موضوعان أثارا جدلاً واسعاً، يتعلّق الأوّل بإعادة تمثال الحبيب بورقيبة (1903-2000) إلى مكانه في منتهى الشارع الحامل اسمه بالعاصمة، ويرتبط الثّاني باقتراح وزير التربية تخصيص حصة يتناول فيها المدرّسون شخصية بورقيبة يوم 6 نيسان/ أبريل الموافق لذكرى وفاته. وكان هذان الموضوعان كذلك مناسبة لإحياء مختلف الآراء المحيطة بهذه الشخصيّة، المعتبرة شخصيّة القرن العشرين في البلاد التونسية.
تزامن غياب بورقيبة مع فراغ سياسي، استفحل وهو لا يزال على قيد الحياة، بسبب نظام سياسي ازداد تصلّبا أكثر فأكثر بالتوازي مع ترويض المعارضين. فقد مثّل إعلان الجمهورية إطاحة عنيفة بحكم البايات الحسينيين (1705-1957). وفتح الانفراد بالسلطة الباب على مصراعيه أمام بورقيبة، ليحكم صحبة أنصاره وضدّ كلّ معارضة ممكنة، وليرسي دعائم الدولة. وجاء زين العابدين بن علي فاستثمر هذا الفراغ وأدخل الدستوريين البورقيبيين في سبات عميق أو جعلهم "تجمّعيين" انقلبوا اليوم تائبين. وكان لقرار بن علي التعتيم على جنازة بورقيبة الوطنية الشعبيّة، يوم 8 نيسان/ أبريل 2000، آثار. لم تلاقِ الإقامة الجبريّة المفروضة على بورقيبة طيلة ثلاث عشرة سنة (1987- 2000) إلاّ معارضة محتشمة. فلم تُفكّ عزلة الرجل أبداً، ولم تمّح مرارة خيبة الحِداد إلى اليوم، وكأنّ الحرمان من حضور الوداع الأخير ضاعف من الإحساس بذنب التخلي الذي لم يقع إدراكه إلاّ عند وفاته.
أيقظ رحيل بن علي غير المنتظر تأنيب الضمير على عدم منح بورقيبة المكانة التي تجدر به. ومنذ 2011 ازدادت جاذبية الرمزيّة البورقيبيّة، خاصة بعد مرحلة لم يظهر فيها أيّ زعيم، واشتبهت فيها السبل والأحاسيس والمشاعر. في غضون ذلك، وبعد ستّين سنة من الاستقلال، أخذ الحقن البطيء لأسس تنظيم الدولة والمجتمع التونسي يؤتي ثماره. ولم تمنع الانحرافات الاستبدادية والنفعيّة التي تسبّب فيها بن علي (الذي تُجْمع الآراء على افتقاده لثقافة بورقيبة وكاريزمته) من تطوّر مختلف شرائح المجتمع حول التعليم والصحّة العمومية، وحول الإقرار كذلك بدور المرأة كطرف له حقوق (منع تعدّد الزوجات - الحقّ في الطلاق - الحقّ في الاقتراع) ومن ثمّ الإقرار بدورها فاعلاً سياسياً. فشهدت البلاد عامّة مجموعة من التحوّلات استحثّتها السياسات العموميّة البورقيبيّة، إذ تطوّر وإن بدرجات متفاوتة الوسَطان العائلي والمدرسي وعالم الشغل (خلافاً لعالم السياسة) والعقليات ونمط العيش. وفي المقابل لم تؤدّ تلك التحوّلات إلى القضاء على العنف المسلط ضدّ المرأة ولا على اللاّمساواة التي تعاني منها. ولم تسمح كذلك بتجنّب الانعكاسات السلبية لإدارة سياسيّة واقتصادية محكومة بإملاءات العولمة.
علاوة على ذلك فإنّ الذين يحنّون إلى البورقيبيّة والمقاولون السياسيون الجدد الذين ما انفكّوا يلمّعون صورة بورقيبة للاستثمار فيها، وكذلك الإسلاميون الذين أخذوا يقرّون بفضله على تونس، في خطابهم على الأقل، اتفق جميعهم على كلام منمّق للتغطية على غياب رؤية سياسيّة خاصّة بهم. إنّ استنساخ الفصل الأوّل من دستور 1959 في دستور كانون الثاني / يناير 2014 "تونس دولة حرّة، مستقلّة، ذات سيادة، الإسلام دينها، والعربيّة لغتها والجمهورية نظامها"، مع ما يكتنفه من ضبابيّة (على من يعود الضمير المتّصل "ها"، على تونس أم على الدولة؟) هو أمر بالغ الدلالة. فقد توافقت الحساسيات السياسيّة المكوّنة للمجلس التأسيسي على هذا الوضع القائم في حدّه الأدنى.
أعاد ظهور التطرّف الديني مسألة حقوق المرأة إلى الواجهة، بوصفها مربّعاً للصدام الأيديولوجي والسياسي، وبوصفها بوصلة كذلك. فزاد ذلك في دعم استحضار بورقيبة مرجعاً ورمزاً في الخطابات السياسيّة وفي النقاشات العموميّة وعلى مواقع التواصل الاجتماعي. ومع أنّ بورقيبة لم يكن الباعث الوحيد لل"حداثة" التونسيّة، إذ وقع التحضير لها منذ زمن بعيد (فممّا هيّأ لها كتابات الطاهر الحدّاد)، ذلك أن بورقيبة فعّل عبر القوانين ومؤسّسات الجمهوريّة حضور النساء على قدم المساواة مع الرجال. ومن هذا المنطلق، تمّ سنة 2012، استبدال مصطلح "تكامل" بـمصطلح "المساواة" في نص الدستور.
ورغم المنجزات والرمزيّة التي يجسّدها بورقيبة بالنسبة إلى وضع المرأة في تونس، فلا يجب اعتباره المُلهِم الذي أدخل تونس عصراً جديداً. فقد كشفت التوتّرات الأخيرة، أنّ القيم التي جسّدها يمكن أن تجد معارضة باسم مشروع سياسي منافس. والأمر لا يكمن في تمجيد إنجازه أو تقزيمه، بل في مواصلته. إرث بورقيبة، وبعيداً عن انقسامات السياسيين وتجاذباتهم، يحتاج إلى تجديد وإعادة اكتشاف من خلال الممارسة والقوانين، وذلك بهدف السعي إلى تأسيس مشروع مجتمعي تحتلّ فيه المرأة المكانة الكاملة والتامّة التي كان بورقيبة قد شرع في ترسيخها.
* ترجمه من الفرنسية علي آيت ميهوب