تونس الخضراء، هل هي فعلاً كذلك؟

مقاربة للمسألة البيئية في تونس بعلاقتها بأنماط الإنتاج المعتمدة، شديدة التلويث، وبمسألة الأرض والزراعة المهملين، وبغياب الاهتمام بنتائج ذلك على الصحة وعلى توازن البنية الاجتماعية في البلاد.
2017-05-01

شارك
صلاح المرّ - السودان

يتندر بعض التونسيين فيقولون "لم يبقَ من اخضرار تونس إلا قوارير البيرة والنبيذ"، معبرين عن واقع تناقص المساحات الخضراء، وتفشي ظاهرة التصحر وتدهور الوضع البيئي بشكل عام في تونس. قد يكون في الأمر بعض المبالغة، لكن العديد من المؤشرات والأرقام تؤكد أن "صَحة" تونس ليست بخير، وأن الأمور قد تتفاقم في السنوات القادمة إذا لم توضع استراتيجية بيئية حقيقية وفعالة.
هناك بالطبع عوامل خارجة عن نطاق الدولة التونسية وترتبط بسياق كوني (الاحتباس الحراري وارتفاع نسب التلوث في العالم..) لكن هناك أيضاً عوامل داخلية ناتجة عن السياسات المحلية المتبعة منذ الاستقلال إلى اليوم. وبما أن الأمر يهم كل المواطنين، فيًفترض أن يكون هناك دور للأحزاب السياسية ومكونات المجتمع المدني في المسألة. حرية التعبير والحق في التنظم والاحتجاج، كلها أعطت الدفع اللازم لعدة مناطق في تونس (خصوصاً الأكثر تضرراً من التلوث) لتخرج عن صمتها وتطالب برفع الظلم البيئي المسلّط عليها منذ عقود.
 

I    ــ سياسات الدولة التونسية في ملف البيئة
 

تقرير "منظمة الصحة العالمية" الصادر في أيار/مايو 2016 يُدرِج أربع مدن تونسية في ترتيب المدن الأكثر عرضة للتلوث في العالم: تونس العاصمة وسوسة وصفاقس وبنزرت. التقارير الحكومية تتحدث عن العجز المائي وخطر التصحر الذي ما انفك يتعاظم في تونس.
فما هي سياسات الدولة التونسية في مجال البيئة منذ الاستقلال إلى اليوم؟

•    من 1956 إلى 1987
من العبث البحث عن سياسات بيئية خلال تلك الفترة. فالمسألة من جهة لم تكن مطروحة حتى في بلدان "العالم المتقدم"، وكان من جهة أخرى للدولة المستقلة حديثاً أولويات أخرى: بناء اقتصاد وطني بما يتطلبه ذلك من تركيز لأقطاب صناعية، وعصرنة الفلاحة، واستغلال الموارد الطبيعية المنجمية والطاقية. كل هذا جعل الدولة تنتهج سياسات اقتصادية وتنموية ملوِّثة للبيئة بل وحتى مدمرة لها:
- صناعات ملوِّثة (جزء منها موروث من فترة الاستعمار الفرنسي): الإسمنت، الفولاذ، صناعات كيميائية قائمة على تكرير الفوسفات، كما هو الحال في مثلث صفاقس ــ قفصة ــ قابس. لم تكن أغلب المصانع تولي أهمية لمسألة إجراءات السلامة البيئية، والكثير منها كان يتخلص من فضلاته الملوثة وحتى المشعة في الأراضي المجاورة أو في البحر مباشرة، مما يؤثر سلباً على الثروة السمكية والمائدة المائية. مناجم الفوسفات في الجنوب ومناجم الحديد في الشمال تعمل هي أيضاً بطرق مدمِّرة للبيئة. أما بالنسبة لحقول الغاز والنفط، فلا معلومات متوفرة عنها وعن نشاطاتها وتأثيرها على البيئة، لأن كل ما يتعلق بها غامض وسري إلى حدود اليوم.
 

اختلال التنمية بين مناطق البلاد جعل مئات الآلاف من سكان المناطق الداخلية ينزحون باتجاه مدن الشريط الساحلي للعمل في المصانع والأسواق وورشات البناء. هذا التركز السكاني في المدن الساحلية خلق أزمة مزدوجة: بقيت آلاف الأراضي الفلاحية مهملة في المناطق الداخلية، في حين تكتظ المدن الكبرى بالسكان
 

- في مجال الفلاحة: انتهجت الدولة سياسة الاستعمال المفرط للأسمدة الصناعية والمبيدات الحشرية لزيادة الإنتاج، لتغطية الحاجيات المحلية أولاً ولزيادة حجم الصادرات وتعديل ميزان المبادلات التجارية مع الخارج ثانياً. كما أن إعطاء الأولوية للزراعات السقوية استنزف الموارد المائية بشكل كبير.
- عدم توفير الحراسة ومعدات الحماية والتدخل اللازمة للحفاظ على الغابات والأحراش، مما يجعل مساحات كبيرة تُهدر كل سنة نتيجة الحرائق والاحتطاب غير القانوني.
- المراهنة على السياحة الشاطئية الرخيصة لجلب السياح من الدول الأوروبية. الكثير من الفنادق شيد على أراضٍ فلاحية، كما أنها تستهلك كميات مياه مهولة. النمو السريع لقطاع السياحة جذب العديد من صغار المزارعين في المناطق الفلاحية المجاورة، وجعلهم يتركون أراضيهم ضعيفة المردودية للعمل في قطاع الخدمات.
- اختلال التنمية بين مناطق البلاد جعل مئات الآلاف من سكان المناطق الداخلية ينزحون باتجاه مدن الشريط الساحلي للعمل في المصانع والأسواق وورشات البناء. هذا التركز السكاني في المدن الساحلية خلق أزمة مزدوجة: بقيت آلاف الأراضي الفلاحية مهملة في المناطق الداخلية، في حين تكتظ المدن الكبرى بالسكان وتعيش أزمات سكن وسير وتلوث عالية، خصوصاً مع تناقص المناطق الخضراء التي أصبحت أحياء سكنية بسبب الضغط الديمغرافي.

•    من 1987 إلى 2011
مع تغير رأس النظام (انقلاب بن علي على بورقيبة)، حصلت أيضاً تغييرات على المستوى الاقتصادي وسياسات الدولة بصفة عامة. ومنذ بداية تسعينات القرن الماضي، راحت تتشكّل ملامح سياسة بيئية حكومية:
- على مستوى المؤسسات، إحدثت "الوكالة الوطنية لحماية المحيط" سنة 1988، ووزارة خاصة بالبيئة سنة 1991، و"وكالة حماية وتهيئة الشريط الساحلي" سنة 1995، و"المركز الدولي لتكنولوجيا البيئة بتونس" سنة 1996، و"الوكالة التونسية للطاقات المتجددة" سنة 2000، و"إدارة النفايات" سنة 2005.
- على مستوى القوانين والتشريعات: تمّ "تعزيز الإطار التشريعي والتنظيمي بمجموعة من النصوص في مجال حماية البيئة ومقاومة التلوث . كما وقعت تونس على اتفاقية كيوتو الدولية سنة 1997.
- على مستوى البرامج الخاصة: أقرت الدولة سنة 1994 برنامج "اليد الصفراء" للتصدي للتصحر وذلك عبر مقاومة زحف الرمال والانجراف المائي وتهيئة المراعي. تمّ أيضاً تركيز وحدات بحث واستغلال في مجال الطاقات المتجددة كالطاقة الشمسية وطاقة الرياح، كما شجعت الدولة القطاع الخاص على الاستثمار في هذا المجال.
هذا الاهتمام بالجانب البيئي من طرف نظام بن علي يمكن رده إلى ثلاثة أسباب رئيسية:
- استشعار مخاطر تدهور الوضع البيئي، وخصوصاً أن هناك وعياً عالمياً بالمسألة بدأ في البروز منذ ثمانينات القرن العشرين.
- رغبة السلطة في إبراز انخراطها في السياق العالمي، خصوصاً بعد الانضمام إلى منظمة التجارة العالمية سنة 1994 وعقد اتفاقية شراكة مع الاتحاد الأوروبي سنة 1995.
- اعتبار السياسة البيئية جزءاً من استراتيجية تلميع صورة النظام في الخارج وتسويقه كنظام عصري ومسؤول، للتغطية على الجوانب المظلمة (القمع، الفساد).
 

الفساد أيضاً قلل من مردودية الإصلاحات، فكثير من الأراضي الفلاحية غُيِّرت صفتها إلى سكنية من طرف مقربين للنظام، والكثير من المخالفات البيئية تمر من دون محاسبة إما لأن مرتكبيها يدفعون رشى أو لغياب السلطات الرقابية أصلاً
 

 إلا أن نجاح السياسة البيئية لم يكن كبيراً. فقد ازدادت حدة التلوث والتغيرات المناخية في العالم من جهة، ومن جهة أخرى لم تصاحب هذه الإصلاحات البيئية إصلاحات عميقة في نمط الإنتاج والتنمية، مما جعل تأثيرها محدوداً. كما أنه جرى التركيز على الجانب الاستعراضي عوضاً عن الفعالية. الفساد أيضاً قلل من مردودية الإصلاحات، فكثير من الأراضي الفلاحية غُيِّرت صفتها إلى سكنية من طرف مقربين للنظام، والكثير من المخالفات البيئية تمر من دون محاسبة إما لأن مرتكبيها يدفعون رشى أو لغياب السلطات الرقابية أصلاً. لكن على الرغم من كل شيء، فهذه الفترة شكلت نقلة كبيرة من التدمير الشامل إلى الإصلاح الجزئي.

•    "ما بعد الثورة"
لا يمكن تقديم تقييم حقيقي للسياسة البيئية للدولة التونسية بعد الانتفاضة، فلقد تعاقبت عشر حكومات على قيادة البلاد في أقل من ست سنوات، أي بمعدل حكومة كل ستة أشهر تقريباً. أسوأ ما حصل أنه تعطلت الإصلاحات الجزئية البيئية التي بدأت في عهد الرئيس الأسبق بن علي، وعاد الملف إلى هامش الهامش. وزارة البيئة أصبحت في معظم الأحيان حقيبة ترضية تُعطى للأحزاب الصغيرة المتحالفة مع الأحزاب الكبيرة الحاكمة. لكن هناك "إنجازان" كبيران تحققا خلال هذه الفترة: التوقيع على اتفاقية باريس للمناخ في نيسان/ابريل 2016 والقرار الثوري الذي اتخذته وزارة البيئة بمنع توزيع واستعمال الأكياس البلاستيكية (المجانية) في الفضاءات التجارية، واستبدالها بأكياس بلاستيكية من نوع آخر (وبمقابل مرتفع!).

II ــ ماذا عن الأحزاب والجمعيات؟

الشأن البيئي ليس مسؤولية الحكومات فقط، بل يفترض أنه قضية مواطنية مصيرية تهم الجميع، فكل النظريات والبرامج لن يكون لها أي جدوى عندما تصبح حياة البشر أصلاً في خطر بسبب التلوث والاحتباس الحراري وشح الموارد الطبيعية.

•    البيئة في برامج الأحزاب
بما أن تونس تعد - اللهم لا حسد - أكثر من مئة حزب، فمن الصعب التحدث عنها جميعاً. على أنه هناك أربعة أحزاب هي الأكبر حسب نتائج الانتخابات التشريعية التي جرت أواخر 2014.
- حزب نداء تونس: حصل على 86 مقعداً محتلاً المرتبة الأولى. في البرنامج الانتخابي المكون من أربعة أبواب، خصص الباب الثالث لتنمية الفلاحة والموارد الطبيعية. النقطة الثالثة من هذا الباب (قرابة الصفحة ونصف من جملة 64 صفحة) تتحدث عن إجراءات من نوع "تعميم تقنيات الاقتصاد في الماء"، "تطوير برامج لمقاومة التصحر والمحافظة على المياه والتربة"، "تنمية الغطاء الغابي ومساحات المراعي"، "تقليص الصيد العشوائي" و"ضمان الراحة البيولوجية لتجديد الثروة السمكية". كلام عام جداً يبدو أنه كتب فقط لإثبات شمولية البرنامج الانتخابي وتطرّقه لكل المسائل، فهذا الحزب يسيطر على الرئاسات الثلاث ويحكم البلاد منذ سنتين ونصف.. ولا جديد في ملف البيئة.
- حركة النهضة: هذا الحزب الإسلامي حصل على المرتبة الثانية 69 مقعداً وقرر الدخول في تحالف مع الحزب الأول على الرغم من الاستقطاب الحاد الذي ساد بينهما في فترة ما قبل الانتخابات. قدمت الحركة برنامجاً انتخابياً من 50 صفحة، منها صفحتان مخصصتان بطريقة مباشرة أو غير مباشرة للبيئة. نجد هذه الصفحات في الباب الأول "المجال الاقتصادي والاجتماعي" وتحديداً النقطة السابعة "تأمين مستقبل الأجيال الجديدة". يتحدث البرنامج البيئي عن تحفيز البحث والتطوير والاستثمار الوطني والأجنبي في مجال الطاقات المتجددة، و"تكثيف استعمال المياه المعالجة طبقاً للمعايير البيئية"، و"التركيز على إدماج الشواغل البيئية في الفلاحة والطاقة والنقل وكل القطاعات الأخرى"، و"دعم الاقتصاد الأخضر"، و"تشجيع البحث العلمي والتجديد في مجال تكنولوجيا البيئة".. والاقتراحات جيدة في المجمل لكن الحركة في سدة الحكم منذ أواخر 2011، ولم تقدم شيئاً للبيئة.
- الاتحاد الوطني الحر: حصل على 16مقعداً في البرلمان. هذا الحزب الذي أسسه ملياردير تونسي شاب كان على علاقة وثيقة بالنظام الليبي، يُعرّف نفسه في الموقع الالكتروني الخاص به على أساس أنه "تقدمي براغماتي يحترم ويدافع عن الهوية العربية الإسلامية وحقوق الإنسان، ويسعى إلى تكريس مبادئ الوسطية من خلال محاربة الفوارق الطبقية". لم نجد أثراً للشأن البيئي على موقع الحزب، كما إننا لم نجد أثراً لبرنامجه الانتخابي.
- الجبهة الشعبية: ائتلاف مكوّن من أحزاب يسارية وعروبية حصل على 15مقعداً. في البرنامج الانتخابي باب الاقتصاد، خصصت النقطة الخامسة والأخيرة للـ"محافظة على المحيط" (صفحة تقريباً من جملة ثلاثين). في مجال الطاقة، تقترح الجبهة "وضع خطط وبرامج لاستغلال الطاقات البديلة والطاقات المتجددة"، و"تشجيع النقل الجماعي". أما بالنسبة للمياه فالاقتراحات تتمحور حول "مقاومة التلوث والاستغلال المجحف"، و"تعميم إعادة استعمال المياه المستعملة والمعالجة في مجالات لا تضر بالصحة". البرنامج البيئي للجبهة الشعبية هزيل ولا يختلف في سطحيته عن بقية الأحزاب، وهو ما يدفع للتساؤل عن جدوى وجود حزب بيئي ("حزب تونس الخضراء") ضمن مكونات هذا الائتلاف.

•    مئات الجمعيات البيئية ولكن..
لا يوجد إحصاء رسمي لعدد الجمعيات المهتمة بالبيئة، لكن الأكيد أن عددها تجاوز المئتين. يبدو الرقم كبيراً ومشجعاً، وقد يذهب الظن بالبعض إلى أن التونسي "أخضر" بطبعه، لكن الحقيقة غير ذلك، فأغلب هذه الجمعيات تشبه الأشباح وليس هناك دليل ملموس على وجودها. العمل البيئي الجمعياتي يعاني صعوبات جمّة وذلك لعدة أسباب:
- ضعف التمويل: بطبيعة الحال، هي "جمعيات غير ربحية"، مما يعني أن مواردها تتأتى أساساً من التبرعات والدعم العمومي وأحياناً التمويل الأجنبي.
- الإشعاع المحدود: على الرغم من وجود آلاف الجمعيات عموماً، وعلى الرغم من توفر مناخ حريات مشجع، فإن التونسي بصفة عامة لا يُقبل على العمل الجماعي ويفضل الفرجة من بعيد. الجمعيات البيئية ليست لها شعبية تُذكر وعادة لا تلقى اهتماماً إلا لدى قلة قليلة من "النخبة"، مما يحرمها من رصيد بشري فعّال ويجعلها غير قادرة على التأثير في الرأي العام. يضاف إلى هذا غياب شبه كلي للتغطية الإعلامية (التقليدية والوسائط الاجتماعية) للأنشطة والقضايا البيئية باعتبارها مواضيع مملة ولا تجلب "الزبائن".
- غياب النظرة الشاملة والتنسيق: يفترض أن المشاكل البيئية التي تعاني منها تونس هي نتاج لسياسات اقتصادية وتنموية محلية ودولية، وأنه لا يمكن حلها إلا في إطار شامل يتعلق بالصناعة والطاقة والفلاحة والصحة وغيرها من المجالات. أغلب الجمعيات تفضل التخصص في مشكلة معينة وتتعامل معها كأنها ظاهرة فريدة ومنعزلة. الفصل بين العمل الجمعياتي والسياسي هو أمر "مريح"، فهناك مسؤوليات يجب تحميلها واقتراحات لا يمكن تنفيذها إلا عبر الضغط على من هم في سدة الحكم. غياب التنسيق بين الجمعيات البيئية فيما بينها ومع الأحزاب لا يمكّنها من أن تصبح قوة ضغط وتأثير.

فتاتان من تونس تحتجان على تلوث البحر (من الانترنت)

حراك بيئي

تملمُل العديد من التونسيين من الأوضاع البيئية في البلاد لا يعود إلى الأمس لكنه لم يرتق إلى درجة التعبير الصريح والتحرك من أجل تغيير الأوضاع، فنظام الخوف الذي خنق تونس عقوداً لم يكن يقبل بأي انتقاد حتى لو تعلق الأمر بحاوية نفايات في الطريق العام. ومع تغيّر الأوضاع في بداية 2011 أحس الكثيرون أن الوقت قد حان لكي ترفع عنهم المظالم البيئية. لا مجال للحديث عن ثورة بيئية، لكن هناك مؤشرات على أن مسألة البيئة أصبحت أولوية في عدة مناطق. وهذه أمثلة عن تحركات شهدتها وتشهدها بضع مناطق تونسية في السنوات الأخيرة.
- جزيرة جربة (جنوب البلاد): جزيرة الأحلام كما يسميها التونسيون، هي وجهة سياحية عالمية كانت إلى وقت قريب قبلة للأثرياء ونجوم الفن والرياضة العالميين. تعاني جربة من أزمة تكدس النفايات وعجز السلطات المحلية عن التصرف بها: تَجمع البلدية النفايات وتتخلص منها في مصب قريب جداً من المنطقة السياحية "قلالة"، مما يمثل خطراً حقيقياً على صحة الأهالي فضلاً عن الروائح الكريهة التي لا تطاق. تحرك المواطنون منذ عدة سنوات لوضع حد لهذه الأزمة التي تضر بالجزيرة صحياً، وحتى اقتصادياً باعتبار السياحة مورد الرزق الأساسي. تراوحت الاحتجاجات ما بين المظاهرات والاعتصامات السلمية أمام المقار الحكومية مروراً بصدامات عنيفة مع قوات البوليس في تشرين الأول /أكتوبر 2012 (استخدم فيها الرصاص لتفريق المتظاهرين)، وصولاً إلى إعلان الإضراب العام مرتين في تموز/ يوليو وأيلول/ سبتمبر 2014. الحكومات المتعاقبة اعتمدت المراوحة بين القمع والوعود، ولم تتحرك فعلياً إلا عندما تناقلت وسائل إعلام محلية ودولية صوراً لسياح أجانب يجمعون النفايات في جربة. عندها أحست بالإحراج واستنبطت حلاً عبقرياً، فكلفت شركة بتعليب النفايات في شكل مكعبات وتركها في المصب دون التصرف فيها. واليوم تكتظ الجزيرة بآلاف مكعبات النفايات المعلبة التي تنتظر حلاً عبقرياً آخر!

 

هناك عائقان أمام تطور الحراك البيئي في تونس. الأول يتعلق بكون هذه التحركات حافظت على طابع "جهوي" ولم تسع إلى بناء أفق وطني وشامل للمسألة البيئية. أما الثاني فيرتبط بالمزاج العام الذي لم يعِ جيداً حتى الآن أهمية وحيوية ملف يعتبره الكثيرون "ترفاً" مقارنة بقضايا "مصيرية" كالهوية والعلمانية والشريعة!

- صفاقس (وسط البلاد): تعتبر العاصمة الثانية للبلاد. تتميّز هذه المحافظة بأهمية النشاط الصناعي والتجاري بالإضافة إلى كونها قطباً جامعياً واستشفائياً. ولكنها أيضاً أكثر المدن التونسية تلوثاً نظراً لكثرة المصانع وزحمة السير والضغط الديمغرافي. محافظة صفاقس لها أطول شريط ساحلي في البلاد (أكثر من مئتي كيلومتر)، لكن سكانها عندما يرغبون في السباحة يتجهون إلى محافظات أخرى لأن مياه البحر والشواطئ ملوثة الى درجة مرعبة. بليت المدينة منذ خمسينيات القرن الماضي بمصانع تكرير الفوسفات وإنتاج المواد الكيميائية. وهي تنتج أكواماً من الفضلات المشعة المتراكمة في الأراضي المحاذية وتلقي فضلاتها في البحر، مخربة الثروة السمكية وحارمة الأهالي من الشاطئ. ارتفاع نسب الإصابة بمرض السرطان وبالأمراض التنفسية، بالإضافة إلى انعدام المناطق الخضراء وإفساد الشواطئ جعل قضية البيئة الشغل الشاغل للمدينة. التحرك البيئي في صفاقس هو الأقوى حالياً في البلاد، فهو يحظى بإجماع الأهالي بالإضافة إلى إسناد كبير من طرف منظمات المجتمع المدني التي تُشرف على حملة "تخنقنا". لم تأخذ الاحتجاجات طابعاً عنيفاً، فالمدينة تتمتع بوزن ديمغرافي واقتصادي وسياسي في البلاد وكان لها دور مهم في إسقاط بن علي (مظاهرة 12 كانون الثاني/ يناير 2012). المفاوضات ما زالت مستمرة مع السلطات المحلية والمركزية، ويبدو أن هناك "وعوداً جدية" بوضع خطة شاملة لمقاومة التلوث في المدينة.

 - قابس (جنوب البلاد): هذه المدينة الجنوبية حبتها الطبيعة بجمال فريد. فهي واحة نخيل تطلّ على البحر. لكن دولة الاستقلال قررت أن تشوّه هذا الجمال بمشروع يعتبر جريمة بيئية كاملة الأركان، وذلك عبر إنشاء مجمع كيميائي في أوائل سبعينيات القرن العشرين. هذا المجمع شغل بضع مئات من الأشخاص وقضى تدريجياً على آلاف مَواطن الشغل في مدينة كانت تعتمد أساساً على الفلاحة (تمور ورمان) والصيد البحري. مداخن المجمع الكيميائي تتصاعد منها أبخرة كريهة الرائحة تصنع سحابة من التلوث تصيب الآلاف بأمراض تنفسية وبالسرطان. التلوث دمر واحات النخيل وأثّر بشكل كبير على كمية ونوعية الثروة السمكية في سواحل المدينة. بعد الثورة، استبشر أهالي قابس خيراً، خصوصاً بعد فوز حركة النهضة في الانتخابات فأصول جزء كبير من زعامات الحزب الإسلامي ترجع الى المدينة. لكن الأقربين لم يكونوا أفضل من الأبعدين والحكام الجدد لم يقدموا غير الوعود.

المجارير تصب في مجرى نهر مياه في تونس الولاية (من الانترنت)

 

نتيجة لخيبة الأمل، تكثفت الاحتجاجات السلمية والمواجهات العنيفة مع السلطات بهدف وضع حد للتدهور البيئي والاقتصادي الذي يقتل المدينة وسكانها. تمّ تنظيم عدة حملات كحملة "نحب نعيش" (أريد أن أحيا) و"لا للإرهاب البيئي" وغيرها، التي تحاول الضغط على الحكومات المتعاقبة. ما زالت الأمور على حالها لكن عود الحركة البيئية في المدينة ما انفك يتصلّب.. هناك عائقان أمام تطور الحراك البيئي في تونس. الأول يتعلق بكون هذه التحركات حافظت على طابع "جهوي" ولم تسع إلى بناء أفق وطني وشامل للمسألة البيئية. أما الثاني فيرتبط بالمزاج العام الذي لم يعِ جيداً حتى الآن أهمية وحيوية ملف يعتبره الكثيرون "ترفاً" مقارنة بقضايا "مصيرية" كالهوية والعلمانية والشريعة!

مقالات من تونس

للكاتب نفسه