التعليم في العراق: منحنيات الانهيار

انهيار قطاع التعليم الحكومي، وتفشي الفساد في المؤسسة التربوية، وانتقال وزارة التربية من حزب إلى حزب باعتبارها واحدة من القسائم الانتخابية التي تخضع للمحاصصة الطائفية وفقاً للنظام العراقي بعد 2003، والسيطرة على التعليم (الأساسي والعالي) باعتباره عقود ومناقصات تدر على الحزب المسيطِر عليه مليارات الدولارات، برّر نشوء قطاع خاص للتعليم. 
2023-12-06

ميزر كمال

كاتب وصحافي من العراق


شارك
| en
مدرسة في مخيم للنازحين في العراق

تم انتاج هذا المقال بدعم من مؤسسة روزا لكسمبورغ. يمكن استخدام محتوى المقال أو جزء منه طالما تتم نسبته للمصدر.

حُرم 700 ألف تلميذ، من أصل 1.8 مليوناً في إقليم كردستان العراق من تعليمهم هذه السنة بسبب مقاطعة الكوادر التدريسية للدوام. وكان يُفترض أنهم جزء من ال13 مليون طالب عراقي بدأوا العام الدراسي (2023 - 2024) في صفوف جديدة، ويحصلون على مناهج مدرسية كاملة، وتستقبلهم كوادر تدريسية عند أبواب المدارس. هذه أزمة يعيشها العراق بسبب المشاكل السياسية بين بغداد (عاصمة المركز) وأربيل (عاصمة إقليم كردستان) والتي ألقت بظلالها على رواتب الموظفين في جهاز تربية إقليم كردستان، وبالتالي على النظام التعليمي.  

في السادس والعشرين من تشرين الثاني/ نوفمبر 2023، توجه أكثر من 1000 معلم كردي إلى بغداد، للمطالبة بصرف مستحقاتهم المتأخرة منذ شهور، وعرْض مطالبهم في ساحة التحرير، كأوّل مظاهرة كردية منذ تأسيس العراق الحديث في تلك الساحة ذات الرمزية العالية. لكن القوات الأمنية الاتحادية أوقفتهم ومنعتهم من العبور عبر محافظة كركوك.  

أزمة الرواتب ليست الوحيدة، فالعراق يشهد انهياراً في قطاع التعليم منذ الحرب العراقية الإيرانية، مروراً بالحصار (1990-2003) وصولاً إلى لحظة الاحتلال الأمريكي للعراق، التي ما زالت آثارها مستمرةً حتى الآن.  

بدايات الانهيار  

قبل الحرب العراقية الإيرانية، كان الإنفاق في مجال التعليم يبلغ 6 في المئة من الناتج القومي الإجمالي، و20 في المئة من ميزانية الحكومة العراقية، وكان التسرب من المدرسة هو من أدنى المعدلات في منطقة الشرق الأوسط. ما خسره العراق في مجال التعليم خلال تلك الحرب كان قاسياً حيث انخفض الإنفاق عليه من الناتج القومي الإجمالي إلى النصف (3.3 في المئة) وتقلصت مخصصات التعليم من ميزانية الحكومة إلى 8 في المئة فقط، وقفز معدل التسرب من المدرسة إلى 20 في المئة.  

أثر الخسارة في نظام التعليم يظهر بوضوح عند قراءة الخسائر الاقتصادية للحرب، وحيث يعتمد العراق على النفط مورداً أساسياً لدخله القومي. فقد قدرت خسائر العراق من الإيرادات النفطية بما يناهز 260  مليار دولار. بينما قتل أكثر من مليون شخص (من العراق وإيران). وحتى مع نهاية الحرب العراقية الإيرانية والخسائر الفادحة التي وقعت، كان العراق ما يزال ضمن مستوى الدول النامية في المنطقة والعالم فيما يخص قطاع التعليم، وأحياناً كانت المؤشرات البحثية والتقارير تضعه متفوقاً قليلاً.

مقالات ذات صلة

لكن الفترة التي عاد فيها العراق ونظام التعليم فيه إلى العصور المظلمة، كانت الحصار الذي امتد 13 سنةً، دُمِّرت خلالها البنية التحتية للتعليم والأسس الأخلاقية للمنظومة كلها، فمن معدل إنفاق بلغ 675 دولاراً للطالب الواحد/السنة، في العام 1978، إلى معدل إنفاق لم يتجاوز 29 دولاراً للطالب الواحد/السنة، خلال الحصار. لكن ماذا يعني هذا الفرق؟ نظام التعليم العراقي لو أكمل مسيرته بدون حروب وما تبعها من حصار، لكان معدل إنفاق الدولة لعام 1999 على الطالب الواحد سيبلغ 1271 دولاراً. 

الانهيار المدوّي  

بعد الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، استمر قطاع التعليم في الانهيار الذي كان يُرى بالأرقام والعين المجردة، وظل العراق ضمن نطاق الدول النامية في إجمالي الإنفاق على التعليم، فلم يتجاوز - بعد رفع الحصار - 8 في المئة، وبينما كانت الزيادة السكانية في ارتفاع سريع، والفجوة الاقتصادية بين الطبقات الاجتماعية تتسع، وتظهر نتائجها في النظام التعليمي، كانت الدولة تفشل مع كل وزارة في استعادة مجد التعليم العراقي الذي كان نموذجاً يحكى عنه في سرد التجارب الناجحة أواسط القرن العشرين.  

بحسب التقديرات التي اعتمدت على تخصيصات التعليم في الموازنات العراقية منذ 2003 ولغاية 2021، بلغ الإنفاق الحكومي على التعليم 82 مليار دولار أمريكي، يضاف إليها أكثر من مليار دولار أعلنت الولايات المتحدة أنها صرفتها على تطوير التعليم في العراق وللفترة نفسها.  

قبل الحرب العراقية الإيرانية، كان الإنفاق على مجال التعليم يبلغ 6 في المئة من الناتج القومي الإجمالي، و20 في المئة من ميزانية الحكومة العراقية. وكان التسرب من المدرسة هو من أدنى المعدلات في منطقة الشرق الأوسط. ما خسره العراق في مجال التعليم خلال تلك الحرب كان قاسياً حيث انخفض الإنفاق عليه من الناتج القومي الإجمالي إلى النصف (3.3 في المئة) وتقلصت مخصصات التعليم من ميزانية الحكومة إلى 8 في المئة فقط، وقفز معدل التسرب من المدرسة إلى 20 في المئة.   

على الرغم من أن هذا الرقم يعد منخفضاً فيما لو قورن بحجم الميزانيات السنوية لتلك الفترة، والتي كان العراقيون يطلقون عليها لقب "الميزانيات الانفجارية"، لكنه يظل رقماً كبيراً صُرف على قطاع ما زالت فيه المدارس الطينية مكاناً لآلاف الطلبة، الذين لم تتسع لهم خدمات النظام الجديد المؤسس على سرقة تلك الميزانيات الانفجارية، والاستحواذ على الإنفاق المخصص ليس للقطاع التعليمي وحسب، وإنما لبقية القطاعات الأخرى: الصحة، الأمن، الخدمات. 

____________
من دفاتر السفير العربي
عشـرون عامـاً على الحرب على العـراق
____________

مثل كل شيء تسيطر عليه المافيات الطائفية في العراق، يسيطر على وزارة التربية النائب في البرلمان العراقي مثنى السامرائي، رئيس تحالف العزم "السُنّي"، وهو سياسي متورط بصفقات فساد كبيرة، وسبق للادعاء العام العراقي أن وجه عام 2020 مذكرة إلى مجلس النواب تطالبه برفع الحصانة عنه، لتورطه بعقد "التأمين الصحي" الذي أبرمته وزارة التربية مع شركة "أرض الوطن" المملوكة لمستثمرين لبنانيين. طلب الادعاء العام رفع الحصانة عن السامرائي كان تمهيداً لمحاكمته مع وزيرة التربية سهى العلي وشخصيات أخرى كان السامرائي يتحكم بها، وتدين بالولاء له، لأن وزارة التربية هي من حصته وفقاً لمبدأ "النقاط" الذي تعتمده الكتل السياسية داخل البرلمان في توزيع المناصب في أيّ حكومة يُتفق على تشكيلها.  

بلغت قيمة عقد التأمين ذاك 41 مليار دينار عراقي (33 مليون دولار). وقد كُشفت الصفقة بسبب خلافات بين الأحزاب السُنيّة على تقاسم قيمة العقد في الوزارة التي يبلغ عدد موظفيها أكثر من 700 ألف موظف، يُستقطع من كل موظف 5500 دينار عراقي شهرياً لقاء خدمات صحية لن يحصلوا عليها أبداً، لأن العقد يتطلب وجود بنىً تحتية ليست موجودة في العراق، فلم يُطبق العراق قانون الضمان الصحي إلا في عام 2023 وما يزال في مراحله التجريبية.  

لم تُرفع الحصانة عن النائب السامرائي، ولم يُقدم للمحاكمة. كل ما حدث، وبعد تسويات سياسية، أن أصدرت محكمة جنايات مكافحة الفساد المركزيَّة حكماً حضورياً بالحبس مدَّة ثلاث سنوات بحق مدير حسابات الموازنة في وزارة التربية، لافتةً إلى أنَّ الحكم جاء على خلفيَّة أخذ مبالغ ماليَّة مقابل تمرير عقد التأمين الصحيّ بين الوزارة وشركة "أرض الوطن". وبطبيعة الحال، عند معرفة أن السامرائي حليف للجناح السياسي والعسكري التابع لإيران، يُفهم لماذا صفقة بقيمة 33 مليون دولار، يُحاسب عليها مدير حسابات فقط، ويُطلق سراح الوزيرة سها العلي. لمثنى السامرائي عبارة شهيرة، ذكرها وهو يروّج لحزبه في الانتخابات المحلية التي ستجري نهاية 2023، يقول فيها: "كلنا أبناء أب واحد، هو العراق". 

التعليم في الوحل 

في كانون الأول/ديسمبر 2022 أعلن رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني، عن حاجة العراق إلى ثمانية آلاف مدرسة من أجل سد النقص في البنى التحتية للتعليم. وبينما هو يتحدث كان أكثر من مليون و400 ألف طالب جديد يدخلون المدارس، جزء منهم - عندما يحمل حقيبته الجديدة، ويودع أهله للذهاب إلى أول درس سيتلقاه في حياته - سيضطر إلى الجلوس على الأرض (يصل تكدسهم أحياناً في الصف الواحد إلى 45 طالباً) في مدرسة طينية، قد يسقط سقفها في أي لحظة. إذ  أمرت مديرية تربية الرفاعي،في آذار/مارس 2023، بإخلاء 16 مدرسة طينية معرّضة للانهيار في أي لحظة، بينما كشفت عن وجود 27 مدرسة طينية في قضاء الرفاعي وناحية النصر. وهما مدينتان قريبتان من مدينة الوركاء، هناك حيث كانت للكتابة والقراءة آلهة اسمها نيسابا، "السيدة/الآلهة التي أينما حلّت تحلُّ الكتابة"، المرأة التي "تحمل قلم الذهب، وتدرّس في لوح الطين، وتصف السماء المرصعة بالنجوم".  

الفترة التي عاد فيها العراق ونظام التعليم فيه إلى العصور المظلمة، كانت الحصار الذي امتد 13 سنةً، دُمِّرت خلالها البنية التحتية للتعليم والأسس الأخلاقية للمنظومة كلها. ومن معدل إنفاق بلغ 675 دولاراً للطالب الواحد/السنة في العام 1978، إلى معدل إنفاق لم يتجاوز 29 دولاراً للطالب الواحد/السنة خلال الحصار. 

نقص البنى التحتية واحدة من مشكلات التعليم الكبرى في العراق، وهناك مشكلة أخرى هي نقص الكوادر التدريسية. فعلى الرغم من أن العراق يعتبر واحداً من أكثر البلدان في عدد الموظفين الحكوميين (أكثر من 4 ملايين موظف) كشف الناطق باسم وزارة التخطيط عن "فجوة تراكمية للملاكات التربوية المتنوعة تقدر بحسب إحصائيات الوزارة بـ743 87 موظف. وفصّل هذا النقص الكبير بحاجة قطاع التعليم إلى199 3 معلمة لرياض الأطفال، بينما يبلغ احتياج المدارس الابتدائية 353 66 معلّم/ة وتحتاج المدارس الثانوية والمتوسطة والإعدادية إلى191 18 مدرس/ة. ويعتبر نقيب المعلمين أن هذا التباين والنقص بين عدد الطلبة والكوادر التدريسية، سببه "المحسوبية والواسطات".  

ويحدث بالتوازي مع كل ذلك ارتفاع في نسبة التسرب من المدرسة يصل إلى 35 في المئة في المرحلة الابتدائية، و45 في المئة في المرحلة الثانوية. وفي إعلان يثير القلق، تقول اليونيسيف إن 3.2 مليون طفل عراقي في سن الدراسة هم خارج أسوار المدرسة.  

يُفسَّر هذا الانهيار بمراحل العنف والتفكك التي مرّ بها العراق بعد 2003. فالبلد لم يشهد فترة آمنة منذ سقوطه في وحل الديمقراطية الأمريكية. وتجربة تنظيم داعش القاسية، وما تلاها من نزوح جماعي بلغ ذروته عام 2015 "بأكثر من 4.4 مليون عراقي، وربع مليون لاجئ" شوّهت كثيراً ملامح التعليم في البلاد.  

بعد أن أعلن العراق عن خلّوه من الأمية نهاية الثمانينيات، شرّع مرة أخرى قانوناً لمحو الأمية، "قانون رقــم 23 لسنة 2011" وجاء في نصه: "بغية القضاء على الأمية الناتجة عن ظروف المرحلة السابقة وانطلاقاً مما يتضمنه الدستور من كون التعليم عاملاً أساسياَ لتقدم المجتمع وحقاً تكفله الدولة للمواطنين، وتنفيذاً لمهماتها في مكافحة الأمية وإيصال الأميين إلى المستوى الحضاري الذي يمكّنهم من تطوير حياتهم ثقافياً واجتماعياً واقتصادياً وتمكينهم من ممارسة حقوق المواطنة الصالحة والتزاماتها".  

بعد تشريع القانون، أطلقت وزارة التربية ما قالت إنها "الإستراتيجية" التي ستقضي على الأمية في العراق، وأعلنت عن "فتح مراكز محو الأمية في الأقضية والنواحي ومراكز المدن، وتسجيل المشمولين في هذا القانون ثم مباشرة دورات متتابعة لمحو الأمية... وكذلك دورات تدريبية لمعلمي محو الأمية، الذين سيشاركون في الحملة، من أجل تطوير قدراتهم ومهاراتهم في هذا المجال، فضلا عن طبع آلاف الملصقات التي تشجّع على الالتحاق بهذه الدورات". وفي حديث لموقع الجزيرة قال مدير إعلام وزارة التربية آنذاك: "إنه سيتم تشكيل هيئة عليا لمتابعة وتنفيذ فقرات القانون من خلال لجان يشارك فيها أعضاء من كافة مديريات التربية في مناطق العراق المختلفة والوزارات المعنية بتنفيذ القانون... والعمل متواصل لتشكيل مجلس محو الأمية في كل محافظة، بهدف القضاء على الأمية لدى هذه الفئات وضمان عدم الارتداد إليها".  

بعد هذه البروباغندا الحكومية باثنتي عشرة سنة، وتحديداً عام 2022، قالت اليونيسيف إن الأمية في العراق تبلغ 47 في المئة من البالغين بواقع 11 مليون عراقي. وبينما نفى العراق هذه الأرقام التي وصفها بأنها "مبالغ بها" نشرت وزارة التخطيط بعد عام بيانات لمعدلات الأمية، التي - بحسب الوزارة - بلغت 12.3 في المئة في عموم مدن البلاد. وترتفع معدلات الأمية في صفوف الإناث إلى حوالي 28 في المئة وتقدر في صفوف الذكور بنحو 13 في المئة.  

في نهاية 2022 أعلن رئيس الوزراء العراقي عن الحاجة إلى 8 آلاف مدرسة لسد النقص في البنى التحتية للتعليم. حينها كان أكثر من مليون و400 ألف تلميذ جديد يدخلون مدارس، سيجلس جزء منهم على الأرض في مدارس طينية، قد يسقط سقفها في أي لحظة. وفي آذار/مارس 2023، أمرت مديرية تربية الرفاعي بإخلاء 16 مدرسة طينية معرّضة للانهيار.

نقص البنى التحتية واحدة من مشكلات التعليم الكبرى في العراق، وهناك مشكلة أخرى هي نقص الكوادر التدريسية. فعلى الرغم من أن العراق يعتبر واحداً من أكثر البلدان في عدد الموظفين الحكوميين (أكثر من 4 ملايين موظف)، كشف الناطق باسم وزارة التخطيط عن فجوة تراكمية للملاكات التربوية المتنوعة تقدر بحسب إحصائيات الوزارة بـ743 87 ألف موظف. 

هذا كله يحدث مع دوّامة نقص في كتب المناهج التدريسية، فالعائلة العراقية تضيف إلى مصاريف التعليم الحكومي، ثمن شراء الكتب لأبنائها، لأن "بزنس" طباعة المناهج الدراسية يدخل في صفقات الفساد أيضاً، والاستيلاء على المطابع التابعة لوزارة التربية، وإبرام عقود مع مطابع خارج العراق وتغيير المناهج الدراسية كل بضع سنوات، هذا كله يدرّ على الجهات المسيطرة على التعليم ووزارة التربية أرباحاً كبيرة. وهناك قضية بيع مطبعة النهرين التابعة لوزارة لتربية التي مرّت كما مرّت صفقة "التأمين الصحي" ولم يحدث شيء، سوى إضراب لنقابة المعلمين في 2019، طالبوا بفتح تحقيق في الصفقة، لكن أحداً لم يسمعهم، وعادوا من بعد إضرابهم إلى دوامهم الرسمي.  

التعليم الخاص.. استثمار السلطة في الخراب 

انهيار قطاع التعليم الحكومي، وتفشي الفساد في المؤسسة التربوية، وانتقال وزارة التربية من حزب إلى حزب، باعتبارها قسيمة انتخابية تخضع للمحاصصة الطائفية وفقاً للنظام العراقي بعد 2003، والسيطرة على التعليم (التربوي والتعليم العالي) باعتباره  عقوداً ومناقصات تدر على الحزب المسيطر عليها مليارات الدولارات، برّر نشوء قطاع خاص للتعليم. وفي أخر إحصاءاتها، كشفت وزارة التربية عن وجود أكثر من 1400 روضة أطفال أهلية في البلاد (عدا إقليم كردستان)، بينما بلغ عدد المدارس الأهلية الابتدائية والثانوية 2884 مدرسة، احتلت بغداد فيها المركز الأول بواقع 902 مدرسة أهلية، تلتها البصرة بواقع 566 مدرسة، بينما بلغ عدد المدارس الحكومية المتلكئ إنجازها بسبب صفقات الفساد، 1031 مدرسة، من ضمنها مئات المدارس ضمن ما يُعرف بمشروع رقم 1.  

المشروع رقم (1) هو واحد من أشكال الانهيار في نظام التعليم العراقي. ففي عام 2011 أطلقت السلطات العراقية المشروع الذي يهدف إلى هدم المدارس القديمة وبناء 1700 مدرسة جديدة بديلاً عنها، ووفقاً لاستراتيجية المشروع الذي بلغت كلفته 200 مليون دولار، جرى هدم 1700 مدرسة، لكن الفساد المستشري في وزارة التربية حال دون تعويض المدارس المهدمة، والتلكؤ في بناء المدارس، مما خلق أزمة كبيرة تمثلت فيما بعد بأسلوب الدوام المزدوج، والدوام الثلاثي، حيث يضطر التلاميذ والكوادر التدريسية إلى استخدام المدرسة الواحدة، للدراسة الابتدائية والمتوسطة والإعدادية بنظام "الشيفت".  

هناك ارتفاع في نسبة التسرب من المدرسة يصل إلى 35 في المئة في المرحلة الابتدائية، و45 في المئة في المرحلة الثانوية. وفي إعلان يثير القلق، تقول اليونيسيف إن 3.2 مليون طفل عراقي في سن الدراسة هم خارج أسوار المدرسة.  

تضيف العائلة العراقية إلى مصاريف التعليم الحكومي ثمن شراء الكتب لأبنائها، لأن "بزنس" طباعة المناهج الدراسية يدخل في صفقات الفساد أيضاً، والاستيلاء على المطابع التابعة لوزارة التربية، وإبرام عقود مع مطابع خارج العراق وتغيير المناهج الدراسية كل بضع سنوات، هذا كله يدرّ على الجهات المسيطرة على التعليم ووزارة التربية أرباحاً كبيرة. 

نمو التعليم الخاص، أغرى الأحزاب والمليشيات بالسيطرة عليه، فبدأت ظاهرة الجامعات والكليات الخاصة، التي صارت واحدة من مصادر تمويل تلك الجهات. وبحسب وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، هناك 72 جامعة وكلية خاصة، تستقبل الطلبة على نفقاتهم الخاصة، مقابل 35 جامعة حكومية. 

 الربح على حساب جودة التعليم هو ما أخرج العراق عام 2021 من مؤشر دافوس لجودة التعليم، مع كل من اليمن وسوريا وليبيا والصومال والسودان. ونمو سوق الدراسة الخاصة هو ما جعل مليشيا "عصائب أهل الحق" تختار وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، قسيمةً لها ضمن حصص الحكومة الحالية، وتعيين المتحدث باسمها نعيم العبودي، وزيراً للتعليم العالي.   

وفقاً للقانون العراقي، تعطي الجامعات الخاصة نسبة 3 في المئة من عائداتها السنوية للوزارة، بالإضافة إلى الشراكات والعقود، وشركات الحماية الأمنية، واستقطاب الموالين، وتكوين قاعدة جماهيرية لتلك الأحزاب والمليشيات من خلال تقديم تسهيلات دراسية للطلبة الذين يشاركون في الفعاليات السياسية، ويصوتون للجهة التي تملك تلك الجامعة.  

المشروع رقم (1) هو واحد من أشكال الانهيار في نظام التعليم العراقي. ففي عام 2011 أطلقت السلطات المشروع الذي يهدف إلى هدم المدارس القديمة وبناء مدارس جديدة بديلاً عنها، وبلغت كلفته 200 مليون دولار. جرى هدم 1700 مدرسة، لكن الفساد المستشري في وزارة التربية حال دون بناء المدارس، مما خلق أزمة كبيرة تمثلت فيما بعد بأسلوب الدوام المزدوج، والدوام الثلاثي. 

الحصول على شهادة عليا يزيد من الامتيازات في العراق. ينمو الفساد سريعاً كلما زاد عدد الباحثين عن الماجستير والدكتوراه، فوزارة التعليم العالي تسجل سنوياً ما يقترب من 50 ألف شهادة ماجستير ودكتوراه، معظمها تُمنح لأشخاص يدرسون في جامعات خاصة، والوجهة الأسهل للحصول على لقب علمي هي إيران ولبنان.  

عام 2021 أُحيل الملحق الثقافي في السفارة العراقية بلبنان إلى التحقيق، بعد أن بلغ عدد الشهادات الصادرة للطلاب العراقيين سنة 2020 في لبنان قرابة 27 ألف شهادة.  في العام نفسه، علّقت وزارة التعليم العراقية الدراسة في ثلاث جامعات لبنانية هي: الجامعة الحديثة للإدارة والعلوم، الجامعة الإسلامية في لبنان، وجامعة الجنان، لأنها بحسب الوزارة "لم تلتزم بمعايير الرصانة العلمية".  ولدى الجهات السياسية/المسلحة، فإن وزارة التعليم العالي مصدر للثراء، ومركز للنفوذ أيضاً. والحصول على الشهادات العليا حلم كل سياسي يطمح أن يصبح وزيراً وينادى: "المعالي دكتور فلان".   

من هؤلاء المعالي نعيم العبودي وزير التعليم العالي شخصياً. فقصة تعيينه تشرح الكثير عن الوضع المزري لنظام التعليم في العراق. يصف العبودي كيف تلقى اتصالاً هاتفياً في منتصف الليل (ساعة 12 ليلاً) من زعيم مليشيا عصائب أهل الحق، قيس الخزعلي، قال له: "بدّل ملابسك وتعال لتصبح وزير التعليم العالي".   

وزير التعليم العالي والبحث العلمي، كان ناطقاً باسم مليشيا عصائب أهل الحق، وهو يحمل شهادة الدكتوراه في اللغة العربية وماجستير في حقوق الإنسان من الجامعة الإسلامية في لبنان، التي علقت وزارة التعليم العالي والبحث العلمي الاعتراف بها.  

هنالك العشرات من المسؤولين الكبار في مناصب حساسة في الدولة العراقية، حصلوا على شهاداتهم العليا من تلك الجامعة، منهم على سبيل المثال لا الحصر فائق زيدان، رئيس مجلس القضاء الأعلى، وحميد الغزي، أمين عام مجلس الوزراء.  

نمو التعليم الخاص، أغرى الأحزاب والمليشيات بالسيطرة عليه، فبدأت ظاهرة الجامعات والكليات الخاصة، التي صارت واحدة من مصادر تمويل تلك الجهات. وبحسب وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، هناك 72 جامعة وكلية خاصة، تستقبل الطلبة على نفقاتهم الخاصة، مقابل 35 جامعة حكومية. 

وزير التعليم العالي والبحث العلمي كان ناطقاً باسم مليشيا "عصائب أهل الحق"، وهو يحمل شهادة الدكتوراه في اللغة العربية وماجستير في حقوق الإنسان من الجامعة الإسلامية في لبنان، التي علّقت وزارة التعليم العالي والبحث العلمي العراقية الاعتراف بها. 

التعليم ليس منفصلاً عن بقية قطاعات الحياة، وانهياره يؤثر على الهيكل الإداري الكّلي للدولة، وواحدة من تشوهات نظام التعليم الحالي تظهر على القطاع الصحي، ويحذر من هذا التشوه نقيب الصيادلة العراقيين، الذي يخشى من "انهيار للواقع الصحي بشكل رهيب" بسبب مستوى التعليم الطبي في العراق. وواحدة من التوصيات المقدمة من قبل نقابة الصيادلة ووزارة التخطيط لمجلس الوزراء هي إيقاف افتتاح كليات طبية، حكومية أو خاصة، بسبب تضخم عدد الأطباء والصيادلة إلى درجة "لا تطاق".   

بحسب النقيب، فأنه وبحلول 2030، سيكون في العراق نحو 98 ألف صيدلي فائض عن الحاجة، بمعنى أنهم سيكونون في عداد العاطلين عن العمل، وهذا التشوه الذي يسببه تدهور التعليم في العراق والفوضى اللاحقة به يحرم البلاد من عوائد وأجور سوق العمل، فخسائر العراق بسبب "التراخي" في نظام التعليم تتراوح بين 17.65 - 29.95 نقطة مئوية من الناتج المحلي الإجمالي. وهذه الخسائر هي بشكل أساسي للتدفقات النقدية التي كان العراق سيربحها لو أن شبابه تلقوا التعليم بالمستوى ذاته الذي يتلقاه الشباب في البلدان ذات متوسط الدخل المرتفع.

اقرأ أيضا: "التعليم قضية"

______________________

*النص الرابع من دفتر "انهيار التعليم العام في منطقتنا يرهن المستقبل" بدعم من مؤسسة روزا لوكسمبورغ.

محتوى هذا المقال هو مسؤولية السفير العربي ولا يعبّر بالضرورة عن موقف مؤسسة روزا لكسمبورغ.

مقالات من العراق

بغداد وأشباحٌ أخرى

نبيل صالح 2024-12-01

عُدتُ إلى بغداد ولم أعد. تركتُ قُبلةً على قبر أُمي ورحلتُ. ما حدث ويحدث لبغداد بعد الغزو الذي قادته جيوش الولايات المتحدة الأمريكية، هو انتقامٌ من الأسلاف والتاريخ معاً.

فتاة كقصبة ال"بامبو"

فؤاد الحسن 2024-09-29

"فاطمة" لم تستطع نيل موتها، على الرغم من دنو الموت، وتنفسه الثقيل الملتصق بتراب الأرض. فقد اختُطِفت مِن قِبل عناصر تنظيم "داعش"، على الرغم من سنواتها التسع، التي لم تنضج...

للكاتب نفسه

تعبانة.. عن صحة العراق النفسية

ميزر كمال 2024-06-27

لا يتجاوز إنفاق العراق على الصحة النفسية نسبة 2 في المئة من ميزانية القطاع الصحي، الذي بدوره لا تتجاوز نسبة مخصصاته في الموازنة حاجز 5 في المئة من الموازنة الثلاثية...

أنا كل هذه الوجوه الميتة

ميزر كمال 2023-08-11

الأرقام تقول إن 200 ألف مدني قُتلوا في تلك الحرب، ومثلهم من الجنود، أبناء هؤلاء المدنيين. لكن لا أحد يحصي أعداد الخائفين في أوقات الحرب، الذين نجوا من الموت لكنهم...