التلقيح ضد كوفيد - 19 في الجزائر: بين القول والفعل

لم يكن بوسع السلطة الجزائرية - التي أضعفتها الانتخابات التشريعية في 12 حزيران/ يونيو 2021، إذ كشفت وهنها السياسي إثر مقاطعتها من قبل أكثر من 80 في المئة من المواطنين - إلا المضي قدماً في الاستمرارية السياسية معولةً على أكثر شيء تتقن فعله، أي إصدار قرارات تسلطية، في قطيعة مع تطلعات الناس.
حملة التلقيح في الجزائر

تم انتاج هذا المقال بدعم من مؤسسة روزا لكسمبورغ. يمكن استخدام محتوى المقال أو جزء منه طالما تتم نسبته للمصدر.

هناك عاملان اجتماعيان - سياسيان رئيسيان يهيكلان عملية التلقيح ضد كوفيد - 19 في الجزائر. من جهة، تجد السلطة نفسها مجبرةً أن تتحرك في نطاق التعهد بتأمين اللقاحات، مع الإشارة هنا إلى التوزيع غير العادل للجرعات، خاصةً بين الدول الرأسمالية المتقدمة وأفريقيا، وهذه الأخيرة لم تحظَ إلا بواحد في المئة (1) من جملة ثلاثة مليارات جرعة أعطيت في أنحاء العالم.

 يؤدي الترقب السياسي إلى اعتماد خطاب يتكرر كتعويذة: "سنتسلم خلال الفترة الممتدة من 11 إلى 18 تموز/ يوليو 2021 أربعة ملايين جرعة لقاح" (تصريح لوزير الصحة، 8 تموز/ يوليو 2021). وكان المسؤولون في قطاع الصحة قد استلموا خلال الأشهر الخمسة الأخيرة (من شباط/ فبراير إلى حزيران/ يونيو 2021) مليوني ونصف مليون جرعة لقاح. ومن جهة أخرى، فإن الانتقادات الحادة للعاملين الصحيين حول بطء عملية التلقيح تجبر المسؤولين الصحيين على التحدث بشكل صريح عن ضرورة تسريع وتعميم العملية على نطاق واسع.

تطلب الأمر خمسة أشهر حتى يصبح التطعيم ضد كورونا موضوعاً سياسياً يرتبط بشكل وثيق بالتوجيهات ذات الطابع الإرادوي: لقاح مجاني للجميع. أجبر المسؤولون على اتخاذ هذا القرار إزاء القصور في السيطرة على الوضع الوبائي المتسم بتزايد حالات العدوى بكوفيد-19 حسب ما تظهره الأرقام الرسمية (2).

تعيد السلطة الجزائرية المنبثقة عن الانتخابات الرئاسية (12 كانون الأول/ ديسمبر 2019)، إنتاج حالة الإنكار ذاتها، بسبب قصور تحليلها وفهمها للمجتمع الذي لم تستطع أن تحرّكه وتوجهه بشكل ذكي وفعال طيلة فترة انتشار الوباء. وللتعبير عن هذا الوضع، يستعمل الخطاب الشعبي استعارةً صائبة تماماً: "إنهم يتعاملون معنا ككرة تتقاذفها الأرجل". كما إن المجتمع لم يكن معنياً كثيراً بجهود الاستقصاء الوبائي. فبعد أن تم إخضاعه، صار يعامل وكأنه وعاءٌ فارغ يكفي أن تسكب فيه المعارف والسلوكات بشكل آلي. أخيراً، لم تشمل آلية احتساب الإصابات التي وضعتها السلطات الصحية، مؤسسات الرعاية الصحية الخاصة والصيدليات، مما يعني أن آلاف حالات العدوى لم تحتسب في الأرقام الرسمية التي تعلن يومياً.

سعينا انطلاقاً من تجربتنا الميدانية في هياكل الرعاية الصحية بمدينة وهران، إلى فهم التباينات بين قول الفاعلين الاجتماعيين وفعلهم إزاء التلقيح، سواء تعلق الأمر بالسلطات العمومية، أو بالعاملين الصحيين، أو بالأشخاص الذين تلقوا اللقاح. سنشير في قسم أول إلى الموقف الإرادوي والمسقَط للسلطات الصحية التي تسعى إلى القيام بـ"عمليات زرع" لقاحية سريعة عبر تكثيف مراكز التلقيح في الأماكن الاجتماعية والمهنية. ثم سنبرز في مرحلة ثانية العقبات والتعرجات التي تعترض طريق "الفعل التلقيحي" بسبب غياب الشفافية والتكافؤ في الحصول على اللقاح، وهو أمر يطبع بشكل عميق السير اليومي للعملية التلقيحية. وفي القسم الأخير سنتطرق إلى الهبّة اللقاحية التي تعيشها البلاد منذ شهر تموز/ يوليو 2021، وهي نتيجة لضغط قوي، بعضه متأتٍ من ظهور فيروسات جديدة، والجزء الأكبر تمارسه المؤسسة العائلية. هذه الأخيرة ستسد الثغرات التي تركها المسؤولون السياسيون وجمعيات المرضى، عبر القيام بدور حاسم كوسيط وناقل للمعلومات والأخبار إلى أفرادها بهدف تشجيعهم على إنجاز التلقيح.

سياسات إرادوية تدار بشكل عمودي

"الطوارئ اللقاحية" تبدو العبارة الأكثر تكراراً في خطاب المسؤولين الصحيين الجزائريين الذين يقومون بمضاعفة عدد الأماكن المخصصة للتلقيح (مساجد، مراكز تجارية، ساحات عامة، مدارس، الخ). وحسب الأرقام الرسمية، فعلى امتداد خمسة أشهر (من شباط/ فبراير إلى حزيران/ يونيو 2021) لم يتلقَ إلا مليونان ونصف مليون شخص اللقاحَ في بلد تعداد سكانه 43 مليون نسمة. وسجلت مدينة وهران حتى 9 حزيران/ يونيو نسبة ملقحين تقدر بـ 3 في المئة من جملة أكثر من مليوني شخص يعيشون فيها.

ظلت عملية التلقيح طيلة الأشهر الستة الأولى خجولةً جداً ومتقطعة، تخضع لتقلبات متعددة في سياق اجتماعي - صحي يتسم بالتعتيم على المعلومات. وحتى 29 حزيران/ يونيو 2021، كان ما لا يزيد عن 345 طبيباً وكادراً شبه طبي قد تلقوا اللقاح، من جملة 400 جرعة رصدت لمهنيي الصحة الذين يقدر عددهم بـ 7780، أي بالكاد 5 بالمئة منهم.

يرتبط الشك - وكذلك تعدد الممارسات الملتوية في عملية التلقيح - الذي ينتاب قطاعات واسعة من المجتمع بغياب الجرأة السياسية والاتصال المباشر بالمواطنين. تتشبث السلطة الجزائرية إذاً بالوعد المعلن، الذي يفترض أن يخلق شعوراً بالفخر الوطني، وذلك عبر تأكيد الشروع في التصنيع المحلي للقاح الروسي "سبوتنيك" انطلاقاً من شهر أيلول/ سبتمبر2021.

يشعر الأطباء، خلال ممارستهم لأنشطتهم اليومية، بوطأة هذه السياسة التلقيحية الإرادوية المفروضة من الأعلى، والنابعة من منطق تحكمي بحت جعل من عدد الأشخاص الملقحين البعد المركزي لعملية التلقيح، بغض النظر عن ظروف العمل التقنية والاجتماعية. "لم تكن هناك حملة! هذا ضغط! ما يفعلونه غير متلائم مع احتياجات السكان! الكثير من المطالب هنا وهناك، عمليات التسجيل، الكثير من الأوراق هنا وهناك، الخ.. في حين أن عملية التلقيح بسيطةٌ جداً"، تقول طبيبة تمارس الطب العام منذ 29 سنة، وتعمل بالعيادة متعددة الخدمات بوهران.

يُثري المراقبةَ الدقيقة والمتأنية لعملية التلقيح التي يتم تأمينها في حي تجاري، أطلقت عليه تسمية "المدينة الجديدة" في وهران، أشخاصٌ يتوافدون يومياً من كل المناطق المجاورة. فهي تتم في خيمة تحتوي اللقاحات المنقولة في ثلاجات صغيرة محمولة. تفاقم درجات الحرارة المرتفعة الجو المنقبض الذي يسوده الاحتقان. الجميع منفعلون: المواطنون الذين نفذ صبرهم من طيلة الانتظار، والعاملون الصحيّون - محدودو العدد - الذين يعملون في ظروف اجتماعية وتقنية غير إنسانية، إذ لا توجد مياه تروي عطشهم وتنعشهم، ولا مراوح كهربائية تنسيهم الحر الشديد. أقيمت خيمة أخرى لاستقبال الأشخاص الذين ينتظرون دورهم. أكثر من ثلاثين شخص يجلسون على كراسٍ، في حين يحاول آخرون، أكثر تعجلاً، الحصول على توضيحات من من قبل عاملي الصحة الذين تجاوزتهم الأحداث، ولم يعد بإمكانهم الإنصات للجميع. بالقرب من الخيمة تنتشر الأوساخ، الفضلات بارزةً في الساحة التجارية على حواف الأرصفة، متعايشةً بشكل يتناقض مع الفعل الميكروبيولوجي المتمثل في العملية التلقيحية (ملاحظات سجلت يوم 8 تموز/ يوليو 2021).

مقالات ذات صلة

تشير الطبيبة المسؤولة عن التلقيح في هذه الخيمة إلى عدم تلاؤم المكان مع هذه العملية. الإدارة العمودية لعملية التلقيح تتم في مناخ من التباعد الاجتماعي بين "هم" و"نحن، أي المسؤولون السياسيون، والمديرون المحليون المنصتون أكثر للسلطة المركزية التي يتوجب عليهم تطبيق تعاميم"ها"، ومهنيو الصحة الذين يجدون أنفسهم في احتكاك مباشر مع السكان المترقبين لمعلومات دقيقة حول مختلف اللقاحات. ظروف عمل العاملين الصحيين صعبة، ومحفوفة بمشاكل من كل نوع (شح الإمكانات، أشكال متعددة من سوء التفاهم مع التراتبية الإدارية)، ويرون أنهم لا يحظون بأي اعتراف اجتماعي من قبل السلطات العمومية. "هذا ليس مكاناً يمكن العمل فيه"، تقول تلك الطبيبة..

يتم التلقيح في خيمة تحتوي اللقاحات المنقولة في ثلاجات صغيرة محمولة. تفاقم درجات الحرارة المرتفعة الجو المنقبض الذي يسوده الاحتقان. الجميع منفعلون: المواطنون الذين نفذ صبرهم من طيلة الانتظار، والعاملون الصحيّون - محدودو العدد - الذين يعملون في ظروف اجتماعية وتقنية غير إنسانية. وتشير الطبيبة المسؤولة عن التلقيح في هذه الخيمة إلى عدم تلاؤم المكان مع العملية.

لم يكن بوسع السلطة الجزائرية - التي أضعفتها الانتخابات التشريعية في 12 حزيران/ يونيو 2021، إذ كشفت وهنها السياسي إثر مقاطعتها من قبل أكثر من 80 في المئة من المواطنين - إلا المضي قدماً في الاستمرارية السياسية معولةً على أكثر شيء تتقن فعله، أي إصدار قرارات تسلطية، في قطيعة مع تطلعات الناس. يترك السياسي أثرا بارزاً في السير اليومي لهياكل الرعاية الصحية. يجد الناس العاديون أنفسهم مدفوعين إلى دوامة التيه الاجتماعي والعلاجي، في ظل غياب خارطة دقيقة لمراكز وأماكن التلقيح. "عُد الأسبوع القادم"، "قم بتسجيل نفسك وسنتصل بك عبر الهاتف"، الخ. تعيد الضبابية الاجتماعية - التنظيمية إنتاج الطرق الملتفة نفسها التي يسلكها الأشخاص المتمتعون برأسمال علائقي -المعيار الوحيد "المتفق عليه" اجتماعياً - مما يمكّنهم من ضمان عملية تلقيح سريعة في ظروف تحفظ كرامتهم.

ممارسات ملتوية ولا تكافؤ في الحصول على اللقاح

 ندرة الجرعات التي يتم تقطيرها بشكل مقيّد وعمودي على العيادات متعددة الخدمات، وكذلك ضعف الصدى الاجتماعي لحملة التلقيح، هي أمور خدمت الأشخاص المطّلعين، الذين يحوزون رأس مال ثقافي وعلائقي مهم، مما يمنحهم أولويةً في الاستحواذ على أولى جرعات اللقاح. "تسلمنا في البداية 20 جرعةً، فاستحوذ عليها المدير ليوزعها على أصدقائه"، يخبرنا دكتور في الطب العام (55 سنة، 25 سنة من الخبرة المهنية) يعمل في عيادة متعددة الخدمات بوهران. وهذا، حتى وإن تمّ بموازاة ذلك الاتصال هاتفياً ببعض الأشخاص المسجلين على "اللوائح" الرسمية - مرجع واضح يطالب به مهنيو الصحة بإلحاح - كي يأتوا لتلقي اللقاح. هذه اللعبة الاجتماعية المزدوجة، الظاهرة والمستترة في آن، التي تعطي الأفضلية للاعتبارات العلائقية، تهيكل العملية التلقيحية في الجزائر. بعبارة أدق، تضبط اللائحة المكتوبة أسماء الأشخاص ذوي الأولوية وشبكة "الأصدقاء والأقارب" غير الرسمية، مجسدةً أهمية رأس المال العلائقي.

يظهر بحثنا الاستقصائي أن عملية التلقيح ظلت طيلة الأشهر الستة الأولى (شباط/ فبراير- حزيران/ يونيو 2021) خجولةً جداً ومتقطعة، تخضع لتقلبات متعددة في سياق اجتماعي - صحي يتسم بالتعتيم في بث المعلومات، التي أصبحت تعليمات ملزمة للناس العاديين والعاملين الصحيين دون أن تستطيع الصحة المواطنية فرض نفسها في أماكن الرعاية الصحية.

في المركز الاستشفائي الجامعي بوهران، تم إشراك قسم طب الشغل في عملية التلقيح بعد أن كانت على عاتق مهنيي الصحة وحدهم. يعكس خطاب الأطباء المسؤولين عن التلقيح نظرةً اجتماعية قاتمة إزاء هذه العملية: "الكثير من الضجيج والقليل من الجرعات"، تقول طبيبة مختصة في طب الشغل كلفت بالمشاركة في عملية التلقيح. فحتى 29 حزيران/ يونيو 2021، كان ما لا يزيد عن 345 طبيباً وكادراً شبه طبي قد تلقوا اللقاح، من جملة 400 جرعة رصدت لمهنيي الصحة الذين يقدر عددهم بـ 7780، أي بالكاد 5 بالمئة منهم. "العاملون الصحيون الذين قبلوا تلقي اللقاح هم الذين شهدوا موت زملاء لهم في المستشفى، أو الذين عانوا من مرض الكوفيد"، يقول مختص في طب الشغل. بعض العاملين الصحيين انتظروا أن تتوضح ملامح عملية التلقيح في المستشفى، ثم قرروا فيما بعد تلقي اللقاح". في مواجهة المجهول توجب انتظار المبادرين الأكثر شجاعة، أو المقتنعين منذ البداية بضرورة تلقي اللقاح، للقيام بخطوة أولى، أي انتظار نتائج "فئران التجارب" الذين اندفعوا منذ البداية في المغامرة التلقيحية، حسب ما تشير إليه مختصةٌ في طب الشغل تعمل بالمركز الاستشفائي - الجامعي بوهران.

يتسم مسار التلقيح في الجزائر بتباين الزمنيات الصحية - الاجتماعية. في مرحلة أولى، دامت حالة الترقب السياسي خمسة أشهر بسبب ندرة جرعات اللقاح والتباطؤ في عملية التلقيح. وهذا الوضع ليس منفصلاً عن الظرف السياسي الذي تداخلت فيه التقييدات على الحريات، وإرساء تدابير قمعية، وتنظيم الانتخابات التشريعية في 12 حزيران/ يونيو 2021.

في مرحلة ثانية كثّفت السلطة مراكز التلقيح في عدة أماكن عمومية، منتهجةً سياسة إرادوية تسلطية ومسقَطة، لتعطي زخماً فورياً للعملية التلقيحية، وكانت منتجةً لعدة أشكال من اللاتكافؤ بين الأشخاص المحظوظين الحائزين على رأس مال علائقي، والمجهولين الذين فرض عليهم التيهان العلاجي. 

يرتبط الشك - وكذلك تعدد الممارسات الملتوية في عملية التلقيح - الذي ينتاب قطاعات واسعة من المجتمع بغياب الجرأة السياسية والاتصال المباشر بالمواطنين. تتشبث السلطة الجزائرية إذاً بالوعد المعلن، الذي يفترض أن يخلق شعوراً بالفخر الوطني، وذلك عبر تأكيد الشروع في التصنيع المحلي للقاح الروسي "سبوتنيك" انطلاقاً من شهر أيلول/ سبتمبر2021.

هذا الخطاب المهيمن منفصل عن واقع المشاكل اليومية للناس الذين يستعملون في خطابهم اليومي عبارة "بلاد خالية" للتعبير عن الوضع. يتسم نسق الحياة اليومية بتزايد الباعة غير النظاميين، وغياب السلطات و"ممثليها" المحليين بشكل يكشف مدى اتساع المسافة الاجتماعية بينهم وبين الناس. كما تعاني الأماكن العامة من تراكم الفضلات التي تُغرق الشوارع والأرصفة.

أخيراً، وبعد منع تظاهرات الحراك، حولت السلطة التنظيم المديني إلى نظام قامع منذ شهر أيار/ مايو 2021. في ظل هذه الظروف السياسية التي تتسم بمنع التعبير الحر، يصبح من الصعب تمثل العملية التلقيحية كحملة تلقيح سلسة وعفوية تنال رضا الشعب وتلقى منه تفاعلاً. ويبدو إن الضغط والتأثير العائليين، والخوف من الفيروس، والإرادوية المتعجلة للعاملين الصحيين، هي العناصر الحاسمة في هذه الهبّة التلقيحية التي لم تبرز فعلياً إلا مع بداية شهر تموز/ يوليو 2021.

العائلة: وسيط لا غنى عنه في الهبّة اللقاحية

تعوض المؤسسة العائلية جزئياً السلطات العمومية المحلية، وذلك عبر احتلال مكانة المجموعة المنظِمة لعملية التلقيح. توفر هذه المؤسسة المعلومات، وتتولى أحياناً توجيه الأقارب نحو هيكل رعاية صحية بعينه، يعتقدون أن مدة انتظار تلقي اللقاح فيه أقصر. كما إنها لا تتردد في عقد صلة مباشرة بينهم وبين أحد العاملين الصحيين من شبكة "معارفها". الثقة والاحترام والسلطة المعنوية لفرد من العائلة، هي أمور تضفي معنى على الانخراط في عملية التلقيح. كما إن اتخاذ قرار بالتوجه إلى هيكل رعاية صحية بعينه بتأثير من العائلة يقلل التشكك في التلقيح الذي يرتبط بالمخاوف من الآثار الجانبية. وتكتسي هذه المخاوف شحنةً معرفية/ إدراكية كثيراً ما تثير الجدل والنقاش في المجتمع الجزائري، عبر وسائل الإعلام ووسائط التواصل الاجتماعي.

"وصلتني المعلومة بواسطة فرد من عائلتي يسكن على مقربة من المستوصف. ترددت في تلقي اللقاح بسبب الخوف من الآثار الجانبية التي تم التطرق إليها خلال النقاشات وسط العائلة"، تقول أمينة، (40 سنةً، لا تعمل) التي تلقّت الجرعة الأولى من لقاح سينوفاك الصيني في 11 تموز/ يوليو 2021.

يخضع اختيار مركز التلقيح هو الآخر إلى المداولات العائلية، إذ يبحث الناس عن مركز رعاية صحية ينال رضاهم عبر تقليص مدة الانتظار، والتمكين من الحصول على المعلومات الصحية المطلوبة. أظهرت بحوثنا السابقة إن الناس، وإن ظلوا صامتين، فإنهم يراقبون بانتباه سير العمل اليومي في المجال الصحي. "علمت من خلال العائلة أن المستوصف يوفر اللقاح، مما يمثل خياراً أفضل من العيادة متعددة الخدمات، حيث يتجمع الكثير من الناس وتكون مدة الانتظار طويلة جداً. ترددت قليلاً قبل تلقي اللقاح بسبب ما ينشر في فيسبوك. في المستوصف كان تنظيم عملية التلقيح جيداً. قاس الطبيب ضغطي، ثم وضعت تحت المراقبة لمدة من الوقت. لكن فيما يتعلق بالمعلومات فما زال هناك الكثير مما ينبغي القيام به..." ، تقول شريفة ( 50 سنةً، لا تعمل) التي تلقت الجرعة الأولى من لقاح سينوفاك الصيني في 11 تموز/ يوليو 2021.

لا يمكن التقليل من أهمية البناء الاجتماعي لسمعة هياكل الرعاية الصحية خلال حملة تلقيح هدفها الأول ضمان الانخراط الطوعي للسكان، بما في ذلك الشريحة الاجتماعية المتمتعة برأس مال تعليمي عالي. "زوجتي طبيبة أسنان تعمل في المستوصف. أخبرتني بأن الناس يتلقون اللقاح في مكان عملها دون أي صعوبات. هناك تردد في الإقبال على تلقي اللقاح لأنه لا يمكننا الحصول على معلومات واضحة حول عملية التلقيح. نذهب للتلقيح خوفاً من المرض حتى وإن لم يتم توضيح الآثار الجانبية. جرت جلسة التلقيح بشكل جيد، أنا راضٍ. قاس الطبيب ضغط دمي عدة مرات لأنني مريض بالسكري وضغط الدم"، يقول أحمد ( 62 سنةً، أستاذ جامعي) الذي تلقى الجرعة الأولى من لقاح سينوفاك في 11 تموز/ يوليو 2021.

تعوض المؤسسة العائلية جزئياً السلطات العمومية المحلية، وذلك عبر احتلال مكانة المجموعة المنظِمة لعملية التلقيح. توفر هذه المؤسسة المعلومات، وتتولى أحياناً توجيه الأقارب نحو هيكل رعاية صحية بعينه، تعتقد أن مدة انتظار تلقي اللقاح فيه أقصر.

هذا المجهود المعرفي الخفي، غير المعترف به والمجاني، الذي تقوم به العائلة يمكّن من تسريع عملية تلقيح الأقارب ضد الكوفيد، ويصبح جزءاً من اليومي الروتيني والعادي والبديهي الذي يعرّفه الفيلسوف الفرنسي هنري لوفيفر بأنه "حصيلة الأمور غير المهمة".

خلاصة...

يتسم مسار التلقيح في الجزائر بتباين الزمنيات الصحية - الاجتماعية. في مرحلة أولى، دامت حالة الترقب السياسي خمسة أشهر بسبب ندرة جرعات اللقاح والتباطؤ في عملية التلقيح. وهذا الوضع ليس منفصلاً عن الظرفية السياسية التي تداخلت فيها التقييدات على الحريات، وإرساء تدابير قمعية، وتنظيم الانتخابات التشريعية في 12 حزيران/ يونيو 2021. في مرحلة ثانية كثّفت السلطة مراكز التلقيح في عدة أماكن عمومية، منتهجةً سياسة إرادوية تسلطية ومسقَطة، لتعطي زخماً فورياً للعملية التلقيحية، وكانت منتجةً لعدة أشكال من اللاتكافؤ بين الأشخاص المحظوظين الحائزين على رأس مال علائقي، والمجهولين الذين فرض عليهم التيهان العلاجي. ثلاثة عناصر تقف وراء هذه الهبّة اللقاحية: المسؤولون الصحيون المدفوعون إلى الانخراط في الطوارئ التلقيحية، الخوف من الفيروس الجديد دلتا، وأخيراً الجهد المعرفي والدعم اللذان توفرهما العائلة لتشجيع أفرادها على إنجاز الفعل التلقيحي. 

______________

محمد مبتول: أستاذ باحث في سوسيولوجيا الصحة، وحدة البحث في العلوم الاجتماعية والصحة بجامعة وهران 2. له في الموضوع ذاته: "كوفيد-19، تعرية السياسي" الصادر عن دار النشر "كوكو"، الجزائر، 2021.

محتوى هذا المقال هو مسؤولية السفير العربي ولا يعبّر بالضرورة عن موقف مؤسسة روزا لكسمبورغ.

______________

1) جريدة لوموند الفرنسية، 11 و12 تموز/ يوليو 2021.
2) كانت السلطة الجزائرية تعلن بفخر عن العدد المنخفض لحالات العدوى الذي كان يتراوح ما بين 300 و350 حالة يومياً طيلة الفترة الممتدة من شباط/ فبراير إلى حزيران/ يونيو 2021. ثم أصبحت بدءاً من تموز/ يوليو 2021 مجبرة على الاعتراف بأن عدد الحالات أصبح يتجاوز الألف يومياً، كاشفة عن بلوغ المشافي طاقة استيعابها القصوى مع تدفق المصابين، وتصاعد الوفيات لتتجاوز العشرين حالة يومياً حسب الأرقام الرسمية 

مقالات من الجزائر