مكنت الحرب القائمة أدوات الانقسام الاجتماعي من العمل طيلة السنوات الست الماضية، بحيث أتمّت على مهلٍ تفتيت الروابط الاجتماعيّة بامتدادها الأفقي داخل مساحة سوريا كاملة، وصار من الصعوبة أن يقبل المجتمع ذاته كوحدة عضوية متجانسة ومترابطة من السكان تعيش اختلافاً سياسيّاً طبيعياً، بل انزلق الناس إلى شكلٍ أقل تطوراً من التجمّعات البشريّة المناطقيّة التي تقاس مساحتها الواقعيّة وتُفهم بتجانس الظرف الموضوعي الذي تعيشه. إذ اختلفت مكوّنات هذا الظرف بين مناطق سيطرة النظام، والمناطق الخارجة عن سيطرته، وبين من يعيش في الداخل، وبين من غادر البلاد.
يعيش السوريون بنمطين مختلفين داخل جغرافيا بلادهم. تختلف حياتهم في المناطق الخاضعة للسلطة عن التي صارت تحت سيطرة المعارضة المسلّحة، أو تحت إدارة تنظيمي "داعش" وجبهة النصرة. الحياة في سوريا لم تعد نسقاً تكوينيّاً واحداً، ولم يعد القاطنون في البلاد مترابطين بوشائجٍ مجتمعيّةٍ واحدة. وهم يبحثون عن ذواتهم بلا انقطاع ولديهم في سبيل ذلك فرضياتٌ وجوديّة مختلفة، إذ نجدهم يتمركزون حيناً حول فكرة النجاة من القصف الجوي أو البري لقوات النظام وحلفائه في المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة، وحيناً آخر تدور حياتهم بالكامل حول فكرة التقنين والغلاء في المناطق الخاضعة لسيطرة النظام.
نمطان من الحياة في الداخل
هذا الانقسام بدأ سياسياً ثم صار انقساماً ايديولوجيّاً عسكرياً مع حدودٍ فاصلة تتقدّم أو تتراجع بصورةٍ نسبيّة، لكنها تحافظ على جذر الانقسام ومسالكه. فالسوريين الذين واجهوا النظام في تظاهرات عام 2011 و2012 عادوا واحتضنوا الفصائل الإسلامية المقاتلة وما تبقى من تشكيلات الجيش الحرّ داخل مناطقهم. والسوريون الموالون التزموا الصمت في أماكن سكناهم. وصار لكلّ فئةٍ منهما أجندةُ أولوياتٍ ومخاوفٍ أيضاً، وقلّما يتأثر الذين يعيشون في أماكن سيطرة النظام بأحوال الذين يعيشون في أماكن سيطرة المعارضة، وربما يجد من يعيش في العاصمة دمشق قواسماً مجتمعيّة مشتركة مع الذي يعيش في مدينة مثل مصياف البعيدة عنه، تخصّ نمط الحياة المتقارب، ولا يجد تلك القواسم المجتمعيّة المشتركة مع الذي يعيش في ريف دمشق القريب منه والخاضعة أجزاءٌ عديدة منه إلى سيطرة المعارضة المسلّحة.
تكشف أحاديث الناس أيّ العُرى الاجتماعيّة قد بقيت، ومع من، وأيّها انفصمت، ومع من؟ فمعارك حلب الأخيرة لم تستطع أن تكسب سوى تعاطف المعارضين للنظام، أما الموالون له فقد فظلّوا حينها يتحدثون عن التقنين والغلاء وكأن حلب في بلدٍ آخر. وكذلك لا يتعاطف المعارضون مع أخبارٍ تخصّ تفجيراتٍ إرهابيّة تطال أماكن سيطرة النظام، فخبر التفجير الانتحاري الذي وقع مؤخراً في القصر العدلي بدمشق لم يجذب سوى اهتمام الموالين وتعاطفهم، وكأن دمشق تقبع في بلدٍ آخر لا تكترث المعارضة لشؤونه. وتلك ليست حوادثاً عابرة لا يمكن القياس بها، بل هي صورٌ أخرجها انقسام جديّ بين مكوّنات المجتمع السوري، بدأ ولا يتوقف، يتسع ولا يبدو أنه من الممكن لجمه.
يعيش السوريون بنمطين مختلفين داخل جغرافيا بلادهم. تختلف حياتهم في المناطق الخاضعة للسلطة عن التي صارت تحت سيطرة المعارضة المسلّحة، أو تحت إدارة تنظيمي "داعش" وجبهة النصرة
وكأن تمكين هذا الانقسام هو الغاية التي تدأب عليها الإرادة الدوليّة منذ سنوات، ولا شيء سواها. وصار من المتعثر استنتاج بقاء الشعب السوريّ كشعبٍ واحد قادرٍ على إجراء اختزالٍ آمن لذاكرة سنوات الحرب وتخطّيها. بل صار وارداً الحديث عن شعبين، أحدهما يعيش في "الداخل" والآخر يعيش في "الخارج"، شعبٌ موالٍ وشعبٌ معارض. وكلمة شعب في اللغة الإنكليزيّة تشير إلى الأفراد الذين ينتمون إلى أمّةٍ ما، أو إلى طبقة اجتماعية محددة، أو إلى مجموعة أثنية، أو إلى بلدٍ أو إلى عائلة بعينها. كما تستخدم كلمة Volk في اللغة الألمانية للدلالة على الشعب بمفهومه العضوي وشرطهُ الأهم هو الترابط بين مكوّناته، مثلما تترابط وتتصل خلايا الكائن العضوي الواحد. والشعب بمفهومه الاجتماعي يعني الأفراد الخاضعين لسلطة الدولة والحاملين لجنسيتها.
السوريون في الخارج شعبٌ جديد
غادر ربع الشعب السوري بلده خلال أربع سنواتٍ فقط. أرادت أرواحهم الفرار من عثرة الموت ونجحت، بعدما خرجوا مرغمين من تحت أغطية النار الوفيرة، الممتدة فوق مناطق الاشتباكات الساخنة. وهناك من اختار ترك المناطق الآمنة بحثاً عن حياةٍ أفضل من التي يعيش، وبات لهؤلاء مع مرور الوقت نمط حياةٍ مختلف عمّا عهدوه في بلدهم الأم، وصاروا يصفون أقرانهم من الذين لم يتركوا البلاد بـ"سوريي الداخل". ومثل هذا الوصف لا يغادر أدبيات أحاديثهم الشفهيّة، أو التي تظهر مدوّنةً على صفحات تواصلهم الاجتماعي، بحيث يتعدّى الوصف مجرّد كونه مجازاً لغويّاً مؤقت الدلالات، إلى توصيفٍ يعكس فُراقاً اجتماعيّاً حقيقيّاً في نمط الحياة والتفكير بين من يعيش داخل سوريا وخارجها. وهذا لا يخاصم الواقع بمقدار ما يتطابق معه، لكنه أيضاً يحمل مقدماتٍ صالحة لفهم انفصام الروابط المجتمعيّة وتداعيها المرّ، والتي يصير رصدها متاحاً مع مرور الوقت، ومع ثبات مكوّنات الظرف الموضوعي القائم على حالها.
تشير أرقام المفوضية السامية لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة المنشورة في أواخر العام 2015 إلى وجود نحو 5 ملايين لاجئ سوري صاروا خارج بلدهم
تشير أرقام المفوضية السامية لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة المنشورة في أواخر العام 2015 إلى وجود نحو 5 ملايين لاجئ سوري صاروا خارج بلدهم، وهم يتوزّعون بين 2.5 مليون لاجئ في تركيا من بينهم قرابة 276 ألف لاجئ يعيشون في 25 مخيم، ونحو 1.7 مليون لاجئ في لبنان يقطن منهم 100 ألف لاجئ داخل عدّة مخيّمات، بالإضافة إلى 633 ألف لاجئ يقيمون في الأردن من بينهم 120 ألف يعيشون في مخيّمات، وفي العراق وصل عدد اللاجئين السوريين إلى نحو 244 ألف لاجئ، وهناك قرابة 123 ألف لاجئ سوري مسجلين في مصر، هذا عدا عن أكثر من 550 ألف لاجئ سوري وصلوا إلى دولٍ أوروبيّة عديدة.
يصعب مداواة هذا الشتات على المدى المنظور.. حتى وإن انتهى شتاء المفاوضات البارد في جنيف بين النظام والمعارضة. فانتقال السوريين إلى خارج بلادهم لم يكن حدثاً عابراً ينتهي بانتهاء الصراع القائم، بل استبطن استقراراً اقتصادياً لرأس المال السوري في دول الجوار، وانتقالاً واضحاً لاستثمارات كثيرة استقرّت خلال السنوات الماضية بصورةٍ نهائيّة في الأردن ومصر وتركيا ولبنان، وإن فكّرت بتجديد استثماراتها داخل سوريا بعد استقرارها فسيكون ذلك بمثابة افتتاح فرعٍ عن الأصل الذي استقرّ في الخارج. حتى أنّ طروحاتٍ دوليّة عديدة بتوطين لاجئي المخيّمات صارت تطلّ برأسها بين الحين والآخر لتختبر ردود فعل حكومات دول الجوار. ولم يعد وارداً أيضاً الحديث عن شعبٍ سوريٍّ واحدٍ إلا ضمن استفاضاتٍ رومنسية حالمة، بعدما أنجز الصمت الدولي الانقسام الشعبيّ المطلوب كمنتجٍ أساسيّ (أو ثانوي، لا فرق) لاستدامة هذا الصراع المراثونيّ المرير.