مصر: "الفراغ العام" بين الباعة الجائلين والشرطة

"نروح فين؟ نعمل إيه؟ يعني نسرق عشان نعرف نعيش؟".. تُسمع هذه الجملة كل يوم من أفواه الباعة الجائلين بعد الإخلاءات القسرية التي يتعرّضون لها دائماً في شوارع القاهرة، حيث يأخذ البوليس ما يريد ويتركهم وحيدين، أو يتمّ القبضُ على بعضهم لأيّام.
2016-08-16

أمنية خليل

باحثة أنثروبولوجيا في شؤون العمران من مصر


شارك
حسام ضرار - مصر

"نروح فين؟ نعمل إيه؟ يعني نسرق عشان نعرف نعيش؟".. تُسمع هذه الجملة كل يوم من أفواه الباعة الجائلين بعد الإخلاءات القسرية التي يتعرّضون لها دائماً في شوارع القاهرة، حيث يأخذ البوليس ما يريد ويتركهم وحيدين، أو يتمّ القبضُ على بعضهم لأيّام.

آذار/ مارس 2011، بعد تنحي مبارك واستيلاء المجلس الأعلى للقوات المسلحة على السلطة وإدارة مصر، اندلعت نداءات في إذاعة وميكروفونات المترو اليومية تنادي بعدم التعامل مع الباعة الجائلين، وتحذر ركاب المترو من الحرص على ممتلكاتهم الشخصية من البائعين والبائعات "السارقين والسارقات" الجائلين والجائلات. استنكر العديد من ركاب المترو هذا النداء مثلما أيّده بعضهم. جاء الاستنكار من بعض سيدات ورجال الطبقة الوسطى وهم مَن يتعاملون بشكل يومي مع هؤلاء البائعين/ات، ويرون أن هناك عمليّة تبادلية في المصلحة لعمليات البيع والشراء داخل القطارات وفي رحلتهم اليومية من أشغالهم وإليها. ولا ينفي هذا تطلع الطبقة الوسطي للانتقال لطبقات أعلى والشّراء من أماكن "أنظف وأغلى" وفق منطق أنه "الغالي تمنه فيه". لكنهم في رحلاتهم اليومية مستخدمين المترو، يتعاملون مع باعة وبضاعة لا يختلف ثمنها كثيراً عن سعر تذكرة المترو وقتها. دارت نقاشات طويلة في عربات المترو حول هذا الموضوع مثلما دارت نقاشات حول عمر سليمان و "الراجل اللي ورا عمر سليمان" ومبارك بين مجرم وقاتل أو "ده راجل كبير أد أبوكوا .. حرام يتبهدل آخر أيامه"...

الخطاب التجريمي للباعة الجائلين/ات ليس جديداً على المجتمع المصري، سواء صدر من الجهات السلطوية والحكومية، أو من أبناء الطبقة الوسطى بشرائحها المختلفة، والطبقة العليا التي تأمل في مظاهر أكثر "نظافة". وفي السنوات الأخيرة في مصر وعلى الرغم من تعاقب السلطات والحكومات المختلفة إلّا أنّ جميعها حافظ على خطاب يحض على كراهية الباعة الجائلين/ات. وتتجدد هذه الخطابات مصحوبة بخطوات تنفيذية في الفترات الأولى من تولِّي الحكومات عملها. فمثلا، مع المجلس العسكري في آذار/ مارس 2011 جرى إخلاؤهم من قطارات المترو، مع حكومة محمد مرسي تمّ إخلاء شارع النبي دانيال في الإسكندرية من بائعي الكتب في صيف 2012، ومجدداً مع بداية حكم عدلي منصور (رئيس المحكمة الدستورية العليا سابقاً)، شنت حملة ضدهم في صيف 2013، مترافقة مع الخطاب ضد كل ما هو "إخواني" ودعوات "التنظيف" في ميادين النهضة ورابعة والتحرير ومناطق المطرية والجيزة وغيرها.. وأخيراً بعد تولي عبد الفتاح السيسي للرئاسة في صيف 2014 حصل تغيير معالم وسط المدينة وطرد البائعين/ات وغلق المقاهي.

وكالة البلح

ما هو الشارع كفراغ عام، وكيف يمكن فهم المجال العام وصراعه السياسي وممارسات العنف المتكررة بين الباعة الجائلين/ات والشرطة/السلطة. فمثلاً وفي "وكالة البلح" في بولاق أبو العلا والتي تعتبر من أقدم أسواق القاهرة، (تعود تسميتها لاستيراد البلح من جنوب وصعيد مصر عبر نهر النيل الذي يقع عليه الحي). بعد 1952، وإعلان مصر جمهورية، وتغيير الاقتصاد السياسي المتبوع بتغيير في الحالة الاقتصادية في المجتمع، ترك الجيش الإنجليزي مع جلائه عن مصر في تشرين الأول/ أكتوبر 1954 كمية كبيرة من الأقمشة والملابس والأغطية والأسلحة، تم عرضها للبيع في وكالة البلح من قبل التجار. لاحقاً في السبعينات أصدر أنور السادات مجموعة من التصاريح لعدد من التجار في الوكالة ليتمكنوا من التجارة بالملابس المستعملة القادمة من ميناء بورسعيد الذي يبعد عن بولاق قرابة 220 كيلومترا. تأتي الملابس المستعملة إلى مصر من أوروبا، خاصة من الدول الغنية اقتصادياً. وحين تصل إلى ميناء بورسعيد يتولى التُجار غسيلها وتنظيفها بالبخار وكيِّها، ثم تباع إلى التجار والموزعين. ويتراوح سعر الكيلوغرام منها بين 30 و80 جنيهاً مصرياً، ويتوقف السعر على جودة تلك الملابس و "ماركاتها".

تقع "وكالة البلح" في قلب الجانب الغربي من حي بولاق أبو العلا. والسوق مقسم لثلاث مناطق، إحداها للأقمشة ومدخلها من الكورنيش، وأخرى في شارع بولاق الجديد، والأخيرة هي المنطقة التي تقع في شارع "26 يوليو" حيث يتواجد الباعة الجائلون. اشتكى عدد منهم من الأوضاع الاقتصادية بعد "ثورة 25 يناير". وليس مصدر الشكوى "الأمن"، فحسب كما يُقال غالباً. فالمنطقة مُقسّمة مساحياً لعدد من المربعات، وكان مُتعارف أن لكل تاجر عدداً من المربعات التي يؤجرها للباعة بمقابل مادي أسبوعي. تغيّر الحال بعد أوائل 2011، وأصبح عدد من الباعة يفترشون المساحات دون اتفاق مع التُجار. وهو ما يتوافق مع مفهوم "كسر السلطة" وعدم الخضوع لـ "كُبارات المنطقة" الذي تبعه تغيير في نمط العلاقات الاقتصادية والاجتماعية.

شوائب المنطقة البديلة "المجهزة"

"ممارسات الدولة هي أعمق ممارسات للمجموعات، وهي تقنن الإدراك الإنساني للأفعال اليومية. ومثل الحروب، ترتكب الدولة جرائم ضد الإنسانية والبشر تحت مسمّى المصلحة العامة. ويتم ادعاء عمومية مصلحة الأفعال لكل ما هو في مصلحة القوة الخاصة للدولة".. وفق الفيلسوف الأميركي جون ديوي.

آب/ أغسطس 2014، احتلت قوات الأمن ومصفحات الشرطة والجيش المنطقة المذكورة بغرض إخلاء الباعة الجائلين منها، بالطرق المتعارف عليها للأجهزة الأمنية. ألقيت قنابل الغاز المُسيل للدموع، وبدء العساكر بتفريغ كل البضائع إتلافاً أو رمياً في سيارات الشرطة، وتمّ القبض على عدد من الباعة. صاحَبَ الإخلاء عنفٌ شديد من قبل قوات الأمن. من وجهة نظر الحكومة، كان هدف العملية نقل الباعة في المرحلة الثانية إلى "كراج الترجمان" بعد تجهيزه، وكذلك نقل الباعة من مناطق في وسط البلد (طلعت حرب، قصر النيل، عبد الخالق ثروت). المكان المجهز لنقل الباعة إليه ليس كافياً بالنظر لأعدادهم، وكان يُفترض أن يتمّ نقلهم بعد عمل لجان الحصر. وهذه لم تضمّ أسماء كل البائعين. يعود ذلك إلى قيامها على منظومة فساد وأهواء للموظفين البلديين والتابعين للمحافظة والقائمين عليها. كما أنّ عمليّة الحصر تكون أحياناً صورية، ويتم تجهيز كشوفات بأسماء لا تمّت للواقع بصلة. لم تكن تلك واقعة العنف الوحيدة بين البائعين والشرطة في المنطقة، إذ تلاها في آذار/ مارس 2015، عنف من أحد ضباط الشرطة ضد أحد التجار، بالتعدي بالضرب على الأخير ونقله إلى قسم شرطة بولاق أبو العلا، مما دفع بالتجار الآخرين للاعتراض وضرب الشرطي ثم إغلاق الطريق والهتاف ضد الشرطة ووزارة الداخلية. كما تجمهروا أمام القسم مطالبين بإقالة الشرطي. وهذه هي رواية الأهالي للقصة.. أما السلطة فلا تتجشم عناء هذه التفاصيل لأنّ خطابها وجانبها من القصة ثابت: تجريم الباعة.

يختلط كل هذا مع مشروع "القاهرة 2050" الذي أعلن عنه منذ 2010 وهو يتضمن مخططات كاملة لتغيير شكل القاهرة وعدد من أحيائها، ومنها حي بولاق أبو العلا. وتغير اسم المشروع بعد ثورة 2011، ولكنه استمر يتضمن الأفكار نفسها الهادفة لتحويل القاهرة إلى عاصمة للتراث والسياحة. وفي الرسوم والمجسّمات الموضحة للمشروع، لا توجد وكالة البلح على الإطلاق. وتتفق رغبات الدولة الاستثمارية في مشروعها مع حركتها لتهجير الباعة الجائلين وإخلائهم. وهو ما يُفهم من ممارسات الاقتصاد السياسي الحالي وخططه ومشاريعه المرتبطة بالسياسات الاقتصادية في العالم.

بين هارفي ولوفيفر

"الحق في المدينة هو من حقوق الإنسان. وتظلّ حقوق الملكيات الخاصة ونسب ربحها الأهم في التطبيق من بين كل الحقوق. والحق في المدينة هو الأكثر تجاهلاً، وهو يتّسع عن مفهوم الحريات الشخصية في التمكّن من الحصول على إمكانية المصادر العمرانية (سكن، طرق، مدارس، مستشفيات.. الخ). ولكن الحق في المدينة يشمل حقوق الأفراد في تغيير مدينتهم بأنفسهم، إلى جانب حقهم الجمعي وقوتهم مجتمعين في تغيير عملية التعمير والعمران في المدينة.."، وفق الجغرافي البريطاني الشهير ديفيد هارفي. ويربط هارفي هنا مع ما كتبه الفيلسوف الفرنسي هنري لوفيفر من أن العمران جزء لا يتجزأ من الرأسمالية، لأنه يتماشى مع خطط الاقتصاد السياسي للدول، بل إنّ عمليّة التعمير والإسكان هي المُسرِّع الأول لنمو رؤوس الأموال وأرباحها.

وتسبّب الرأسمالية والنيوليبرالية إشكاليات في الهوية والمواطنة والانتماء.. وتَعتبر القوانين المصرية أن كل وأي أرض داخل الحدود المصرية هي ملك للدولة وتقع تحت تصرفها، والشوارع جزء لا يتجزأ من هذه الملكية وتتم إدارتها بواسطة المحافظين المعينين من قبل السلطات. كما تدعم القوانين المصرية إخلاء الفراغات العامة وإشغالاتها المختلفة. كما تدعم القوانين أيضاً إخلاء الملكيات الخاصة من أجل "المصلحة العامة". والمفروض أن تتضمن المصالح العامة مشاريع مثل إنشاء الجسور وخلافه، ولكن يتم استخدام هذا القانون بدون توضيحات، وعليه تَصدر قرارات بالإخلاء أو بالاستيلاء على الأراضي مقابل تعويض غير مجزٍ لأصحابها، بجانب الانتهاكات التي ترتكبها السلطات التنفيذية (سواء من الشرطة أو الجيش أو مجتمعين) أثناء عمليات الإخلاء، بجانب العنف اليومي ضدهم، على الرغم من أن عدداً من المحال التجارية تعمل تحت تصاريح ورخص رسمية. وعليه تخدم القوانين التي تخصّ تنظيم الفراغات العامة الدولة ومصالحها، وتتدخّل في ملكيات الأفراد الخاصة لصالحها أيضاً، مما يضمن لخطة الدولة الاقتصادية ومشاريعها الاستمرار والنمو.

وجود الباعة الجائلين كأفراد في الفضاء العام يسبّب مشكلة للدولة واقتصادها السياسي الحالي، كما تتسبّب خطط السلطات بمشاكل للباعة الجائلين أثناء محاولاتهم خلق فرص عمل لهم في الفراغات العامة (في شوارع وميادين مدينة مثل القاهرة). بعد "ثورة 2011"، ثم انحسارها السياسي والشعبي الناتج عن هيمنة العسكر على الحكم ومؤسسات الدولة واقتصادها، فقد يكون إيمان ديفيد هارفي وقبله لوفيفر بأن الفراغ العام سوف يتحقق بثورة وفعل جمعي من الأفراد، موضع للتساؤل. فهل يصحّ ما افترضا من أن ثورة جمعية سوف تحقق رغبات الأفراد واحتياجاتهم وطموحاتهم في تجسيد مدينتهم؟ أم أن تحقيق العملية العمرانية العادلة يحتاج لعدد من الموجات الثورية الجذرية المتتابعة على مدى طويل، مصحوبة بحركات سياسية واجتماعية وبتغييرات اقتصادية لكامل البنية المُجتمعية...

مقالات من مصر

كيف جرى تكبيل مصر واستعبادها؟

رباب عزام 2024-03-21

يبدو أن السلطة المصرية لن تتوقف نيتها في بيع الأصول والأراضي، ولن تكتفي فقط بما حُسم من صفقات منذ العام 2021، بل ستسعى إلى مزيد من عمليات البيع، تنفيذاً لاشتراطات...

السيسي وثمن دماء الفلسطينيين

حسام خليفة 2024-02-26

تضاعف الدين المصري، في السنوات الخمس الأولى من عهد "نظام يوليو 2013"، أكثر من خمسة أضعاف بحسب وزير المالية المصري آنذاك، عمرو الجارحي. بينما ارتفع إجمالي الدين الخارجي المصري إلى...

للكاتب نفسه

القاهرة في عشر سنوات... هل نعرفها؟ (2/2)

أمنية خليل 2021-02-01

لم تكتفِ الأجندة العمرانية للسلطة بالمشاريع الكبرى والاستثمار في الصحراء، بل اشتملت "خطة التنمية المستدامة لمصر 2030" على مشاريعَ يتم فيها تحويل القاهرة إلى عاصمة تراثية وتجارية واستثمارية. وهذه التحولات...