بعد عشرة أعوام على إطلاق مشروع "المصالحة الوطنية"، ما زال النظام الجزائري يتباهى بالنجاح الذي حققه في إرساء سلام أنهى خمس عشرة عاماً من العنف الذي عصف بالبلاد. مع ذلك، لا يمكن أن نعزو اختفاء العنف السياسي (بشكل نسبي) في الجزائر إلى هذه المبادرة بقدر ما يأتي كنتيجة لاستراتيجية مكافحة التمرّد التي طُبقت بأساليب وحشية وماكرة كان هدفها كبح جماح المعارضة، وتحديداً الإسلامية، سواء كانت سياسية أم مسلّحة. وفي خضم هذه الممارسات، فُرضت إملاءات النيوليبرالية. وحتى يومنا هذا، وبعد مرور كل هذا الوقت، ما زال على الرأي العام أن يكتفي بخطابات النصر دون الإطلاع على النتائج الفعلية لهذه العملية الإلزامية الواسعة، التي تستند إلى الأكاذيب والتزوير.
ميثاق بمقابل وفاق
في آب/ أغسطس العام 2005، أُطلق "ميثاق السلم والمصالحة الوطنية" الذي كان قد كشف النقاب عنه في بداية تشرين الثاني/نوفمبر 2004 لمناسبة الاحتفال بالذكرى الخمسين لاندلاع حرب التحرير الجزائرية. على امتداد شهور طويلة، سُمح لمؤيدي الميثاق، وحتى لمنتقديه، بالظهور على وسائل الإعلام ولكن في إطار محدّد سلفاً لا يتجاوز الخطوط الحمراء التي رسمها قادة الانقلاب في 11 كانون الثاني/يناير 1992. لم يأتِ نص الميثاق كنتيجة طبيعية للمفاوضات بين الفاعلين السياسيين والاجتماعيين من أجل تشخيص أسباب الصراع، بغية إيجاد الأنماط المناسبة لتجاوزه. على العكس من ذلك، فقد نسف "الميثاق" روح "الوفاق الوطني" الذي أرْسته مجموعات المعارضة في العام 1995 للدعوة في المقام الأول إلى حلّ سياسي للأزمة، في حين أن "المصالحة" التي فُرضت بشكل تعسفي جاءت كنتيجة للنهج القمعي بالدرجة الأولى.
وقد استندت روحية "الميثاق" على مقاربة سلطوية وأبوية: فرضت تعريفاً وحيداً لـ"التراجيديا الوطنية" مفاده أن الجزائر لم تتمكن من النجاة إلا بفضل قوات الأمن والميليشيات، التي تُعفى دائماً من مسؤولية الجرائم الفظيعة التي ارتكبت. وحدهم "الإرهابيون الدمويون" هم الجناة. ولكن السلطات في تساهلها الواسع الذي تدّعيه تقترح وقف الملاحقات أو منح العفو لهؤلاء ممن لم تلوث أيديهم بالدماء، أو عمليات الاغتصاب والتفجير، وذلك في موازاة نصها على التعويض لأهالي الضحايا، وبشكل أساسي لعائلات المفقودين.
بعد تشريع "الميثاق"، دُعي الجزائريون والجزائريات إلى الاستفتاء عليه في 29 أيلول/ سبتمبر 2005، لاتخاذ قرار بشأن هذا النص المعقد. وفقاً للخطاب الرسمي، كان الاستفتاء ملزِماً بقبول السلم أو رفضه. في حين أن دعاة التصويت بـ لا، الذين أرادوا شرح محتوى الميثاق وتداعياته، حُظًر عليهم الكلام، وسط ضغط الحكومة من أجل تبنيه. وصدر القرار ببدء تنفيذه في 27 شباط/ فبراير 2006 ليكشف عن أبعاد هذه العملية الواسعة القائمة على إنكار دور المجرمين على كافة المستويات، وبالتالي تبرئتهم.
"حرب قذرة" بوجوه مخفية
غداة الانقلاب في 11 كانون الثاني/ يناير 1992، الذي أتبعه إقالة الرئيس وحلّ البرلمان وتجميد الدستور، تعرض أعضاء "الجبهة الإسلامية للإنقاذ" وأنصارها لحملة قمع عنيفة بعد فوزهم في الانتخابات. ألقت قوات الأمن القبض على عشرات الآلاف منهم، وجرى ترحيلهم إلى معسكرات الاعتقال حيث تعرضوا للتعذيب أو القتل أو الإخفاء القسري. وبعد العام 1994، وبوجه تمرّد "الجماعة الإسلامية المسلّحة" و"الجيش الإسلامي للإنقاذ"، صعدت ميليشيات مسلحة ومجموعات إسلامية مزيفة يسيطر عليها وكلاء الاستخبارات السرية في الجيش الجزائري ("دائرة الاستعلام والأمن") لمحاربة المتمردين والمدنيين المتهمين بالتعاطف مع هؤلاء.
بعد العام 1996، ارتكبت مجازر جماعية نسبت إلى "الجماعة الإسلامية المسلحة" وتسببت بتهجير حوالي مليون ونصف المليون جزائري. ووصلت مرحلة مكافحة التمرد - التي قادها قادة الجيش - إلى ذروتها بين عامي 1997 – 1998 في الرايس وبن طلحة وسيدي يوسف وسيدي حامد وغليزان، إلخ... التي شهدت مذابح حصدت عشرات بل مئات القتلى. وربطت هذه المجازر بصراع مستعر شهده رأس السلطة، وهي لم تتوقف إلا بعد استقالة الرئيس اليمين زروال القسرية في أيلول/ سبتمبر العام 1998 وتعيين القيادة العسكرية للرئيس عبد العزيز بو تفليقة. بعد وصوله في 1999 إلى سدة الرئاسة، (في انتخابات قيل فيها الكثير عن مبلغ التزوير) باشر بوتفليقة في مسار تشريعي لقانون "الوئام المدني" حرص على تكريسه في استفتاء شعبي في أيلول/ سبتمبر من العام نفسه، لإرساء السلام في البلاد، عبر منح العفو في بعض الظروف لعناصر الجماعات المسلحة. ويُذكر أن سلفه زروال كان قد شرّع في العام 1995 قانون "الرحمة" الذي يعمل في الاتجاه نفسه.
غاب ضحايا عنف الدولة والجماعات المسلحة عن نصوص هذين القانونين، ولم تقف الأمور عند هذا الحدّ، بل عانى هؤلاء من بطش الجهازين الأمني والقضائي في وجه أي محاولة منهم لتحقيق العدالة أو للتقدم بشهادة علنية. لكن أمام مثابرة أهالي المخطوفين والمخفيين قسراً في هذه القضية، أُلزمت الحكومة بالاعتراف بهذه القضية مع الحرص على التأكيد بأنها "مسؤولة وليست مذنبة". ما تقدّم يعني أنه على الرغم من توفر العناصر التي لا تحصى عن المسؤولية المباشرة لمؤسسات الدولة في الإخفاء القسري لأعداد تتراوح بين 8000 و20000 شخص، فإن هؤلاء أُلحقوا بخانة "التراجيديا (المأساة) الوطنية" وهي الخانة نفسها التي تضم ضحايا الجماعات المسلحة. بينما بقي عشرات الآلاف من ضحايا التعذيب وجرحى الحرب، والإعدامات الجماعية على يد قوات الأمن، في دائرة الظلّ، التي تُحرّم الكلام عنهم.
من يجرؤ حتى اليوم في الجزائر على المجاهرة بالسؤال عمن ارتكب المجازر الجماعية التي أغرقت البلاد في عنف مروّع؟ لم يُفتح أي تحقيق جديّ في القضية، والقلة القليلة حوكمت لكن من دون توفر أدلة على تورطها. على سبيل المثال، نذكر هنا فؤاد بولمية الذي اتهم بتصفية عبد القادر حشاني في العام 1999، الموصوف آنذاك بالرقم ثلاثة في "الجبهة الإسلامية للإنقاذ"، كما اتهم بالمشاركة في مجزرة بن طلحة في 22 أيلول/ سبتمبر العام 1997 التي سقط فيها حوالي 400 شخص بوحشية مفرطة. حُكم بولمية بالإعدام في العام 2004، فكيف أُفرج عنه في آذار/ مارس العام 2006، علماً بأن القانون لا يشمل بالعفو مرتكبي المجازر؟ فهل كان بولمية عميلاً سرياً؟
تبرئة الذات أو كيف تنتهي "الحرب القذرة"؟
هدف القانون الذي كرّس "المصالحة الوطنية" إلى ختم الفصل المؤلم من "التراجيديا الوطنية" عبر تكريس مبدأ الحصانة المطلقة. ولا يمكن أن يكون الأمر أكثر وضوحاً إذا ما راجعنا المادة 45 من الميثاق والتي تنص على أنه " لا يجوز الشروع في أي متابعة، بصورة فردية أو جماعية، في حق أفراد قوى الدفاع والأمن للجمهورية، بجميع أسلاكها. يجب على الجهات القضائية التصريح بعدم قبول كل إبلاغ أو شكوى". وتذهب المادة 46 بعيداً في هذا الاتجاه: "يعاقب بالحبس من ثلاث سنوات إلى خمس سنوات وبغرامة من 250 ألف دينار جزائري إلى 500 ألف دج، كلّ من يستعمل، من خلال تصريحاته أو كتاباته أو أي عمل آخر، جراح المأساة الوطنية أو يعتدّ بها للمساس بمؤسسات الجمهورية الجزائرية الديموقراطية الشعبية، أو لإضعاف الدولة، أو للإضرار بكرامة أعوانها الذين خدموها بشرف، أو لتشويه سمعة الجزائر في المحافل الوطنية".
اشترت السلطات صمت أهالي المخفيين قسراً ببضعة دنانير، في ابتزاز مثير للاشمئزاز. كثر أجبروا على الاستسلام أو حتى على قبول وصف أهلهم المخفيين/ المفقودين بـ"الإرهابيين" بسبب ظروفهم المادية، بينما أصرّ البعض على مواصلة النضال من أجل الحقيقة والعدالة. ونظراً لعجز ذوي ضحايا الإخفاء القسري أو الإعدامات العرفية في اللجوء إلى القضاء الجزائري، يتوجه هؤلاء إلى هيئات الأمم المتحدة التي توصي الدولة الجزائرية بضرورة كشف الحقيقة ومحاسبة المسؤولين. وفي كل مرة، يأتي ردّ أجهزة الأمن الجزائرية على المطالب الدولية بترهيب أصحاب الشكاوى والتضييق عليهم بغية دفعهم إلى سحب شكواهم.
من هنا، تعتبر سياسة "المصالحة الوطنية" مجرّد تأجيل للعنف (هروب إلى الأمام)، أنتج عشر سنوات من البحبوحة المالية التي تحققت عبر واردات النفط، في حين أسهم البوليس السياسي المطلق السلطة في بث الرعب بين الجزائريين ووأد أي سؤال قد يُطرح عن الحرب ضد المدنيين. لكن هذا الإجماع بات اليوم مهدداً: أسعار النفط لم تعد قادرة على إرضاء جميع العملاء، والمؤسسات الأمنية، إثر سلسلة من الفضائح الدولية، وتحديدا المتعلقة بدائرة الاستعلام والأمن (جهاز الاستخبارات) الذي يحكم قبضته على قطاع النفط. أما أسطورة "مكافحة الإرهاب" التي قدسها القانون الجزائري، فباتت خاضعة للمساءلة من مناصريها أنفسهم.
ما سبق يوحي بأن سياسة "المصالحة" قد وصلت إلى حائط مسدود، بينما يثير الجمود المؤسساتي الحالي نتيجة مرض الرئيس، المخاوف من البدء في تصفية حسابات عنيفة. في المقابل، فإن الإجماع المستمر بين زعماء "الحرب القذرة"، الذي يمنحهم الحصانة، يُسهم حتى الساعة في لفلفة ما ارتكبوه من جرائم. وهذا هو السبب الذي يجعل الرئيس الجديد لدائرة الاستعلام والأمن ليس سوى الجنرال عثمان طرطاق (الملقب بـ"بشير")، المسؤول السابق عن واحد من أسوأ مراكز التعذيب والإعدامات العرْفية في الدائرة.
في الوضع الحالي، يبدو واضحاً أن السلطة، وكذلك المعارضة، لا تريدان، في تقاطع رغبات مشتركة، الاعتراف بأي مسؤولية عما ارتكب من أخطاء سياسية بالغة وتضليل وجرائم وقعت خلال التسعينات وبعدها. مع ذلك، يبقى الاعتراف شرط مسبق لجميع الفاعلين السياسيين للالتزام بمبادرة فعلية للمصالحة. وهذا هو الخطاب الوحيد الذي ينجح في إرساء أسس سياسية واجتماعية تسمح بتخطي هذا الوضع من الانفلات الأمني، ومن غياب السياسة المستفحِل تحت وطأة تحديات "زعزعة الأمن".