انتشرت مؤخراً مبادرات متنوّعة من أجل تيسير الزواج في محافظات مصرية مختلفة، بالإضافة إلى مواقع التواصل الاجتماعي التي حفلت بكثيرٍ منها. وقد ظهرت تلك المبادرات بالأساس من أجل التخفيف من متطلبات الزواج، وضرورة التنازل عن كثير من الأشياء التي تثقل كاهل الشبان والفتيات، سواء لجهة تخفيف المهور، أو لإلغاء شرط الذهب، أو لإلغاء أحد متطلّبات السكن غير الضرورية أو المُلحّة. وترتبط تلك المبادرات بالتأكيد بالواقع الاقتصادي وما له من تداعيات اجتماعية جمّة.
الزواج في مصر: أرقام هامة
ازدادت في مصر خلال الفترة الأخيرة ظاهرة تأخُّر سن الزواج، أو ما يُطلق عليه مصطلح "العنوسة". فوفقاً لـ "الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء" فإن عدد الشبان والفتيات الذين تجاوز عمرهم 35 عاماً من دون زواج بلغ 13 مليون شاب وفتاة في مطلع العام الحالي، منهم 2.5 مليون شاب و10.5 مليون فتاة، وأن نسبتهم تختلف من محافظة إلى أخرى، حيث بلغت في المحافظات الحدودية 30 في المئة، ومحافظات الوجه البحري 27.8 في المئة، والصعيد 25 في المئة. في حين تبلغ حالات الزواج العرفي في مصر حوالي 88 ألف حالة، أي بنسبة 9 في المئة من إجمالي عقود الزواج.
ويرتبط ذلك بالوضع الاقتصادي للشباب المصري، حيث أشارت إحصائية صادرة عن الجهة الرسمية نفسها خلال العام الجاري إلى أنّ معدل البطالة بين الشباب يبلغ 27.3 في المئة، في حين أنّ هناك أرقاماً غير رسمية تؤكد أنّ الرقم أكبر من ذلك بكثير. وفي كل الأحوال، فذلك يعكس وضعاً متردياً للشباب يؤثر بالتأكيد على إقبالهم على الزواج، خاصةً في ظل ارتفاع تكاليفه ومتطلباته بشكل يجعله شبه مستحيل.
نماذج لمبادرات مجتمعية
أحد أبرز المبادرات التي انتشرت مؤخراً، مبادرة "بلاها شبكة"، وتم تدشينها بالصعيد جنوب مصر، وتقوم على التخلّي عن الشَبكة وهي عبارة عن الذهب الذي يقدّمه العريس للعروس، وذلك من أجل تقليل تكاليف الزواج، خاصةً في ظل ارتفاع أسعار الذهب بشكل قياسي. كذلك انطلقت من محافظة بني سويف بصعيد مصر إلى محافظات أخرى مبادرة "زواج بدون ذهب"، والتي طالبت أيضاً بإلغاء الذهب من قائمة طلبات العروس. وفي السياق ذاته انطلقت مبادرة شبابية أخرى اسمها "اتجوزوا ببساطة" وتهدف بالأساس إلى تخفيف تكاليف الزواج، ودعا القائمون عليها إلى ضرورة التبسيط في متطلبات الزواج وعدم وضع "الحفاظ على المكانة الاجتماعية" كعائق أمام ذلك.
عدد الشبان والفتيات الذين تجاوز عمرهم 35 عاماً من دون زواج بلغ 13 مليون شاب وفتاة في مطلع العام الحالي، منهم 2.5 مليون شاب و10.5 مليون فتاة
وكذلك ظهرت مبادرة "عايز أتجوز" التي اتسمت بتفاعل عدد كبير من رواد مواقع التواصل الاجتماعي معها، خاصة في ظل تأكيدها على التداعيات الاجتماعية الخطيرة للمغالاة في تأخّر سن الزواج مثل زيادة معدلات الجريمة، إقبال الشباب على المخدرات، ظاهرة الأطفال اللُقطاء، انتشار الاضطرابات النفسية لدى الشباب..
وفي محافظة الجيزة، نظّم بعض الأهالي بقرية "البراجيل" التابعة لمركز أوسيم مؤتمراً بعنوان "مبادرة تيسير الزواج" بحضور كبار العائلات والأسر، استهدف التخلّي عن بعض المطالب المبالغ فيها مثل الشَبكة والمَهر وغيرهما. واتفق الحاضرون على تخفيف بعض الأعباء المادية على المتزوجين مثل إلغاء "النيش"، وهو عبارة عن دولاب خشبي بواجهة زجاجية شفّافة تضع فيه المصريات المتزوجات حديثاً أكواب وأطباق وكؤوس وقطع كريستال وفضّة تكفي لعشرات الأُسَر، ويتسابقن فيما بينهن على كمّ وقيمة محتوياته التي لا استخدام لها بالأساس في الغالب ولا طائل منها، وهو أحد المتطلبات الرئيسية التي دشّن العديد من الشباب "ثورة فيسبوكية" عليه، مطالبين بإلغائه باعتباره غير ضروري ومكلّف ويرتبط بفكرة الوجاهة الاجتماعية لا أكثر.
هل تنجح الجهود المجتمعية وحدها؟
تأتي تلك المبادرات كانعكاس للتغيُّرات الاقتصادية السلبية، خاصة خلال السنوات القليلة الماضية، وانعكاساتها على أسعار السلع وأسعار العقارات. وفي هذا الإطار، فإنه لا بد التأكيد على أن تلك المبادرات هي ردّ فعل طبيعي من العقل الجمعي من أجل مواجهة ظاهرة تأخُّر سن الزواج وتداعياته، كذلك فإنه من اللافت أن أغلب تلك المبادرات تنطلق من أكثر المناطق تمسُّكاً بالعادات والتقاليد، وهي محافظات الصعيد، وهو يدلّ على أن هناك أزمة تتطلّب جهوداً مجتمعية تتجاوز أي إرث قديم وتقليدي لا يفعل غير زيادة الأزمة. واللافت أيضاً هو التجاوب الكبير لدى قطاع عريض من المواطنين مع تلك المبادرات، وهو ما جعلها تتسم بالكثرة والتنوُّع والدينامية.
تلك الجهود المجتمعية هي في النهاية حلول فرديّة بالأساس، وقد تحلّ جزءاً بسيطاً من أزمة صعوبة الزواج في مصر وتأخُّر سنه، وهي تتطلب إلى جانبها جهوداً من الدولة، سواء بإصلاحات اقتصادية حقيقية لا تؤثر على الحياة المعيشية للمصريين وتوفر فرص عمل لهم، أو بحلول من خارج السائد مثل توفير متطلّبات الزواج بأسعار مخفّضة مدعومة. ومن جانب آخر، فإن الوزارات المَعنية مثل الإعلام والشباب والثقافة والأوقاف وكذلك الأزهر، مطالَبون بحملات توعوية تُغيّر من ثقافة المصريين بشكل عام في اتجاه تيسير متطلبات الزواج.
وأخيراً، فإن عدوى تلك المبادرات المجتمعية سوف تستمر في الانتشار، خاصةً أن محرّكاتها ودوافعها وأسبابها ما زالت قائمة وآخذة في التزايد بشكل كبير، خاصةً مع الإجراءات الاقتصادية الأخيرة.. وسيظلّ هناك تفاعل مجتمعي كبير معها.