يكشف كتاب "خالتي خضراء" هاجس الكاتب محمد الدّقي بالأدب الملتزم وتركيزه على الشأن الوطني الاجتماعي والسياسي متطرقاً لما يعانيه المواطن التونسي، الابن البار لخالتي خضراء، من جور إخوانه المتكرّشين وتوسع دائرة الفساد وغياب البديل السياسي القادر على بناء مشروع وطني حقيقي. "بالنسبة لي، هذه التجربة فريدة من نوعها، نسق الكتابة كان مختلفاً، حاولت في كل يوم أن أكتب شذرة عن موضوع يؤرّق التونسيين وأن أنشرها على صفحات فيسبوك كمساهمة مني في نقد هذا الواقع الذي نعيشه، يجب على الجميع أن يساهم في تغيير هذا الواقع من موقعه وانطلاقاً مما يتقنه".
الدقي شاعر وكاتب تونسي وأستاذ تعليم عال بجامعة منوبة. يُدرّس اللغة الإسبانية. كتب بها أغلب مؤلفاته ومن بينها ثلاثة دواوين شعر وقصة ورواية نشر جلها في إسبانيا وقد حصد على مدى مسيرته عدّة جوائز أدبية دولية.
وله أيضاً مساهمات دورية في المجلات الأدبية والجرائد والمجلات الصحافية الناطقة بالإسبانية. وقد عرف في كتاباته بدفاعه المستميت عن قضايا حقوق الإنسان الكونية ونزوعه إلى تعرية الانتهاكات التي يعاني منها المهاجرون واللاجئون وضحايا الحرب والمضطهدون في كل أنحاء العالم: "دائماً ما كنت أعتبر نفسي مواطناً كونياً، ولهذا أحرص على الكتابة دون التقيد بالحدود الجغرافية".
اليوم يعود محمد الدّقي إلى الساحة الأدبية بمؤلف جديد. "خالتي خضراء" كتاب يتألف من واحد وتسعين صفحة أصدرته في طبعة أنيقة دار "نقوش عربية". وهو يمثل نقلة نوعية للكاتب من حيث اللغة والأسلوب والمضمون. "خالتي خضراء" مزاوجة فنّية طريفة تجمع بين شذرات من الشعر الشعبي الساخر والرسوم الكاريكاتورية المعبرة. حرص رسام الكاريكاتير أنيس المحرسي على جعل رسومه مرآة تعكس المعاني التي ضمّنها المؤلف في كتابه. "في العادة يشعر الكاريكاتوريست بالضيق حين يُطلب منه الرسم تحت الطلب، لكن هذه التجربة كانت مختلفة، فقد "كان هناك نوع من التوافق الفكري والروحي الذي جمعني بمحمد الدّقي، حتّى إن صوراً عديدة كانت جاهزة من قبل الانطلاق في العمل على الشذرات، وتطلّبت تعديلات بسيطة فقط، لقد كنا نتقاسم هاجساً مشتركاً وحساسية تجاه ما نعيشه في الراهن الوطني".
"خالتي خضرة" مكتوب بالعربية، وهذه نقلة جديدة على المؤلف، وهو اختار اللهجة التونسية الدّارجة كلغة للكتابة، وهي التي هجرتها النخبة وهجرت معها السخرية كأسلوب للنقد والكتابة الأدبية والصحافية.
لم تعرف تونس منذ "جماعة تحت السور" حركة أدبية واسعة تناولت اللهجة الدّارجة وعملت على سبر أغوارها وإبراز مكامن غناها الأدبي
"كنت ألقي محاضرة باللغة الإسبانية وقد فاجأتني إحدى الطالبات بسؤال حول عزوفي عن الكتابة في الشأن العام التونسي، إذْ أكتب دائماً عن القضايا العالمية وباللغة الإسبانية. أجبتها عندها بأنني أعتبر نفسي مواطناً كونياً يهمني كل ما يحصل في العالم وليس فقط ما يحصل في تونس. لكن مع هذا بقي سؤالها يرن في أذني وقررت عندها الانطلاق في تجربة خالتي خضراء دون أن أتوقع تجسّدها يوماً ما في مؤلف متكامل".
من ناحية أخرى جلب هذا الالتزام لصاحبه في عدّة مناسبات العناء والشقاء. فقد عاش محمد الدّقي مضايقات عديدة في السابق بسبب مواقفه في الجامعة وكتاباته، وما زال إلى اليوم يتعرّض لحملات التشويه والتضييق وحتى إلى المتابعات القانونية بتهمة الإيحاء والثلب ("التصريح بالعيب"، وهي جريمة ينص عليها القانون التونسي) وآخرها استدعاؤه للمثول أمام القضاء خلال الأيام القادمة بتهمة الثلب الذي تتضمّنه مجموعة من الشذرات المنشورة في كتاب "خالتي خضراء". مضايقات تهدف إلى عزله وتحديد مجال حركته ودفعه إلى التوقف عن النقد والكتابة الساخرة، وخصوصا أنها بالعامية.. "نحن في حاجة إلى الكتابة الملتزمة، التي تخاطب الشعب بلغته وتكون قريبة من تمثلاته، هذا ما سيساعدنا على تجاوز هذه المرحلة".
لم تعرف تونس منذ "جماعة تحت السور" حركة أدبية واسعة تناولت اللهجة الدّارجة وعملت على سبر أغوارها وإبراز مكامن غناها الأدبي. وهذا دون اغفال المساهمات التي يقوم بها الأدباء الشعبيّون، أو المحاولات التي قام بها الكاتب توفيق بن بريك ومجموعة الكتاب الشبان الذين رافقوه، سواء في كتاب "كلب بن كلب" أو في "نشرية ضد السلطة". اليوم ينضاف إلى هذه التجارب مولود جديد. فاللهجة كانت دائماً ملتصقة بهموم المواطنين البسيطة وشعورهم العميق بالظلم وطموحهم الجارف لغد أفضل: "قد تكون اللغة الدّارجة عاجزة عن التبيان والتحليل، لكنها حين يتعلق الأمر بسرد المحسوس فإن لها سحراً خاصاً".