التي ترتكز عليها الشخصية الإنسانية، وفي هذه الحالة يجب زعزعة الأرض التي يمشي عليها، والأرض والذاكرة كعضوين في الجسد، بل إن عناصر الجسد العضوية هي نفسها عناصر الأرض، كيميائياً، لذلك قيل له عبر تلقين متواصل إن العراق ليس بلداً قديماً، العراق بلد مركب ومصنّع أوائل القرن العشرين بموجب وفاق دولي، وان كل التاريخ القديم غير حقيقي ومتخيل، أي انك أيها العراقي مخلوق غلط ترتبط بتاريخ غلط، وعليه يجب تصحيح التاريخ وتقسيم البلاد.
بعد أن تتم زعزعة الأرض تحته والتشكيك بها، تبدأ عملية أخرى في السياق نفسه:
قيل له إن العراق ليس وطناً، بل تجمع لَقالق، أو مهاجرين من بدو وفرس وهنود وأتراك، وعليه فإن مفهوم السلالة والعرق والأصالة أكذوبة كالأرض والتاريخ والذاكرة (...)
هذا التدمير الممنهج والمنظم منذ عام 2003 كي لا نذهب لسنوات الحصار، وهي حلقة مفصلية في مسلسل محو العراق، من المستحيل كسر حلقاته من داخله، من داخل العملية السياسية التي تم تصنيعها وتركيبها من أجل صيانة هذا المشروع، والبحث في داخلها عن حل، مثل من يبحث عن مخرج طوارئ في نفق مغلق.
لكن" الخيار الثالث" الآتي من خارج هذا المشروع، من خارج هذا الصندوق السياسي المغلق، من خارج هذه الدوامة، هو الذي كسر بعض حلقات مشروع المحو الجذري، مع بقايا ثقافة حديثة حية ويقظة تتنامى وتتسع كل يوم، تقاوم في مناخ صاخب من الدوي والردح والضجيج والغبار كي يتشابه البقر..
من صفحة حمزة الحسن من فايسبوك