بعد عقود من ثقافة كاتم الصوت والخوف، جاءت انتفاضة كانون الثاني/ يناير 2011 لتُخرج تونس من الكهف إلى العالم والتاريخ. لا يمكن الحديث عن "أرباح" فورية، عدا حرية التعبير وديمقراطية جنينية. بالنسبة للبقية (التنمية، العدالة الاجتماعية، التوازن الجهوي، الحريات الفردية..)، يبدو أن المشوار ما زال ممتداً، وأن عائدات "الاستثمار" لن تُجنى إلا على المدى الطويل.
بعد جردة الحساب الأولية هذه، سنجد أنه من الطبيعي أن يكون السياسيون والمثقفون والفنانون هم "الرابح الأكبر": فلقد فُتحت في وجوههم أبواب لم يكونوا يستطيعون حتى النظر من ثقوب أقفالها. فبدون مبالغة، تحولت تونس إلى خلية نحل فنية، خصوصاً خلال السنتين أو الثلاث سنوات الأولى التي تلت سقوط منظومة الجنرال بن علي. لم يقتصر الزخم الجديد على الفنون "التقليدية" بل شمل أيضاً أشكال التعبير الفني "البديلة" (غرافيتي، مسرح الشارع، الغناء الملتزم..)، لكن ماذا عن السينما؟ هل هناك تغييرات حقيقية؟ كيف تفاعلت مع "الثورة" وهل استفادت منها؟ هذه السينما التي طالما "تميّزت" بكسلها و"مزاجيتها"، هل أصبحت أكثر نشاطاً وإنتاجاً؟ ماذا عن المواضيع المتناولة في الأعمال الجديدة؟ هل اكتفى المخرجون التونسيون بـ"سينما المؤلِّف"؟ ماذا عن الشباب؟ أسئلة عديدة، يصعب الإجابة عنها بشكل دقيق ونهائي. فالمرحلة ما زالت متواصلة، لكن ها بعض المعطيات والانطباعات عن المشهد السينمائي في تونس ما بعد "الثورة".
السينما التونسية تخرج من سباتها (أو هي تحاوِل)..
إذا ما استثنينا الشريطين اللذين أخرجهما التونسي اليهودي ألبير شمامة شيكلي في أوائل القرن العشرين (زهرة 1922، عين الغزال 1924)، فإنه لا يمكن الحديث عن سينما تونسية إلا مع بداية ستينات القرن الماضي. أول فيلم تونسي بعد الاستقلال أخرجه عمار الخليفي سنة 1966 وكان عنوانه "الفجر". أما آخر إنتاج قبل اندلاع أحداث الانتفاضة التونسية فكان فيلم "آخر ديسمبر" للمخرج معز كمون والذي تم عرضه في القاعات في شهر أيلول / سبتمبر 2010. خلال الفترة الممتدة بين الشريطين (قرابة نصف قرن) لم تنتج السينما التونسية إلا 102 شريطاً سينمائيا، أي بمعدل فيلمين كل سنة تقريباً.
ولكن، وبعد الزلزال السياسي الذي عرفته تونس، يبدو أن شهية مخرجيها انفتحت للتصوير. فخلال الفترة الممتدة من بداية 2011 إلى أواخر 2016 تمّ إخراج أكثر من ثلاثين شريطاً جديداً، بمعدل خمسة أو ستة أفلام كل سنة. قد يبدو الرقم متواضعاً، لكن ومقارنة بما كانت عليه الأمور قبل "الثورة"، فيمكن الحديث عن طفرة حتى وإن كانت نسبية. حافظت بعد الأسماء "الكبيرة" (النوري بو زيد، رضا الباهي، فريد بو غدير، فاضل الجزيري) على حضورها، فيما برز جيل جديد من المخرجين الشباب الذين ربما قد يصنعون ملامح سينما تونسية جديدة في السنوات القادمة (سامي التليلي، عبد الله يحيى، كوثر بن هنية، نجيب بالقاضي، نصر الدين السهيلي، مجدي السميري، فارس نعناعة، ليلى بو زيد). وعلى الرغم من هذه الاستفاقة التدريجية، فيبدو أن هناك عوائق كثيرة أمام تطور السينما التونسية وإنتاجياتها.
مشاكل النمو
مشاكل نمو السينما التونسية قديمة في أغلبها، ولم تبدأ مع الثورة. المشكل الأساسي مادي بامتياز. ليست هناك صناعة سينما في تونس. شركات الإنتاج تعد على الأصابع وأغلبها لا تملك القدرة على إنتاج أفلام بمفردها حتى وإن كانت بتكلفة متوسطة. عندما يقرر مخرج تونسي إخراج شريط جديد فإنه يعلم جيداً أنه سينطلق في رحلة شاقة وأحياناً مذلة: البحث عن التمويل. هناك ممولان أساسيان للسينما التونسية: وزارة الثقافة والجهات الأجنبية (قنوات، منظمات، شركات إنتاج، دعم حكومي).
الدعم الأجنبي والذي يكون أحياناً سخياً هو كالسم في الدسم، فالمخرج التونسي يجد نفسه (طواعية أو كراهية) في العديد من الأحيان يكتب سيناريوهات ويخرج أفلاماً معدة "للاستهلاك الخارجي" أساساً ولا تخلو من مسحة "استشراقية"
الدعم الذي تقدمه وزارة الثقافة للمخرجين يقتصر على فئة من المحظوظين، وفي أغلب الأحيان لا يغطي إلا جزء صغير من تكاليف إنتاج الفيلم. نصيب وزارة الثقافة من ميزانية الدولة هو صفر فاصل.. هذا الصفر فاصل يتوزع بين أجور الموظفين، ومصاريف المؤسسات التابعة للوزارة، ومصاريف المهرجانات والتظاهرات، والبقية تذهب لدعم الكتاب والمسرح والموسيقى والسينما. الوزارة مثلاً أعلنت مؤخراً عن الأفلام التي ستدعمها في 2017 وعن قيمة الدعم: 6.3 مليون دينار (أقل من مليوني دولار) توزع - بنسب متفاوتة - على عشرين مشروع فيلم (تصوير أفلام طويلة وقصيرة، كتابة سيناريو، إنهاء فيلم). المبلغ هزيل جداً، لكن المفرح في الأمر أن الأغلبية الساحقة من الذين نالوا الدعم ينتمون إلى الجيل الجديد من المخرجين التونسيين.
الدعم الأجنبي والذي يكون أحياناً سخياً هو كالسم في الدسم، فالمخرج التونسي يجد نفسه (طواعية أو كراهية) في عديد من الأحيان يكتب سيناريوهات ويخرج أفلاماً معدة "للاستهلاك الخارجي" أساساً ولا تخلو من مسحة "استشراقية". عندما يضمن المخرج المحظوظ الدعم المالي اللازم لتصوير شريطه، فإن ذلك لا يعني بالضرورة نهاية المتاعب، فهناك معضلة أخرى تنتظره: الترويج والتوزيع. السوق التونسية ليست كبيرة ولا تدر أرباحاً معقولة. التونسيون الذين يذهبون إلى السينما عددهم قليل وهذا الأمر يرتبط بعدة أسباب:
- ثقافية - اجتماعية: لطالما ارتبطت قاعات السينما في المخيال الشعبي بقلّة الحياء، فهي إما أماكن لتلاقي العشاق في الظلمة، أو لعرض أفلام تونسية وأجنبية تتضمن مشاهد جريئة. العائلة التونسية عموماً لا تخصص ميزانية للثقافة إما لضيق الحال أو لأنها لا ترى فائدة في ذلك أصلاً.
- "لوجيستية": قاعات السينما في تونس هي فصيلة مهددة جدياً بالانقراض وعددها لا يتجاوز العشر أو الخمس عشرة قاعة في أقصى تقدير: قاعة سينما واحدة تقريباً لكل مليون تونسي! أغلب القاعات توجد في العاصمة تونس، وهناك عشرون محافظة (من جملة 24 محافظة تونسية) لا توجد بها قاعة سينما. صفاقس مثلاً، ثاني أكبر مدينة في البلاد، وعاصمة الثقافة العربية حالياً، لا توجد فيها إلا قاعة سينما واحدة وهي غير صالحة للعروض.
- براغماتية: أغلب التونسيين يفضلون مشاهدة الأفلام في التلفزيون أو تحميلها ومشاهدتها على الانترنت. فبإمكانهم مشاهدة الأفلام الجديدة أصلاً قبل نزولها إلى قاعات السينما (نسخ مقرصنة).
قبل الثورة كانت السينما التونسية تتميز بالجرأة في معالجة مواضيع حساسة كالجسد والعلاقات الجنسية والمشاكل الاجتماعية، لكن مع صمت شبه تام حيال الشأن السياسي بحكم الرقابة. بعد سقوط مقص الرقيب، ظهرت تجارب أكثر ديناميكية مع المخرجين الشبان
ضيق السوق التونسية يجعل المخرج يركز أساساً على المهرجانات الدولية والسوق الأوروبية (الفرنسية خصوصاً)، مما يجعل أفلامه في أغلب الأحيان نخبوية ومنفصلة عن الواقع التونسي.
صراع القديم والجديد
لطالما كانت مدرسة "سينما المؤلف" هي المسيطِرة في تونس. هذه السيطرة صنعت نوعاً ما مجد السينما التونسية، لكنها كانت أيضاً عائقا أمام تطورها وحتى انفتاحها على مدارس وتجارب سينمائية أخرى. أغلب المخرجين التونسيين الكبار لهم خلفيات يسارية علمانية، وهم أبناء "سينما المؤلف"، وبما أن أفلامهم لا تتناسب عادة مع "الذوق العام" في تونس لأسباب ثقافية وأحياناً أخلاقوية، فإنها في أغلب الأحيان تكون موجهة للخارج: المهرجانات الدولية وقاعات العرض الأوروبية. في أغلب الأحيان يكون للفيلم التونسي عنوانان، الأول بالعربية الفصحى أو اللهجة التونسية والثاني بالفرنسية (أحياناً كترجمة حرفية وأحياناً يكون مختلفاً تماماً عن الأول). قبل الثورة كانت السينما التونسية تتميز بالجرأة الكبيرة في معالجة وتصوير مواضيع حساسة كالجسد والعلاقات الجنسية والمشاكل العائلية والاجتماعية، لكن مع صمت شبه تام حيال الشأن السياسي بحكم الرقابة الحكومية والذاتية. بعد سقوط مقص الرقيب، دخلت السينما في تونس مرحلة جديدة تتسم بتراجع سينما المؤلف أمام ظهور تجارب أكثر ديناميكية خصوصاً مع المخرجين الشبان. الاختلاف بين الأجيال لا يقتصر على "الحساسيات الفنية" والمواضيع بل يتجاوزه إلى أسلوب وتقنيات التصوير، فشيوخ السينما التونسية ما زالوا يحبذون الأفلام الروائية الطويلة والتي تتجاوز مدتها الساعتين، أما الشباب فيميلون أكثر إلى الأفلام القصيرة والوثائقية. كما أن أفلام "الجيل القديم" ما زالت تنضح بالأيديولوجيا والمباشراتية في التناول، وأغلبهم لم يلتقط من الانتفاضة وكل إفرازاتها إلا الإرهاب والتطرف الديني. مثلاً فيلم "مانموتش" لنوري بوزيد (2012) يعالج مسألة الحجاب والتشدد الديني في تونس ما بعد الثورة. فيلم "زهرة حلب" (2016) لرضا الباهي يتطرّق لموضوع التنظيمات الجهادية وتسفير الشباب التونسي إلى سوريا، فيلم "خسوف" (2015) للفاضل الجزيري يتمحور أيضاً حول الإرهاب وتبييض الأموال وتسفير المقاتلين إلى سوريا. في حين تميل الأجيال الأصغر سناً والأقل تمترساً أيديولوجياً إلى معالجة قضايا أكثر "إنسانية" وأقل ثقلاً (الهجرة، البطالة، الفن، الحب، العنف، المخدرات). المخرجون الشبان بدأوا في الاستيلاء على مواقع من الجيل القديم سواء في تونس أو في الخارج بعد عقود من الاحتكار، وهذا ما نلاحظه في درجة الحضور في قاعات السينما التونسية والمهرجانات الدولية.
بعد الزلزال السياسي الذي عرفته تونس، يبدو أن شهية مخرجيها انفتحت للتصوير. فخلال الفترة الممتدة من بداية 2011 إلى أواخر 2016 تمّ إخراج أكثر من ثلاثين شريطاً، بمعدل خمسة أو ستة أفلام كل سنة. قد يبدو الرقم متواضعاً، لكن ومقارنة بما كانت عليه الأمور قبل "الثورة"، فيمكن الحديث عن طفرة حتى وإن كانت نسبية
المخرج شاهد على الثورة وموثقا لها..
كان من الطبيعي أن يستثير حدث تاريخي مثل الثورة عيون المخرجين وكاميراتهم وأن يجعلهم يحاولون التقاط بعض الجزيئات التي تصنع هواء البلاد الجديد. نصف الأشرطة التي أنتجت في تونس بعد 14 كانون الثاني / يناير 2011 ذات طابع وثائقي، وأغلب مخرجيها من الشباب. توزعت الأفلام الوثائقية على ثلاثة محاور أساسية: ما حصل قبل الثورة، أحداث الثورة، وما "بعد الموقعة". مثلا شريط "يلعن بو الفسفاط" (2012) لسامي التليلي سلّط الأضواء على الأحداث التي وقعت سنة 2008 في منطقة "الحوض المنجمي" (محافظة قفصة، جنوب البلاد) والتي يعتبرها الكثيرون الشرارة الأولى الحقيقية للثورة التونسية. الفيلم تم تصويره في منطقة منجمية معروفة بإنتاجها لمادة الفوسفات، وهي واحدة من أهم مصادر مدخول العملة الصعبة في تونس. يحكي سامي التليلي مأساة سكان المنطقة، الذين ينتجون سنوياً ما قيمته ملايين الدولارات ولا يجنون إلا الفقر والتهميش والتلوث. انتفض سكان المنطقة في كانون الثاني / يناير 2008 وصمدوا طيلة أربعة أشهر قبل أن يتم قمع الحراك بالقتل والاعتقالات والتعذيب وسط حصار أمني شديد وتعتيم إعلامي كامل. أما شريط "حنظل" (2012) للمخرج محمد الجمني فهو يورد شهادات عن تعذيب المعتقلين السياسيين في تونس في الفترة الممتدة ما بين الاستقلال والثورة. العديد من المخرجين شاركوا في أحداث الثورة أو عايشوها عن قرب، مما جعلهم يحاولون توثيق لحظات ومشاهد يعلمون جيداً أنهم لن يروها مرة أخرى في حياتهم.
أفلام كـ"كلمة حمراء" (الياس بكار، 2012) و"لا خوف بعد اليوم" (مراد بن الشيخ، 2011) و"نحن هنا" (عبد الله يحيى، 2012) وثقت الأيام والأسابيع الأولى التي تلت هروب الجنرال بن علي وأظهرت التحرر التدريجي للشارع وتفاعل مختلف الشرائح مع الثورة (سياسيين، أحياء شعبية، مدن كبرى وقرى صغيرة). البعض الآخر حاول توثيق تأثيرات الثورة في الواقع السياسي والثقافي والاجتماعي. فيلم "ثورة غير درج" (ثورة إلا خمسة دقائق، 2012) مثلاً، للمخرج رضا التليلي حاول رصد بوادر "الثورة الثقافية" عبر تتبع نقاشات ونشاطات "أهل الكهف"، وهي مجموعة من شباب كليات الفنون الجميلة اختاروا الشارع وجدرانه كحامل لتعبيراتهم الفنية الجديدة. المخرج نجيب بالقاضي اختار أن يوثق أول انتخابات حرة تعرفها تونس (تشرين الأول/ أكتوبر 2011) من خلال شريطه "سبعة ونصف" (2014). أما عبد الله يحيى فأراد أن يذكر التونسيين والعالم أن جزءاً كبيراً من "وعود" الثورة لم يتحقق، خصوصاً في الجانب الاقتصادي – الاجتماعي، فأخرج شريط "على هذه الأرض" (2013). يوثّق المخرج نضالات قرية تونسية صغيرة "العمران" (محافظة سيدي بوزيد) انتفض أبناؤها أواخر سنة 2012 للمطالبة بالتشغيل والحق في العيش الكريم وجوبهوا بقمع بوليسي شديد. الاغتيالات السياسية كان لها أيضاً نصيب من الإنتاج، من خلال شريط "الشهيد السعيد" (2013) للمخرج الحبيب المستيري حول مسيرة الزعيم اليساري التونسي شكري بلعيد الذي اغتيل أمام بيته في شباط/ فبراير 2013.
ختاماً..
من المبكر أن نعطي تقييماً كاملاً وموضوعياً عن واقع السينما التونسية بعد الثورة. فثمة "ورشة مفتوحة" في منطقة اضطرابات اجتماعية وسياسية وثقافية متواترة وحادة. لكن المؤكد أن حرية التعبير وكثافة المادة "المشهدية" لا يمكن إلا أن تكونا هبة من السماء بالنسبة للمخرجين التونسيين. وفي انتظار ما سيأتي في السنوات القادمة، ربما من الأفضل أن نسكتْ وندعهم يُصوِّرون.