لا يزال التلقين مستمرا

لم تعد عملية التعليم التي تجري داخل صفوف دراسية متقوقعة على ذاتها تخدم متطلبات أيّ إصلاح حقيقي في العديد من البلدان العربية، فقد كثرت الانتقادات لأساليب التلقين السائدة في مدارس التعليم الرسمي، لا سيما في مواد التاريخ والجغرافيا والتربية الوطنية والتربية الدينية.
2015-06-08

موسى بيطار

كاتب من سوريا


شارك

لم تعد عملية التعليم التي تجري داخل صفوف دراسية متقوقعة على ذاتها تخدم متطلبات أيّ إصلاح حقيقي في العديد من البلدان العربية، فقد كثرت الانتقادات لأساليب التلقين السائدة في مدارس التعليم الرسمي، لا سيما في مواد التاريخ والجغرافيا والتربية الوطنية والتربية الدينية. ولعلّ هشام شرابي في كتابه "مقدمات لدراسة المجتمع العربي" الصادر في العام 1975، من المفكرين العرب الأوائل الذين نبّهوا إلى خطورة التلقين لأنه في جوهره طريقة تسلّطية قائمة على تكريس نزعة الامتثال المطلق والطاعة العمياء بهدف الإبقاء على مفاهيم معينة، والمحافظة عليها وترسيخها في ذهنيّة الطالب على أساس التعامل معه كناقل للمعلومات بالترديد والحفظ والاستظهار، وإعادة إنتاج أفكار معلمه دون فهم أو نقد، أو استثمار حقيقي للمعلومات قائم على البحث والتجريب والتحليل وطرح التساؤل.

 ازداد واقع التسلّط التعليمي، على الأقل منذ هزيمة حزيران 1967، وتمّ اعتماد تأصيل مُمنهج لكل أشكال السمع والطاعة، بحجة أنّ الحكومات الرشيدة وسياساتها التربوية الحكيمة أدرى من أيّ جيل صاعد بتشكيل وعيه وفي الإجابة على مختلف أسئلته المصيرية. ولعلّ ذلك يبدو واضحا بما ورد في تقرير "المؤتمر الثالث لوزراء التربية العرب" الذي انعقد في الكويت في شباط/فبراير 1968، الذي حدّد العديد من الأهداف التربوية والتعليمية لمرحلة التعليم الثانوي، من أبرزها "تنشئة جيل عربي مؤمن بالله، مخلص للوطن العربي، يثق بنفسه وبأمته، ويدرك رسالته القومية والإنسانية، ويعمل على تحرير فلسطين والأجزاء المغتصبة الأخرى من الوطن العربي، ويسهم إيجابياً في تطوير بيئته، ورفع مستوى المعيشة لجميع أبناء وطنه". وعلى الرغم من العبارات الجميلة والرغبات، نلاحظ أنّ هذا الهدف يستند على الوعظ والخطابية، ويستثني التعامل مع الطلاب كشركاء أساسيين في العملية التعليمية، كما أنّه يلقي على عاتقهم مهاماً عسكرية وبيئية واقتصادية دون تحديد واضح لبوصلة التحرير والتطوير.

 بإلقاء نظرة عامة على أغلب كتب مادة التاريخ في العديد من البلدان العربية، وعلى ما طرأ عليها من تعديلات منذ مؤتمر الكويت حتى يومنا هذا، فإننا نكاد لا نعثر على أيّ تغييرات جوهرية في أي وحدة دراسية عن هزيمة حزيران، بل نجد تشابهاً كبيراً في سرديات موجزة ما زالت تفتقد المعايير العالمية في تأليف كتب التاريخ، كما تفتقد الموضوعية وإبراز الجوانب الإيجابية والسلبية معا. وعلى افتراض أنّ الحكومات العربية تُصاب بالحساسية عندما يتم تناول مواضيع تضعها في المواجهة العقلانية أمام طلبة المدارس الذين هم جزء حيوي لا يتجزأ من الشعب، وعلى افتراض أنّ وثائق الأحداث المفصلية في تاريخنا المعاصر لا يجوز العودة إليها إلا بعد فترة طويلة، والتي للأسف ما زالت غير محددة بزمن، لكنّ ذلك لا يشكل مبرراً لتغييب حقائق حرب الأيام الستة ومناقشتها في دروس تفاعلية مع الطلاب، على أساس أنّ التاريخ علم وفلسفة، وليس مواضيع إنشائية ولا قصائد مديح أو هجاء.

 ومع مرور الأيام، كرّس هذا الواقع التعليمي حالة الجمودية في المجتمع العربي وهدراً بشرياً لا يعوّض، يطمس معالم شخصية الطالب وكل إمكانياته التحليلية، كما يمنع تنمية مهاراته في حل المشكلات، وفي الاستقلالية في إبداء الرأي بأحداث وطنه. الأمر الذي زاد من حدّة الهوة بينه وبين تجارب حياته اليومية ومختلف نزاعات مجتمعه السياسية التي تشهد اليوم تحوّلات متسارعة وجذرية.

 ولعلّ العودة إلى الأبحاث الهامة التي صدرت عام 2005، في كتاب "التربية والتنوير في تنمية المجتمع العربي"، تقدم مجموعة من الحلول الناجعة التي تتجاوز ذهنية التلقين، من خلال "تغيير مسارات التواصل داخل الحصة الدراسية من مسار عمودي وأحادي القطب، إلى مسار أفقي أطرافه عديدة، ودور المعلّم هو دور الموجّه لا غير"، مما يتطلّب تغييرات جذرية في ذهنية المعلّم والمتعلّم، وأيضا في ذهنية القائمين على رسم السياسات التربوية. كما يتطلّب الاستفادة من التجارب التعليمية العالمية، وفي مقدمتها تدريس التاريخ والجغرافيا في مادة واحدة دون الفصل بينهما. إنَّ استبعاد كل أشكال هذا التغيير المطلوب، وخاصة في مجال مسارات التواصل داخل الصفوف، وتحديث طرائق تدريس التاريخ وغيره من المواد الاجتماعية، يعني بطبيعة الحال الإبقاء على سلطة المعلّم الذي لا يُناقش ولا يُحاور، كما يعني الإبقاء على تقييم تقليدي لدرجات المذاكرات والامتحانات الكتابية وفق أنماط من الأسئلة الاجترارية التي تفرض قسراً الأجوبة الملقّنة من الكتاب المقرر.

 ولكن، وعلى الرغم من هذا الواقع، استطاعت الأجيال المتعاقبة التي فُرضت عليها مناهج التلقين والبصم أن تستقي معلوماتها من مصادر عدّة، أبرزها مذكّرات المسؤولين السياسيين والعسكريين، وأيضاً النتاج الأدبي والفني من روايات ومسرحيات وأفلام سينمائية وأشعار وأغنيات. ولعلّ هذه الآداب والفنون تفوّقت على كتب التاريخ المدرسية، وشكلت مصدراً هاماً في رصد الأحداث، وفهمها ، والتفاعل معها بكل أبعاد مأساتها الإنسانية. نذكر على سبيل المثال رواية "حين تركنا الجسر" لعبد الرحمن منيف، مسرحية "حفلة سمر من أجل خمسة حزيران" لسعد الله ونّوس، فيلم " العصفور" ليوسف شاهين، وقصائد أحمد فؤاد نجم وأغنيات الشيخ إمام...

 


وسوم: العدد 146

للكاتب نفسه

مسرح الشعب في حلب

موسى بيطار 2016-06-14

شهدت مدينة حلب، عقب هزيمة حزيران/يونيو، ظاهرة مسرحية متميزة عُرفت باسم "مسرح الشعب"، أسسته بلدية حلب عام 1968 بجهود مشتركة من أدباء وفناني المدينة، وبقرار جريء من محافظها، تجاوز فيه...

التعليم الثانوي في سوريا: تداعيات الحرب

موسى بيطار 2016-05-16

أثّرت الحرب بصورة سلبية كبيرة على طلاب مرحلة التعليم الثانوي، من مختلف الجوانب الأخلاقية والفكرية والاجتماعية والنفسية والجسدية، وهي ستترك تداعيات خطيرة على صعيد القيم الإنسانية للمجتمع بكل مكوناته المتنوعة،...