قايض الروس دعمهم العسكري والسياسي للنظام السوري باستيلاءٍ واسع على حصصٍ استثماريّة حيويّة، جاهروا بتسمية بعضها خلال شهر نيسان / أبريل من العام الماضي بعدما ضمنوا نصيباً وافراً من الاستثمارات داخل قطاع النفط والغاز، وفي قطاع العقارات أيضاً، الذي سيدخلونه من باب إعادة الإعمار. ولم تتلكّأ السلطة السوريّة الرسميّة حينها عن تأكيد حجم الغنائم الروسيّة، فقالت: "للروس الأولويّة"، موحيةً بثبات مكوّنات اللحظة الراهنة، وكأنها مكوّنات محجوبة عن ديناميات التبدّل، وكأننا نتحدث عن بندقيّة "كلاشنكوف" التي اعتاد السوريون تسميتها بـ"البندقيّة الروسية" منذ وصلت أيديهم وحتى الآن. اسم الدولة يلغي اسم المخترع داخل منظومة تفكيرهم، وحضور روسيا، وقبلها الاتحاد السوفييتي، داخل العقل الاجتماعي كان كثيفاً بعدما تجذَر واقعياً ضمن نسقين، الأول اقتصادي ــ عسكري، والثاني تقني ــ أكاديمي. ولم ينل من زخم هذا الحضور سوى حملة التدخل الروسي المتدرّجة من السياسي إلى العسكري خلال الأعوام القليلة الماضية.
اختصارات يمكن تصديقها
قبل أن ينقسم الوعي الاجتماعي في سوريا بين مؤيدٍ للنظام القائم ومعارضٍ له، كان المركز الثقافي الروسي، ببنائه القائم في شارع 29 أيار وسط العاصمة دمشق، من أكثر المراكز الثقافية جذباً للإنتلجنسيا المحلّية، إذ لم يهدأ بهوه الرئيسي يوماً عن استقبال معارض للكتب أو لفنانين تشكيليين معروفين، كما ولم يسترح مسرحه الواسع في القبو من استضافة العروض المسرحيّة والموسيقيّة، وظلّ روّاده يتعلّقون بالفراغ القائم بين البهو والقبو، حيث "الكافيتريا" الشهيرة للمركز بنادلاتها اللطيفات، وبتهويتها السيئة. وفي طوابقه العليا لم تكن تنقطع حلقات تعليم رقص الباليه. وكانت روسيا أيضاً هي الراقصات اللواتي يملأن ملاهي دمشق بالحركة وبالضوء، وكانت بلاد الدراسة الرخيصة، يقصدها الطلبة السوريون الذين خذلهم مجموعهم الدراسي في الثانويّة العامة ليعودوا منها بعد سنوات حاملين شهادات في الطبّ أو في الهندسة.
قبل العام 2011 لم يكن الحضور الروسي داخل بنية الوعي الاجتماعي حضوراً إشكالياً، بالكاد كان يمكن ملاحظة نشاط روسيا الاستثماري على خارطة الاقتصاد السوري المقسّم إلى نظام محاصصة بين مكوّنات السلطة القائمة، باستثناء نصيبها من عقود التنقيب عن النفط حيث بلغت قيمة الالتزامات التعاقدية لشركات النفط والغاز الروسية في سوريا نحو 1.6 مليار دولار، والحصة الاستثماريّة لشركة "تات نيفت" لوحدها وصلت إلى 28 مليون دولار في حقول النفط شرق سوريا.
غير أنّ الاصطفاف الروسي، المعروفة بوصلته وجهاته، جعله يستجر عداء السوريين المعارضين للنظام. فلم يعد حضور روسيا محلّ قبولٍ اجتماعيٍّ عام، وإن ازدادت غنائمها من البيت السوري بعدما وضعت يدها أواخر العام 2015 على أحد أهم الاستثمارات النفطيّة في سوريا على الإطلاق: البلوك البحريّ رقم 2 في المياه الإقليمية السوريّة، الممتد من جنوب طرطوس وحتى بانياس، وعن شركة "سيوز نفتا إيست ميد" الروسيّة التي أبرمت اتفاقاً مع السلطة السوريّة لإجراء عمليات التنقيب عن النفط والغاز في تلك المنطقة بكلفة أوليّة وصلت إلى 90 مليون دولار.
قبل أن ينقسم الوعي الاجتماعي في سوريا بين مؤيدٍ للنظام القائم ومعارضٍ له، كان المركز الثقافي الروسي، ببنائه وسط العاصمة دمشق، من أكثر المراكز الثقافية جذباً للإنتلجنسيا المحلّية
وخلال العامين الماضيين كانت آلة الحرب الروسيّة تعيد صياغة الشمال السوري عسكريّاً، وكانت تقبض ثمن ذلك استثماريّاً، لدرجة أنها استعدت لإعادة إعمار تدمر بعدما تم تحريرها من تنظيم "داعش" في أواخر آذار / مارس من العام الماضي. وقتذاك بدا النائب الروسي سيرغي غافريلوف شديد الحماسة لإنشاء شركة بناء تقوم بتلك المهمة على غرار شركة المقاولات الروسيّة الشهيرة "أولمبستروي"، تأهب حينها قطاع الأعمال الروسي للانغماس في نعيم ذلك الاستثمار، قبل أن تسقط المدينة مجدداً في أيدي تنظيم الدولة الإسلاميّة مطلع شهر كانون الأول / ديسمبر الماضي.
الخسارة والربح لعبة الموازين المتقلّبة
تكسب روسيا عسكرياً واستثمارياً وتخسر اجتماعيّاً. يهاجمها المعارضون علناً ويصفونها بدولة احتلال، فيما يداري الموالون مدى نفوذها على القرار السوريّ، لعلّهم يتصورون بأنها تحارب "الإرهاب" إلى جانب قوّات النظام، ويرحّبون بضباطها خلال تجوالهم بين المحافظات الموالية بحجة الإشراف على توزيع المعونات الإنسانية. وحضورهم ذاك لا يخفي رمزيّته المتقنة، التي تتعدّى مراقبة متطوعي الهلال الأحمر السوري أثناء توزيعهم الحصص الغذائية المعلّبة في صناديق كرتونيّة على النازحين خشيةً من سرقتها. يريد الروس الترويج لأنفسهم اجتماعيّاً، ويراهنون أيضاً على الزخم التاريخيّ لحضورهم داخل الوعيّ الجمعيّ العام، منذ كان الاتحاد السوفييتيّ السابق في مقدمة الدول التي اعترفت باستقلال سوريا، وأقام معها علاقات دبلوماسيّة كاملة في العام 1944، ثم اتسع الحضن السوفييتي خلال الحرب الباردة حين أراد اجتذاب سوريا إلى معسكره، فبلغ حجم المديونيّة السورية المتراكمة خلال الحقبة السوفيتية قرابة 13 مليار دولار، أغلبها كان مديونيّة عسكرية تخصّ شراء الأسلحة، بعدها شطبت الحكومة الروسية نحو 73 في المئة من قيمة هذا الدين في العام 2005، وما تبقّى منه تقرر صرفه على تنفيذ العقود الروسيّة المبرمة مع السلطة السوريّة. وهذه هدية ثمينة قدّرها جيداً النظام السوري.
أيضاً يستجمع الروس وخلال محاولاتهم تدعيم حضورهم الاجتماعي، ذكريات أياديهم البيضاء خلال ستينات وسبعينات القرن الماضي، حين كانوا العرّابين الحقيقيين لنحو ستين مشروعاً حيويّاً، أعانوا من خلالها شعار "التحوّل الاشتراكي" على النمو منذ اقترحه النظام القائم يوم جاء إلى السلطة، ولعل أبرز مشاريع الرعاية السوفيتيّة كان سدّ الفرات الذي أتاح ولادته القرض الشهير بقيمة 120 مليون روبل عام 1966، كما وضّبت اتفاقية التعاون الاقتصادي الفني المبرمة بين سوريا والاتحاد السوفييتيّ عام 1972 قرضاً مهماً آخر بقيمة 25 مليون روبل، وذاك هو الذي موّل مشاريع استخراج النفط في حينها.
تحاول روسيا من خلال "الفيلق الخامس" الذي أنشأته وتشرف عليه تأسيس تواجدٍ عسكري برّي لها تستند مفاصله الأساسية على قبولٍ اجتماعي لا يحمل التباسات مذهبيّة
وعلى الرغم من أرقام التبادل التجاري المتواضعة بين سوريا وروسيا خلال السنوات الماضية، حيث وصلت قيمة الصادرات الروسية إلى سـوريا عام 2011 إلى نحو 2.1 مليار دولار، وهذا مثّل 13 في المئة من إجمالي الواردات السورية، في حين لم تتجاوز نسبة الصادرات الســورية إلى روسيا 0.1 في المئة من إجمالي حجم صادراتها البالغ 13.5 مليار دولار. لكننا لم نكن نشعر بغياب روسيا عن تصريحات أغلب المسؤلين السوريين، وأهمها ما نطق به وزير الاقتصاد والتجارة الخارجيّة السوري في شهر تشرين الأول / أكتوبر من العام 2016، ملخّصاً فيه تفاؤل السلطة السوريّة من اتساع دائرة الاستثمارات الروسيّة في معظم المجالات الحيوية.
الفيلق الخامس، أكثر من نافذة
ارتبط السلاح الروسي في أذهان عامة الناس بالسلاح الذي يملكه الجيش السوري، سلاحٌ تطور داخل كتلة من الشائعات المطمئنة كان يمكن سماعها من العسكريين وهم يقولون "نحن نملك أسلحة روسيّة سريّة، تضاهي في تطوّرها تلك التي تمتلكها إسرائيل". ولم يرَ السوريون أيّاً من تلك الأسلحة المتطورة، فبقي جيش النظام يقاتل طيلة السنوات الماضيّة بأسلحته المعروفة للجميع، المعروضة في الثكنات العسكرية أمام أعين المارة. لكن روسيا لم تكتف بقاعدتها العسكرية الموجود في مدينة طرطوس منذ العام 1971، ولا بطائراتها الحربيّة الحديثة الرابضة في مطار "حميميم" العسكري في ريف اللاذقية، إذ أنها أعلنت في أواخر شهر تشرين الثاني / نوفمبر من العام الماضي تأسيس تشكيل عسكري في سوريا حمل اسم "الفيلق الخامس". وقد سوّقته السلطات السورية على نطاقٍ واسع مستعينةً بالرسائل الخلوية القصيرة تارةً، وبالصيغ الترغيبيّة لدى جهات القطاع العام ذات الصلة، والميلشيات العسكريّة الموالية لها تارةً أخرى. غير أن المنخرطين فيه لمسوا فروقاتٍ جوهرية على مستوى المعاملة العسكرية التي يقدّمها لهم الضباط الروس المشرفين على إدارة الفيلق، مقارنةً بالمعاملة التي كانوا يتلقونها من الضباط السوريين خلال الحرب الحالية، أو قبلاً خلال خدمتهم العسكرية. وهم يتناقلون أيضاً بأن الضباط الروس رفضوا أن يقوم الضباط السوريين بتوزيع المرتبات الشهرية، وأصرّوا على توزيعها بالدولار وبإشرافهم المباشر. ولا يقل الدخل الشهري الذي يتقاضونه عن 220 دولار، وهو دخل جيد مقارنةً بالمتوسط العام للدخول في سوريا.
تحاول روسيا من خلال "الفيلق الخامس" تأسيس تواجدٍ عسكري برّي لها تستند مفاصله الأساسية على قبولٍ اجتماعي لا يحمل التباسات مذهبيّة. لذا نجد أن نائب رئيس هيئة الأركان "فلاديمير بابوف" هو المشرف المباشر على شؤون الفيلق. بهذا يصير للنفوذ الروسي داخل سوريا كثافةً قائمة على متغيرات جيو ــ سياسيّة وأخرى سوسيولوجيّة رتّبتها على مهلٍ سنوات الحرب الماضية. ومعها تدخل روسيا من النافذة وتخرج من البحر، حاملةً في شهر كانون الثاني / يناير إلى مفاوضات "أستانة" مشروع دستورٍ جديد لسوريا، تاركةً البلاد تنضج على نارٍ هادئة.