تعتبر ظاهرة "أصقر" عادة اجتماعية منتشرة في الجنوب الشرقي للمغرب العميق، وهي عبارة عن حوار عذري يجري بين عازبين بغية الزواج وتكوين أسرة. وتشتهر بإتباع هذا التقليد قرى بلدة "إسافن"(التي تبعد عن إقليم طاطا حوالي87 كيلومتراً في اتجاه إغرم) كما تعرفه بعض القرى المجاورة لـ"إسافن" وبعض قرى "إغرم".
زمن اللقاء العذري بين العشاق
تعمل الفتيات في حقول الزيتون واللوز والخروب (واسمه هنا "تيكيضا"). يجمعن الزيتون وينقلنه إلى بيدر الزيتون التقليدي ويعصرنه، ويجمعن اللوز ويطحنه لاستخراج "أملو" (عبارة عن وصفة من المطبخ المغربي، وهو خليط من زيت الأركان الشهير إضافة إلى اللوز والعسل، وهو يتناول أساسا في وجبة الفطور) . تحرث النساء الجبال والهضاب والسهول التي تخترقها الطريق الرئيسية بأتان الحمير(إناثها) ويسقين الحقول، ويحلبن البقر، ويخضن قِرَب اللبن لاستخراج الزبدة التقليدية، ويحصدن الزرع وينقلنه إلى البيدر ثم يدرسنه بالحمير.
يحضر بعض الرجال إلى البيدر بعد انتهاء النساء من العمل الشاق، لتوزيع الأعشار على الفقراء والمساكين. يمضي أغلب الرجال وقتهم في المقهى يثرثرون ويلعبون الورق، والشطرنج التقليدي المعروف باسم "ضامة".
النساء والفتيات مشهود لهن بالعمل والجدية في البستنة وتربية الماشية والنحل وصناعة "أملو". وهن متفوقات في مسيرتهن الدراسية، إذ يحصلن على أعلى النقاط ويحتلن الرتب الأولى عكس الذكور.
تروي الجدات بالمنطقة قول مشهور مفاده "أيما امرأة لا تملك حمارة أو بقرة فهي ليست امرأة".
تستيقظ النساء والفتيات باكراً قاصدات الحقول، يعملن بجد، يقفلن راجعات ضحًى، يعلفن البقر والعجول علفاً وشعيراً وبرسماً.
تخرج الفتيات بعد أذان العصر مباشرة وهن متزينات وفي أبهى حلة، يقصدن الوادي الجاف، يتفيأن ظلال أشجار الزيتون واللوز، يترقبن قدوم الشبان لإجراء حوار عذري يستهل بمساجلة شعرية، تنسجن من خلاله علاقات مع فرسان أحلامهن المحتملين. وعلى ضفتي الوادي يجلسن وهن متسربلات بأزهى الملابس التقليدية المحلية، وينتشرن على طول الوادي وبين الحقول. يقصدهن شبان القرى المشهورة بشيوع التقليد والزوار الطارئون على البلدة.
تفصل فارس الأحلام المرتقب عن محبوبته المرتقبة مسافة ثلاثة أمتار. تعرّفه بنفسها وبأصولها وفروعها، وكذلك يفعل الشاب. يمكن لأي فتاة أن تخوض في حديث عاطفي عذري مع أي شاب، في جو رومانسي مفعم بالاحترام المتبادل بين الطرفين
يعد إقليم طاطا الوحيد الذي تلبس فيه النساء 12 متراً من الثوب في المغرب، ويوسم المجتمع الطاطاوي بالمحافظ والتقليدي، بيد أن تغيرات مسّته، عمت مختلف مشارب ومناحي الحياة، وجعلته ينفتح بنسب متفاوتة، بفضل التطور التكنولوجي وتعليم البنات وتفوقهن الدراسي ومتابعتهن بالجامعات والمعاهد العليا، مما ساهم في وصولهن إلى مراكز القرار وامتهانهن لمهن عصرية، أعطتهن مكانة اجتماعية راقية، وبذا أصبح بالتالي المجتمع شبه محافظ.
يُسـأل كل شاب راغب في خوض حديث مع فتاة، الإذن بإجرائه بغية التعرف عليها، تأذن له بعد أن تسأله عن غايته من إجراء الحوار، فهل يرغب في الزواج أم الأنس فقط؟ ويشرعا في التعارف فيما بينهما بعد أن يحدد الشاب غايته من اللقاء. الوضوح والصراحة شرطان أساسيان لخوض أي حوار بين الشابين، بغية تجنب انتقام بعض الفتيات الشديد من بعض الشبان الطائشين الذين نقضوا العهود التي أعطوها للفتيات أثناء أول لقاء.
توجه إحداهن دعوة لشاب مرّ على مقربة من المكان المخصص لظاهرة "أصقر". وتدعو أخرى شاباً طارئاً على البلدة لمبادلاتها أطراف الحديث، تعرب لفارس أحلامها المرتقب عن الغاية الأسمى من الحوار، وهو الزواج، إن نجحت علاقتهما. تفصل فارس الأحلام المرتقب عن محبوبته المرتقبة مسافة ثلاثة أمتار. تعرّفه بنفسها وبأصولها وفروعها، وكذلك يفعل الشاب. يمكن لأي فتاة أن تخوض في حديث عاطفي عذري مع أي شاب، في جو رومانسي مفعم بالاحترام المتبادل بين الطرفين.
بعد تعارف الطرفين تأخذ الفتاة فارس أحلامها المرتقب إلى منبع العين وتغسل له رجله اليمنى، تيمناً بنجاح علاقتهما وأملاً بأن تسود المحبة بينهما.
بعد أذان المغرب ينفض الجمع، وتعود الفتيات إلى منازلهن على أمل اللقاء بعد عصر اليوم التالي. لكن الحوار بهذه الشروط يستمر بين الشابين في "إغرم" حتى أذان العشاء، ويقتصر هذا الحوار على أبناء البلدة.
يحظى المكان المخصص لظاهرة "أصقر" بقدسية رمزية من قبل الأهالي، إذ يُمنع عليهم المرور به بين العصر والمغرب إلا للضرورة القصوى أو لظروف قاهرة، وهو وقت إجراء الحوارات بين الفتيان والفتيات، تجنباً لإحراج الفتيات
يخوضان في جميع المواضيع التي لها علاقة بالحياة الأسرية المرتقبة إن نجحت علاقتهما، وينظران لحياتهما الزوجية المتوقعة. إن حصلت مودة ومحبة بين العاشقين خلال تلك اللقاءات التي يمكن أن تمتد لسنين، فإن حياتهما الزوجية ستكون ناجحة. الطلاق شبه منعدم في المناطق التي تعرف شيوعاً لظاهرة "أصقر".
يحدث أن يعجب شاب بفتاة أثناء أدائها للوحة من التراث الإثنوغرافي المحلي الذي يعرف باسم "أحواش تيعيالين". يستفسر الفتى من الفتيات عن اسم الفتاة التي وقع في حبها من أول نظرة، ويطلب منهن أن يبلغوها نيته في خوض حوار عذري معها، في موعد ومكان معلوم. مثال: نلتقي بعد عصر غد في المكان المخصص لـ "أصقر".
قدسية المكان المخصص لـ"أصقر"
يحظى المكان المخصص لظاهرة "أصقر" بقدسية رمزية من قبل الأهالي، إذ يُمنع الأهالي من المرور منه بين العصر والمغرب إلا للضرورة القصوى أو لظروف قاهرة، اي وقت إجراء الحوارات بين الفتيان والفتيات، تجنباً لإحراج الفتيات اللواتي يشعرن بالخجل أثناء مرور أحد أصولهن أو فروعهن بمقربة من المكان المقدس. للمكان حرمته، لذا يمنع المتزوجون من المرور به أو الاقتراب منه.
يقضي العرف المحلي بعودة الفتيات من المكان المقدس إلى بيوتهن بعيد أذان المغرب مباشرة، احتراماً لتوقيت "أصقر" الممتد من أذان العصر إلى أذان المغرب. بعد أن يحصل توافق بين الشابين ويشيع خبر نجاح علاقتهما، يحق للفتى أن يرافق زوجته المستقبلية بعد عودتهما من المكان المقدس إلى أن تقترب من منزلها.
لا يحق للشاب أن يلمس فتاته، ويضمن ذلك التقليد والمسافة التي تفصل بينهما، ولوجود رهط من الشباب بمقربة منهما. ولا يحق للفتاة أن تجري حواراً عاطفياً إلا مع فارس أحلامها المستقبلي فقط، ويسري العرف نفسه على الشاب، بعد التأكد من جدية ونجاح علاقتهما.
الحب السرمدي بقرى جماعة " تيندين"
هنا جماعة " تيندين" (وتعني باللسان الدراج: ديال الدين، وبالعربي الفصيح الخاصة بالدين) حيث تعرف ثلة من قرى الجماعة انتشار ظاهرة "أصقر"، الذي يعرّف محلياً بأنه "حوار من أجل التعارف بين شابين غريبين عن بعضهما البعض، ويمكن أن يكون بين شابين تعارفا من قبل".
يتيح العرف المحلي للفتاة أن تتجنب الحوار مع الشاب الذي تعرفت عليه لأول مرة، إن لم يحظ بإعجابها. وفي حالة سقوطها في حبه، توجه له سؤالاً مباشراً، في لقائهما الثاني، باللغة الأمازيغية "إس كيك المعقول؟" بمعنى هل تنوي الزواج؟. ويقصد بـ"المعقول" محلياً الزواج.
يرد الشاب ببلى إن كان صادقاً، ويرجئ أمر الزواج إلى أن تتضح الأمور وتطول علاقتهما، ويعرب من خلالها كل منهما عن مدى تعلقه بالآخر من خلال ترديد أشعار أمازيغية محفوظة توارثها الخلف عن السلف.
العهد شريعة المتحابين
يعتقد الأهالي أن من خان العهد سيصاب بلعنة يجهل مصدرها، ويفسرون طلاق كل من خان العهد بأنه لعنة من السماء، أو لو تعرض من خان العهد لمصاب جلل بأنه انتقام من الأولياء الصالحين، وبأنها نقمة سببها ظلم الفتى للفتاة بتخليه عنها.
وتحظى من حافظت على العهد الذي قطعته مع شاب جمعتهما قصة حب رومانسية بمكانة عظيمة لدى الأهالي، وبرمزية خاصة لدى النساء والفتيات ويضرب بها المثل في الوفاء والإخلاص.
يواجه المكان المقدس حيث يلتقي العشاق منافسة شديدة من قبل وسائل التواصل الاجتماعي التي أثرت على الظاهرة الثقافية، مما يهددها بالاندثار، الأمر الذي دعا فعاليات المجتمع المدني والباحثين إلى إجراء دراسات توثيقية، حماية للظاهرة من الزوال
يتعاهد المتحابان على الزواج ويقسمان على ألا يخون أحدهما الآخر إلى أن يفرقهما الموت. هنا تظهر مؤشرات على جدية قصة حبهما. بعد شيوع الخبر بين الأهالي، وبالتالي تحضر سلطة الدين المتجسد في القسم وسلطة المجتمع من خلال انتشار الخبر بين الأهالي.
تشكل السلطتان الدينية والاجتماعية ضغطاً على الحبيبين وتساهم بالتالي في نجاح معظم العلاقات العاطفية بين الطرفين، إلا أنها تواجه بالتغيرات الثقافية الجديدة التي مست شريحة الشباب المهاجر إلى المدن الداخلية والساحلية قصد العمل، ونسجه لعلاقات مع شابات أخريات، مما جعل بعضهم ينقض العهد الذي أعطاه في المكان المقدس.
يواجه المكان المقدس حيث يلتقي العشاق منافسة شديدة من قبل وسائل التواصل الاجتماعي التي أثرت على الظاهرة الثقافية، مما يهددها بالاندثار، الأمر الذي دعا فعاليات المجتمع المدني والباحثين إلى إجراء دراسات توثيقية، حماية للظاهرة من الزوال وتشجيعا للشباب على الاستمرار في زيارة المكان المقدس وإجراء حوارات عذرية عاطفية، وأملاً بنقلها إلى الأجيال القادمة.