عمر الجفّال: مقابلة مع الكاتب والباحث السياسي العراقي عبد الأمير الركابي، وهو من أبرز الكتّاب العراقيين الذين ناقشوا وفككوا مشروع السلطة العراقية بعد احتلال بغداد في نيسان عام 2003. سنتحدث في هذه المقابلة عن الشكل الذي وصلت إليه السلطة في العراق، فضلاً عن آليات تشكلها ومدى قابليتها للاستمرار في الحال الذي بلغته.
في البداية دعنا نتحدث عن النموذج الذي بُني عليه العراق بعد إسقاط النظام الديكتاتوري على يد الاحتلال الأمريكي عام 2003؟ حدثنا عن شكله وآلياته، وما الذي كان يُراد منه في المحيط الإقليمي؟
عبد الأمير الركابي: المسألة الأبرز هي التحول الذي حصل. فقد ألغيت أو سُحقت الدولة الحديثة (أو ما يُسمى بالدولة الحديثة) التي أقامها الإنكليز عام 1921، والتي وحّدت البلاد في حينها، وأصبح هناك مظاهر للحداثة تمثلّت بها. انهارت هذه الدولة وانهارت معها كلّ ما بُني فيها من مؤسسات في مرحلتيها الأولى (1921 - 1958) والثانية (1968 - 2003)، ولم يعد فيها إلا أطر محدودة. وهذا أتاح فرصة لقوى ما - قبل الدولة أن تبرز إلى الواجهة وتصبح السائدة والمتحكمة بالأمور. وهذه القوى ليس لديها مشروع، وهي قوى منهزمة، أي هُزمت أمام نظام صدّام حسين وخرجت من الفعل السياسي، وأصبحت ملحقة بقوى إقليمية، إما إيران أو سوريا. مثلاً في 1992 أصبح هناك شيء اسمه "المؤتمر الوطني"، له علاقة بالأمريكان والاحتلال، وأصبح واجهة للاحتلال، وليس لدى هؤلاء مشروع. وحزب الدعوة ليس مشروعاً للعراق، ليس لديه مشروع ولا يريد أن يبني مشروعاً للعراق. هناك تصورات إسلامية مأخوذة من الماضي لا تناقش الأمور القائمة الآن، وإلى أين يسير البلد. إذاً هذه هي حال العراق الآن، ولا توجد فيه سلطة بذاتها ممركزة، هناك سلطات عديدة. والإنتاجية فيه صفر. هذا البلد في الثلاثينيات كان الإنتاج المحلي فيه يغطّي 95 في المئة من حاجة المواطن، في عام 1980 حين قامت الحرب مع إيران كانت 60 في المئة من حاجة الفرد تُنتج محلياً. بعد سنة من تلك الحرب، وبعدما ذهبت اليد العاملة إلى جبهات القتال، تراجعت هذه النسبة إلى 50 في المئة. الآن الإنتاجية صفر في البلاد! يعتمدون على بيع النفط ويتصرفون بمنطق الغنيمة ولا يفهمون الوطنية ولا الدولة ولا المصالح العليا. كل واحد يفكّر بالمصالح المحدودة الضيقة كعشيرته، جماعته، حزبه، منطقته، وهكذا...
تفكيك الدولة
عبد الأمير الركابي: وفي الأصل، الاحتلال الأميركي قام في زمن تدمير الدول وتدمير الأمم، في إطار العولمة، بينما في الماضي قام الاحتلال الإنكليزي على أساس مفهوم بناء الأمم، والدليل أنه، من بلد مفتت مثل العراق بثلاث ولايات، حوّله بالقوة والإكراه إلى دولة. الزمن الحالي يتطلب أن تنفتح هذه الدول وأن تُجزّأ، وهذا ما حصل في العراق. والآن المنطقة كلها معرضة لتلك التجزئة، فالإمبريالية الأميركية - إذا أردنا استعمال هذه التعابير- هي إمبريالية تفتيت الأمم. والاحتلال في العراق حصل في هذا الإطار، وهذا ما يعيشه العراق، وقد بدأت المنطقة تعيشه بعد الربيع العربي.
ليس هناك من أسباب موضوعية أو مادية ستؤدي بالربيع العربي إلى النتائج التي يدعو لها، ولذلك انعكست الأمور. وليس هناك من أسباب مادية ولا موضوعية ستؤدي إلى بلدان ديمقراطية أو تجارب ديمقراطية.
عمر الجفّال: المقصود أنّ العراق كان البوابة الأميركية لما يحدث من تفكيك المنطقة بشكل عام
عبد الأمير الركابي: هذا هو القصد بالضبط. طبعاً هنالك قوى محرّكة. أنا أعتقد أنه كان هناك نفوذ إسرائيلي سعى في هذا الإتجاه، لأن هناك خشية من العراق لأسباب كثيرة، على الأقل عسكرية. العراق خاض الحرب ولديه جيش قوي ولديه إمكانيات. وهو بلد ممكن أن يتطور من ضمن آلياته الداخلية بغض النظر عن السلطة، بغض النظر عن وجود صدام حسين أو غيره. في الثمانينيات، وإذا تكلّمنا بالإحصائيات، فوكالة الصحة العالمية قالت إنّ العراق في السنوات القريبة سيصبح لديه إمكانيات طبية بمستوى أوروبا الجنوبية كإيطاليا وإسبانيا، وكان يُحكى أنه يملك الجيش الرابع في العالم، وهذه المعطيات عندما تتوفر في بلد لديه نفط وإمكانيات وطاقة بشرية، وبإمكانه أن يتطور، ولديه إمكانيات عالية ومدخول.. فمن الممكن أن تحصل فيه نقلة ما، وفي هذه على الأقل فهو ملاحَق من قبل الإسرائيليين. والسياق الأهم من ذلك هو السياق الأميركي الذي ذهب إلى العراق في لحظة اختلال التوازن العالمي: انتهى الاتحاد السوفياتي وأصبحت أمريكا هي الدولة العظمى الوحيدة في العالم. كم بلد هوجم ودُمرت دولته في العالم؟ العراق الوحيد بالتأكيد، إذ لا تؤخَذ أفغانستان بعين الاعتبار. وذلكَ لأنّ الهدف في أفغانستان مختلف جداً. فالعراق الوحيد في منطقته وفي العالم الذي جرى تدمير دولته وسحقه.
الحداثة والريع
عمر الجفّال: أغلب الدول التي قام فيها الربيع العربي ألغت الإسلام السياسي، بينما في العراق الإسلام السياسي ما زال مسيطراً لأسباب أدت إلى غياب الأحزاب العلمانية واليسارية، كما يقال إن الأحزاب الليبرالية كإياد علاوي أو أحمد الجلبي غابوا عن الساحة، وحل الإسلام السياسي مكانهم، وهو الآن في السلطة وتنامى في الدولة وهو المسيطر على كل المفاصل؟
عبد الأمير الركابي: نحن قلنا إن الذي حصل هو أن مشروع الحداثة، مشروع الدولة الحديثة هو الذي استُهدف من قبل الاحتلال. حُل الجيش وحُلّت المؤسسات الأساسية، المخابرات والوزارات. في بقية الدول العربية لم يجرِ استهداف الدولة، فبقيت هذه الدول بعجرها وبجرها. هناك تباينات بنيويّة ما بين العراق ومصر مثلاً. في مصر الدولة مهيمنة على المجتمع ووجودها أساسي وأصيل، والوطنية المصرية هي وطنية البيروقراطية، بينما الحضارة العراقية لم تقم على هذا الأساس. قامت على أساس الانفصال ما بين الدولة والمجتمع، والدولة دائماً معلّقة و"برّانية". وعندما تضرب الدولة، يصبح المجتمع هو مجتمع اللادولة في العراق. هناك أشياء بنيوية لعبت دوراً في الاختلاف. عندما حصل الهجوم على العراق كانت تجربة الحداثة منتهية. انتهت من داخلها، وهي قضت على نفسها. صدام حسين كان التمثيل الفعلي للعلمانية الحديثة في العراق، من الثلاثينات إلى الستينيات، جاء حزب البعث وركائزه النفط والعشيرة والحزب العقائدي، وقد قام في الأساس على تغيير البنية الاجتماعية، وأصبحت الدولة من خلال الرّيع هي الموظِّف الأكبر في المجتمع. ألغى الطبعة العاملة وأصبح اسمها "طبقة المستخدمين"، لم يعد للريف دور وأصبح يعمل لدى الدولة والديناميكيات القديمة المحركة لم تعد موجودة. صدّام حسين دمّر البنية الأساسية ودمّر الآليات الموروثة من أيام سومر لحدّ الآن. هذا أخطر ما في صدام حسين.
الآن لم يعد هناك من مركزية. القوى هي قوى ما قبل دولة، مفكّكة، بحيث أن كل واحد هو دولة، وعنده مصالحه الخاصة، وهي متحاصِصة فيما بينها داخل السلطة. لم يعد هناك مجتمع دولة حديثة أو يسعى لبناء دولة حديثة وحزب عقائدي. ليس هناك مخابرات، ليس هناك دولة تحاسب، ولم يبقَ سوى صدام حسين في كل شيء. الآن هناك سلطات متجددة تحوّل الدولة إلى غنيمة. يعني يأتون فيحصلون على أموال من النفط ويأخذون الجزء الرئيسي منها لهم ولأزلامهم وأقاربهم ولبعض الموظفين والحمايات الخاصة. قد تكون هناك 100 سيّارة وراء كل واحد منهم.
الطائفية
عمر الجفّال: هذا يحدث باسم الإسلام. هناك مرجعية للشيعة في العالم، وهم أغلبية في البلد. وهذا إسلام سياسي. هذا كله يتم باسم الإسلام السياسي. المجتمعات الفقيرة كلها حتى اللحظة لا تنتفض ضد الإسلام السياسي، بل على العكس، كما حصل في تونس ومصر مثلاً. هناك قابلية للاستمرار في استغلال الإسلام السياسي.
عبد الأمير الركابي: القوى العلمانية بدأت تتراجع منذ السبعينيات، وازداد حضور القوى الإسلامية الشيعية بعد ثورة إيران، وأصبحت المجابهة الفعلية هي ما بين التشيع وما بين السلطة، ولم يعد هناك صراع بين القوى العلمانية والنظام. الشيوعيون كان قد انتهى دورهم وصاروا خارج المعادلة السياسية. فمن السبعينيات إلى حين سقوط النظام، كانت القوى الإسلامية الشيعية هي التي تواجه نظام صدام حسين بأشكال متعددة ومختلفة، وكانت المناطق الجنوبية أيّام الحصار هي من يفعل. إذاً هم استثمروا هذا. القوى الليبرالية، مثلاً إياد علاوي، ليست متشكلة في حزب، بينما هناك أحزاب إسلامية عريقة قديمة، كحزب الدعوة الذي يعود تاريخه إلى 1957، والأحزاب الأخرى مثل جماعة محمد باقر الحكيم (اشترك في انقلاب سنة 1970 ضد صدام حسين).
عمر الجفّال: هم يستثمرون في تاريخهم، لكن هذا الاستثمار استمر لمدة 10 سنوات؟
عبد الأمير الركابي: نعم، ما يزالون هم الكتلة الرئيسية. وهم لعبوا على مسألة أخرى. هم أججوا الطائفية ويعتاشون عليها، يعني الآن المواطن الشيعي يشتم النظام ويقول لن أنتخب، ويوم الانتخابات يذهب وينتخب جهة شيعية ولا ينتخب لأنه يريد انتخاب المالكي بالذات أو العبادي. بل هو ينتخب طائفياً لكي يعزز طائفته وموقعها في النظام والسلطة. فهذا الأمر أصبح هو الآلية الوحيدة الآن ضمن هذه المنظومة، وهي الآلية الطائفية، وجوهر العملية السياسية صار الطائفة.
مجابهة الوضع: إصلاح أم مؤتمر تأسيسي؟
عمر الجفّال: ماذا عن الشكل المجابه لهذا الشكل من السلطة الطائفية، هناك تشكّلات جديدة داخل المجتمع أو داخل العملية السياسيّة وداخل منظّمات المجتمع المدني والنقابات، لكن هل يوجد شيء مجابِه للشكل الطائفي؟
عبد الأمير الركابي: ما يزال هذا المجتمع في مرحلة السخط والتذمر، أي هو غير متشكل أو غير متبلور سياسياً. لا يوجد في العراق مشروع سياسي مقابل أو مضاد لهذه "العملية السياسية". حتى القوى التي تظاهرت هذا الصيف هي جزء من العملية السياسية، والحزب الشيوعي هو جزء من العملية السياسية، وهو جناح إصلاحي في العمليّة السّياسيّة. منظّمات المجتمع المدني هي جزءٌ من العمليّة السياسية أيضاً. ما من مشروع سياسي في مواجهة المشروع الموجود الآن في البلد. المشروع السياسي الوحيد الذي أعود وأتكلم عنه هو الذي أطلق عام 2003 وهو مشروع المؤتمر التأسيسي. قلنا وقتها إن هذه الدولة انهارت والبلد متعدد الطوائف والقوميات.. فتعالوا نعلن عن مؤتمر تأسيسي للعراق، يحضر فيه ممثلون عن كل القوميات وكل الطوائف ويتناقشون حول صيغة النظام الذي يريدون العيش فيه. قد لا يكون هذا شكل الديمقراطية الأفضل لكن هذه هي الصيغة التي تضمن السلم الأهلي وتضمن قيام نظام متوافَق عليه حتى نضع أرجلنا على العتبة الأولى، ومن بعدها نسعى الى تطوير هذا النظام. هذا المشروع أطلقناه، وأنا شخصياً وجهت نداءً للسيستاني وذهبنا إلى المنتديات العالمية المناهضة للعولمة، وذهبنا إلى جاكرتا لمؤتمر قوى مناهضة الحرب، وذهبنا إلى جامعة الدول العربية حيث التقيت عمرو موسى ووافق على هذا السياق. وفي باريس أعلنّا تشكيل سكريتاريا للمكتب التنفيذي، وعقدنا اجتماعاً موسّعاً في بيروت تمهيداً لمؤتمرٍ تأسيسي. أما المشاركون في المؤتمر فقسمٌ منهم اعتقل، وقسم اغتيل وقسم منهم كافأهم الأمريكان على تركهم للمؤتمر. أنا أعتقد الآن إذا توفرت إمكانية (وهي لا تتوفر إلا بشروط دولية، وأما من الدّاخل فهذا حاليا مستحيل)، لكن إذا توفرت الإمكانيات يُطلق مشروع مقابل لمشروع "العملية السياسية"، ممكن للسني أن يأتي، والشيعة أصبح لديهم وعي بحدود ما يجري، ومن الممكن - إذا وَجد مسرب أو مشروع - أن يتعقبه الشيعة ويمكن لهذا الوعي أن يتطور. الآن في كردستان أصبحت الأمور مختلفة وحركة التغيير ممكن أن تدخل في مثل هذه السيرورة، وبقية المجموعات ممكن أن تنتبه لوجود خيار آخر. المقومات التي ممكن أن تسند هذا القرار وتدعمه تحتاج إلى وقت طويل. الآن لا يوجد شغل سياسي، والتظاهرات هذه ليست مشروعاً لأن مشروعها هو التظاهر والإصلاحات.. السلطات القائمة هذه قوية وأقوى من الحراك بمئات المرات، مادياً واجتماعياً وسياسياً، وعلى كلّ الصعد. حتى الذي يأتي ويشتم ويغضب ويكون معك ويقول إنه غير راض عن الأوضاع السيئة، لكنه بالفعل لا يفعل شيئاً ولا يتحرك.
التحركات الاحتجاجية
عمر الجفّال: هذه التظاهرات تحمل سخطاً كبيراً من الشباب، وفيها شباب حملوا لافتات وشعارات مناهضة فعلياً للسلطة مثل "باسم الدين، باكونه الحرامية"؟
عبد الأمير الركابي: "باسم الدين باكونه الحرامية" هي شعار أطلق في الناصرية ضمن حركة عفوية في الشارع، وهذه التظاهرات انطلقت عفوياً في البصرة والناصرية وغيرها وأطّرت فيما بعد من قبل الحزب الشيوعي.
عمر الجفّال: هل الحزب الشيوعي هو فعلاً قادرٌ على تجييش هذه التظاهرات؟
عبد الأمير الركابي: هو أطّر. الحركة كانت عفوية وغير منظّمة وليس لديها شيء ولا عندها كوادر. منظمات المجتمع المدني الموجودة في ساحة التحرير لن تجد فيها 15 شخصاً متفقين. هم حركة مفككة. الشباب تظاهروا وتحركوا لكنّني أتكلّم عن فعالية.. هل هذا المشهد يؤدي الى شيء ما
عمر الجفّال: تراكم هذا المشهد ممكن أن يؤدي إلى شيء ما. محافظات مثل ديالى وصلاح الدين في التوقيت نفسه خرجت فيها تظاهرات، طبعا تمّ التعتيم عليها ولم تظهر للعلن، وهذا نصر جديد للسلطة؟
عبد الأمير الركابي: ديالى وصلاح الدين هما ضد العملية السياسية، وعندهما موقف طائفي لكنّه غير متطرف. قامت التظاهرات في المناطق الشيعية، إنما اليوم كل الآليات هي آليات طائفيّة بالكامل وما من مشروع وطنيّ شامل. هناك نزعة الآنية عند الناس وعند الشباب الذين يكتبون ويتابعون الوضع. والشعوب أحياناً تحتاج عقوداً من الزمن ولا تقدر أن تغير شيئاً. النظام الملكي من 1931 إلى 1958، من الإضراب العام ضد شركة الكهرباء في بغداد، وسقوط قيادة جعفر أبو الثمن والهاشمي، وصعود الأحزاب الحديثة، والانتفاضات في الريف عام 1935، ثم بدأت الانتفاضات الشعبية الجماهيرية، عام 1948، 1952، 1956 وانتفاضة مدينة الحيّ. هذه الأشياء كانت تتراكم، ثمّ من بعدها كان هناك زخم أيديولوجي وحزبي وفكري هو الآن غير متوفر، لا من خلال الرؤية السياسية ولا الجهات ولا الأحزاب أو التيارات أو أي شكل من أشكال القوى القادرة على التوجيه أو على استثمار التحرك. تمر الشعوب إذاً بأزمات تاريخياً وتتفاقم هذه الأزمات، ونحن الآن في وضع سيء وقد يزداد سوءاً.
عمر الجفّال: تكلّمت عن التغيير، هل التغيير من الداخل أمر مستحيل؟
عبد الأمير الركابي: شبه مستحيل. نحن قمنا بمؤتمر في عام 2013 كان شعاره "الانتقال من العملية السياسية الطائفية إلى العمليّة السياسية الوطنية"... وقلنا إن العملية السياسية الطائفية وصلت إلى مأزق وستؤدي بالبلاد إلى كارثة، وفعلاً هذا ما حصل في 10 حزيران/يونيو 2014 مع سقوط الموصل.
منذ مدة أعلن السيستاني عن "قرب ظهور المهدي" وطلب من الشباب والناس التدرب على السلاح لأنّه من الممكن أن يظهر المهدي في أي وقت. لم يحصل في تاريخ التشيّع كلّه أنّ مرجعاً مهماً أعلن عن قرب ظهور المهدي، وهذا مرده اليوم إلى الشّعور بأنّ الأمور ذاهبة إلى الأسوأ. السيستاني نفسه أصدر من قبل فتوى لم يصدر شبيه بها إلا منذ قرن، هي فتوى "الجهاد الكفائي"، التي حصلت السابقة عليها العام 1914 عندما أتى الإنكليز.
البعد العالمي: العراق مدخل للمنطقة
عمر الجفّال: نحن وصلنا إلى مرحلة أزمات كبيرة، أولها داخل المجتمع أساساً، من حيث استفحال الفساد والنهب والمحسوبية وفقدان الأمن والخدمات وارتفاع نسبة البطالة.. هل هناك كارثة ممكن أن تحصل؟ وما هي الحلول المطروحة؟ الجميع يتحدث اليوم، وأغلب الملاحظين للعملية السياسية يتكلمون عن تدخل الأمم المتحدة، تدخل قوى دولية أخرى، والبلد مشرّع وكل الحدود مشرّعة للتقسيم، إذاً هل تبديل العملية السياسية ممكن؟ ما هي الممكنات؟
عبد الأمير الركابي: أعتقد أن الموضوع على مستوى المقاومة الفكرية ممكن أن يحدث. أن يتم تغيير المفاهيم الماضية حول سيرورة العراق الحديث منذ القرن السابع عشر حتى الآن. الأزمة قد تفرز أشياء قد لا نفهمها أو نلتقطها الآن، لكنني ألاحظ أمراً ما وأنا بصدد الكتابة عنه. أعتقد أنّ الدور الروسي - الصيني له آفاق للتطور ولكني اعتقد أن مدخل ذلك هو العراق. بقاء التعويل على إيران في مقاربة الدخول إلى المنطقة هي مقاربة سيئة. المقاربة الحقيقية والفعلية بالنسبة للروس والصين هي العراق.
التعاون السياسي مع دول العالم ليس خاطئاً، لكن أن يأتي الروسي بجيش إلى العراق، أمر خاطئ. التعاون السياسي شيء والتعاون العسكري شيء آخر. الآن لا وزن للعراق، لا وجود للعراق. على المستوى السياسي هناك إيران تنطق باسم العراق، كذلك السعودية لها حصة في العراق، تركيا لها حصة في العراق، أميركا لها حصة في العراق.. هذه القوى تستثمِر الحالة، لكن العراق لا أحد ناطق باسمه ولا حتى وزير. حيدر العبادي ليس رئيس وزراء فعلي للعراق، هؤلاء الموجودون اليوم في السلطة كلهم ليس لهم علاقة بكينونة العراق، بحجم العراق، بحاجات العراق. العراق الآن صفر! إنتاجيته صفر، ووزنه السياسي صفر، والدور السياسي موزع على دول الإقليم والعالم، وكل واحد يحسب مكانه. العبادي والجعفري يحسبان مكانهما، والمالكي يخرج مظاهرات مدعومة من إيران إلخ لكن أين البلد؟ الأتراك يتدخلون بقواتهم في الموصل. أين العراق؟ من يمثّل الإرادة العراقية؟ أية جهة؟ هذه التوجهات أنهت وجود الوطن العراقي، ناهيك عن الصراعات الداخلية التي أجّجها. هؤلاء سنة، هؤلاء شيعة، هؤلاء أكراد، إلى آخره.. من منهم يملك الإرادة في مجرد التفكير بمشروع عراقي اقتصادي صناعي تجاري سياحي ثقافي فكري أو أي شيء بأي مجال؟ ما من إرادة تفكر بالقيام بأي شيء للعراق أو بأي مشروع يمثل الإرادة العراقية. مثلاً جسر من الجسور يصرفون من أجله على مدى 5 سنوات 3 أضعاف المبلغ الذي يكلفه القيام به وهم يصرفون على أنفسهم بهذا الشكل. هذه هي الحالة وهذا تشخيصي للوضع. أما عن الممكنات، فالمداخل لأي مشروع ملغية. لقد تفتتت الإرادة الوطنية بين الأمريكان والإيرانيين، وقد فعلوا ذلك يداً بيد. ودخلت جرثومة الصراعات الداخلية ومات البلد. هو موجود فقط على الخارطة، لكنه مسلوب الإرادة. الكويت مثلاً عندها إرادة، وما من بلد بلا إرادة. والآن، في ظل احتدام الصراع العالمي في المنطقة العربية والشرق الأوسط فلا يمكن أن تجد بداية حل أو بصيص أمل.
لذلك الآن ما من تغيرات مضادة للعملية السياسية. ممكن أن ينشأ مشروع مضاد للعملية السياسية وإن حصل يجب أن يكون مشروعاً وطنياً، لا يقبل انتقاص السيادة، ولا يقبل أن يستغلّك أو يحتلّك طرف. عليك أن تحسب ماذا سيربح البلد وماذا سيربح الطرف الآخر الذي يمكن أن يدعم ويكون حليفا في هذه العملية. بالتأكيد الطرف الآخر سيربح، لكن عليك الإبقاء على توازن ما. هذه هي النظرة الواقعية على الأقل.
أمس، السعودية أسست ما سمته "التحالف الدولي ضد الإرهاب" وأدرجت ضمنه دولاً دون معرفتها، منهم من قال نحن لم نسمع بالتحالف أصلاً، ومنهم من قال نشارك لكننا عسكرياً لا نتدخل.
كل هذا الاحتدام في الصراع في المنطقة ينعكس على أوروبا، لذلك لا نستطيع أن ننغلق ونقول أن علينا الاهتمام بالداخل فقط.
عمر الجفّال: أستاذ عبد الأمير الركابي أشكرك على هذه المقابلة.
هذه المقابلة أجريت لمجلة StatusHour. هنا العدد 3.1 من المجلّة