غزّة: عقاب على مجرد الوجود

بعد أربعة أيام من شنّه حرباً على غزّة، أشار بنيامين نتنياهو إلى الفوضى في المنطقة والصراع مع حماس، قائلاً: «أعتقد أن الشعب الإسرائيلي يفهم الآن ما كنت أقوله على الدوام من أنه لا يمكن أن يكون هنالك وضع، في إطار أي اتفاق، نتخلى فيه عن السيطرة الأمنية على منطقة غربيّ نهر الأردن». يجب أن نصغي باهتمام حين يتحدث نتنياهو إلى الشعب الإسرائيلي. ما يجري في فلسطين لا يتعلق بحماس في حقيقة
2014-08-06

رشيد الخالدي

مؤرخ من فلسطين، وبروفسور الدراسات العربية الحديثة في جامعة كولومبيا بنيويورك، ومدير مدرسة الشؤون الدولية والمحلية التابعة لمعهد الشرق الأوسط في الجامعة.


شارك

بعد أربعة أيام من شنّه حرباً على غزّة، أشار بنيامين نتنياهو إلى الفوضى في المنطقة والصراع مع حماس، قائلاً: «أعتقد أن الشعب الإسرائيلي يفهم الآن ما كنت أقوله على الدوام من أنه لا يمكن أن يكون هنالك وضع، في إطار أي اتفاق، نتخلى فيه عن السيطرة الأمنية على منطقة غربيّ نهر الأردن». يجب أن نصغي باهتمام حين يتحدث نتنياهو إلى الشعب الإسرائيلي. ما يجري في فلسطين لا يتعلق بحماس في حقيقة الأمر. لا يتعلق بالصواريخ. لا يتعلق بـ«الدروع البشرية « أو «الإرهاب» أو أي من المجازات الكاذبة التي طورها اختصاصيو العلاقات العامة الذين فتنوا واشنطن العاصمة ووسائل الإعلام الأميركية السائدة. إنه يتعلق بسيطرة إسرائيل الدائمة على أرض فلسطين وهيمنتها المتواصلة على الفلسطينيين. هذا ما يتحدث عنه نتنياهو وهذا ما يعترف الآن هو نفسه بأنه أراده «على الدوام». وهو يتعلق بسياسة إسرائيلية لا تلين، طولها عقود من حرمان فلسطين من حقها في تقرير المصير والحرية والسيادة.

ما تفعله إسرائيل في غزة الآن هو عقاب جماعي. عقاب لرفض غزة أن تكون غيتو منصاعاً. عقاب للفلسطينيين لتشكيلهم حكومة موحدة (ذلك أن السماء تحرّم على الفلسطينيين أن يتحدوا). هو عقاب لصلف حماس والفصائل الأخرى في ردّها على حصار اسرائيل بالمقاومة، المسلحة أو سواها، بعد ردّ إسرائيل المتكرر على الاحتجاجات غير المسلحة بوحشية وسحقها بعنف. وكانت حماس قد التزمت وقف إطلاق النار وعرضت في السابق هدنةً لمدة عشر سنوات، ولكن دون جدوى: فلم يتم رفع الحصار. بل إن حماس وافقت على الانضمام إلى حكومة موحدة تعترف بوجود إسرائيل.

عقاب الفلسطينيين على مجرد وجودهم

تثبت كلمات نتنياهو أن إسرائيل لن تقبل أي شيء أقل من إذعان الفلسطينيين وبقائهم في حال من التبعية والقهر الدائمين. لن تقبل سوى «دولة» فلسطينية مجرّدة من سمات الدولة: السيطرة على الأمن والحدود والمجال الجوي والحدود البحرية، والتواصل، وبالتالي السيادة. وقد بيّنت تمثيلية 23 عاماً من «عملية السلام» لكل ذي عين أن هذا هو كل ما يقدمه الإسرائيليون، بموافقة كاملة من واشنطن. وما من مرّة قاوم الفلسطينيون فيها ذلك المصير المحزن الصاغر (كما ينبغي لأي أمة، وكما فعلت الأمم الأخرى، من إيرلندا إلى الهند إلى جنوب أفريقيا...) إلا وعاقبتهم إسرائيل على غيّهم. لا جديد في كلّ هذا.

ثمة تاريخ طويل لمعاقبة الفلسطينيين على مجرد وجودهم. ولطالما كانت هذه سياسة إسرائيل قبل أن تغدو حماس وصواريخها البدائية بعبع اللحظة، وقبل أن تحوّل إسرائيل غزة إلى سجن مفتوح، وكيس ملاكمة ومختبراً للأسلحة. في العام 1948، ذبحت إسرائيل آلاف الأبرياء وروّعت وشرّدت مئات الآلاف كجزء ضروري من عملية إقامة دولة ذات أغلبية يهودية في أرض ذات غالبية عربية حيث يشكل العرب 65 في المئة. كما شردت إسرائيل مئات آلاف الفلسطينيين من جديد في عام 1967، واحتلت أرضاً لا تزال تفرض سيطرتها عليها منذ 47 عاماً.

في العام 1982 اجتاحت إسرائيل لبنان، وقصفت بيروت «عشوائياً» من الجو والبر والبحر (توماس فريدمان الذي كان هناك، هو من استخدم كلمة «عشوائي» indiscriminately التي خضعت لرقابة نيويورك تايمز)، وقتلت 17 الفاً وشوّهت عشرات الآلاف، سعياً لإخماد الوطنية الفلسطينية. وابتداءً من أواخر عام 1980، عندما نهض الفلسطينيون تحت الاحتلال وأطلقوا احتجاجاتهم بالحجارة والإضرابات العامة، راحت إسرائيل تكسر عظام المتظاهرين واعتقلت وعذبت الآلاف: 40 في المئة من السكان الفلسطينيين البالغين الذكور، ثلاثة أرباع مليون نسمة، كانوا في السجون الإسرائيلية. وخلال الانتفاضة الثانية، أعادت إسرائيل احتلال الضفة الغربية (التي لم تغادرها تماماً قطّ) حين خرج الفلسطينيون مرة أخرى ضد احتلال الأراضي الفلسطينية واستيطانها المتواصل بلا هوادة طيلة «عملية السلام» من تسعينيات القرن العشرين إلى يومنا هذا. فهل نجد في أي وسيلة إعلامية أميركية أي مناقشة جدية لهذا التاريخ الذي يقف وراء ما مورس من عنف إسرائيلي ضد الفلسطينيين في الأسابيع الثلاثة الماضية، أم أن الحديث مقتصر على وقف إطلاق النار والأنفاق والصواريخ التي تنزل على إسرائيل، ومسؤولية الفلسطينيين عن معاناتهم؟

ذرائع متغيرة وأساس واحد

في السنوات السبع الأخيرة حاصرت إسرائيل قطاع غزة وعذّبته وهاجمته بانتظام. وكانت الذرائع تتغير بالطبع: انتخاب حماس، العناد، إطلاق الصواريخ، بناء الأنفاق التفافاً على الحصار، إلخ إلخ... لكن هذه الذرائع جميعاً لم تكن سوى ذرائع. ليست سوى ذرّ للرماد في العيون لصرفنا في النهاية عن المشكلة الأساسية المتمثلة في أنك حين تحصر 1.8 مليون نسمة في غيتو مساحته 140 كيلومترا مربعا، (أي أصغر من حي كوينز في نيويورك) من دون سيطرة على الحدود، ومن دون منفذ للصيادين على البحر (خلا منفذ صغير لا يتعدى 3 كم)، ومن دون معبر للدخول والخروج، مع طائرات بدون طيار تئزّ فوق الرؤوس ليلاً ونهاراً - فإنّه لا بدّ لهذا الغيتو من أن يردّ ويقاوم في نهاية المطاف. كان ذلك صحيحاً في سويتو، وكان صحيحاً في بلفاست، وكذلك في وارسو. وهو صحيح في غزة. قد لا تروق لنا حماس، قد لا تروق لنا بعض وسائلها، لكن هذا لا يبرر الافتراض أن على الفلسطينيين أن يتقبّلوا حرمانهم من حريتهم.

في الواقع، لم يكن الأمر قطّ أمر حماس ورفضها إسرائيل، كما لم يكن قبل ذلك أمر منظمة التحرير الفلسطينية ورفضها إسرائيل. ولم تَغْدُ مثل هذه الأضاليل «حقائق» إلا بفضل تكرارها الهستيري، الوسواسي، على أفواه أنصار إسرائيل وأفواه العاملين في الإعلام وفي السياسة الأمريكية، ممن دُرِّبوا طوال عمرهم على أن يكونوا مدافعين عمياناً عن سياسات إسرائيل. والحقيقة هي أنّ الأمر هو أمر إنكار إسرائيل حقّ فلسطين في الوجود.

هذا بالضبط ما يجعل دعم الولايات المتحدة للسياسة الإسرائيلية الحالية ضرباً من الحماقة. وكان السلام قد تحقق في إيرلندا الشمالية وفي جنوب أفريقيا أيضاً بسبب إدراك الولايات المتحدة والعالم أنه لا بدّ من الضغط على الطرف الأقوى، وهو ما عَدّل الموازين في النزاع اللامتكافئ بين الظالمين والمظلومين. وكان ذلك يعني أنه من أجل محاسبة الطرف الأقوى ووضع حدّ لإفلاته من العقاب، من الضروري للتعامل مع جماعات مثل الجيش الجمهوري الإيرلندي وحزب المؤتمر الوطني الافريقي، وهي جماعات انخرطت في حرب عصابات بل ومارست «الإرهاب». كان ذلك هو السبيل الوحيد للشروع في طريق نحو السلام الحقيقي والمصالحة الحقيقية. وحالة فلسطين لا تختلف عن هذه الحالات في الجوهر.

أورويل

مثالا إيرلندا الشمالية وجنوب أفريقيا بعيدان كلّ البعد عن أن يكونا مثالين كاملين، لكنهما عالمان بعيدان عن الواقع الأورويلي (نسبةً إلى جورج أورويل صاحب الرواية الشهيرة «1984») الذي نجد أنفسنا فيه، حيث تطبش الولايات المتحدة الميزان بإبهامها الهائل لمصلحة الطرف الأقوى. هذا الواقع هو عالم سريالي مقلوب رأساً على عقب، كما لو أن الفلسطينيين هم الذين يحتلّون الإسرائيليين وليس العكس. وفي هذا العالم الغريب الملتوي، تبدو فلسطين هي القوة النووية التي تملك رابع أقوى جيوش العالم وتضرب حصارها على إسرائيل لتجعل منها ذلك السجن المفتوح، في الوقت الذي تستمتع بمساعدة أميركية تبلغ ثلاثة مليارات من الدولارات سنوياً.

إذا ما أردنا أن نبتعد عن هذا الخيال، يتعيّن على الولايات المتحدة إما أن تعكس سياساتها أو أن تتخلى عن دورها كـ«وسيط نزيه». إذا كانت الحكومة الأميركية تريد أن ترسل المليارات سنوياً إلى إسرائيل، وأن ترسل إليها الأسلحة لارتكاب مجازر بالمدنيين، وأن تكرر كالببغاء ما تقوله إسرائيل، مما يخالف العقل والقانون الدولي، فليكن. لكن عليها عندئذ ألا تدّعي رفعة الأخلاق وتكفّ عن الترتيل للسلام. وعليها بلا شكّ أن تتوقف عن إهانة الفلسطينيين بالقول إنها تهتم لأمرهم: من الواضح أن أرواح الفلسطينيين وحقوقهم لا تعني أي شيء على الاطلاق لحكومة الولايات المتحدة. وإذا ما أردنا أن نكون صادقين مع أنفسنا، فإن من الواجب إدانة الولايات المتحدة وعزلها دولياً على هيئة مقاطعة وعقوبات لتمويلها دولة فصل عنصري منخرطة في جرائم حرب، وتوريدها الأسلحة إليها ودعمها دبلوماسياً. لكن هذا يقتضي الكثير. يقتضي أن نعيش في مجتمع حيث الحرب ليست السلام، والحرية ليست العبودية، والجهل ليس القوة. عالم بعكس العالم الذي وصفه أورويل في روايته.

مقالات من غزة

أيرلندا تتبرّأ من عار بايدن

2024-03-21

ليس التماهي الصادق والعميق الذي يعبر عنه عموم الأيرلنديين تجاه الفلسطينيين وقضيتهم جديداً في أيّ حال من الأحوال. الآن، خلال الإبادة التي تتعرض لها غزة، وقبلها، وعند كل منعطف وحدث،...

ماذا الآن؟

وقعتْ إسرائيل في خانة المستعمِر، واهتزت بقوة "شرعيتها" المصنوعة بتوأدة. حدث ذلك بفعل مقدار منفلت تماماً من همجيتها في الميدان وصل إلى التسبب في الصدمة للناس، وكذلك بفعل التصريحات والخطب...